كانت ليلتي طويلة بصورة مملة، حتى ظننت أنها لن تنتهي، وفي الحقيقة فأنا لم أكن أرغب أن تنتهي! فهي آخر ليلة أقضيها في هذا البيت الذي عشت فيه أيام طفولتي وصباي ثم ورثته عن أبوي ! خمسة أعوام مضت منذ وفاة والدتي وأنا لا زلت مقيمة فيه, وحيدة بين جدرانه، أشتم عبير الراحلين، وأسترجع ذكريات طفولة حملت بين طياتها آمالا شتى لم أحقق منها شيء. ولكن؛ طاردتني في هذه الليلة تلك الأحلام المزعجة التي تطاردني منذ فترة وكانت السبب في اتخاذي قرار البيع والعيش في المدينة! أنفاس أمي تملأ المكان، تقسم علي ألا أغادر، لكنني أحتاج إلى المال، وأحتاج إلى شيء آخر، شيء لا تعرفه إلا فتاة مثلي، تخطت عامها الخامس والثلاثين ولا زالت تنتظر من يطرق بابها، طالبا أن تشاركه حياته بما تبقى من عمر! أخبروني أن بيتنا هذا قدم شؤم علينا جميعا، فأبي لم يجن فيه إلا المزيد من الفقر والجوع والحرمان، ثم عانت أمي فيه شظف العيش من بعده، وها أنا ذا من بعدهما أعاني الوحدة والحرمان ممن يؤنس وحشة أيامي الطوال! قالت لي أمي ذات يوم أن هناك من عملت لنا "عملا " ودفنته في عتبة البيت, وقضيت معها ليلة كاملة نبحث عن ذلك العمل لكننا لم نجد شيئا, لم نجن من ليلتنا تلك إلا السهر وتحطيم بلاط الصالة والذي كلفنا مبلغا لم يكن في حوزة أبي وقتها كي يصلح ما أفسدناه مما اضطره إلى بيع قرط كان يزين أذني فبكيت يومها بكاء شديدا.
غادر أبي إلى العاصمة بعد ولادتي بأيام بعدما هٌدِّد بالثأر! مأساة الكثيرين من أبناء الصعيد الذين قيدتهم أفكار وعادات ظالمة ! فلم يقتل أبي أحدا، لكنه من أبناء عمومة القاتل, والذي فعل فعلته وفر ولم يعرف أحد عنه شيئا، فر و فر معه كل شباب العائلة خوفا من الموت، ولم يتبق إلا الأطفال الذين سيفرون بدورهم أيضا حينما يكبرون, عندما يأت دورهم في تحمل وزر إثم لم يرتكبونه. لم تنجب أمي غيري، ولم يطلب أبي المزيد من الأبناء من أجل الحصول على الولد، فهو لا يريد أن يهدي الموت عصارة مهجته وشبابه . حمدا الله أنني أنثى, فلا ثأر على الأنثى, لكن؛ الأنثى تجلب العار_ هكذا كان يعتقد أبي _ كما زرعت في فكره جدتي التي لم تنجب إلا الذكور. كانت جدتي تتفاخر على الجميع بأنها أم الرجال ، وكانت عائلتنا لا تورث إلا الرجال، فورث جدي كل مال أبيه إلا النذر اليسير الذي تركه لأخواته من باب حفظ مراكزهن أمام أزواجهن، وعندما تزوج ابنها الأكبر لم ينجب إلا الإناث, وكان أبي يراها تنتجب عشية كل ليلة وقد لفها الظلام إلا من بصيص ضوء قادما من مصباح صغير يضيء الردهة الموصلة إلى غرفتها, كانت تجلس وحيدة في حجرتها قبل أن يقفل جدي عائدا من سهرته التي اعتادها كل مساء.
وكانت هي تغري عمي كل يوم بالزواج من أخرى، فابنة راعي الغنم لم تكن جميلة، كثيرات من هن أجمل منها ويتمنين الزواج من ابن الأعيان! لكنه كان يرفض بشدة, فهو يحب زوجته _ هكذا قالت لي أمي _ لكن جدتي كان لها رأي آخر !كانت تقول أن ابنة راعي الغنم قد سحرته حتى لا يرى غيرها! وكان عمي حقيقة لا يرى غيرها , كان يحبها حبا جنونيا , حبا يثير الشك والارتياب! حبا كانت تتقد منه جدتي غيرة و نارا كادت لتحرق الأخضر واليابس لولا سيطرة جدي عليها! وكان جدي رجلا عاقلا , قال لي أبي أنه كبير العائلة , يأخذ بمشورته الكبير والصغير من العائلات الأخرى, لكنه ابتلي بحب (النساء) فكان دائم السهر مع "الغوازي" في مقهي في أطراف القرية لا يرتاده إلا أصحاب الهوى و(المزاج ) .كان يحب واحدة اسمها" فتنة" وكانت اسما على مسمى, العجيب أن جدتي لم تأبه لأمر " فتنة " تلك قدر اهتمامها بزوجة عمي, وعندما سألها أبي عن ذلك قالت :
_ اللي بيعمله أبوك نزوة وهاتروح لحالها!
كان أبي يتعجب من رضاها بالمعصية بينما تنكر على عمي ما أحله الله له.
وعندما تزوج أبي لم ينجب سواي، صرخت جدتي وقالت أن لعنة قد حلت عليهم، وأن هناك من تكيد لهم حتى تنتزع الأرض منهم لأبنائها،!
سألت أمي ذات يوم هل حقا بنت راعي الغنم سحرت عمي ؟!
صمتت أمي ولم تجب، وبعد عام قالت:
_ سحرته بالحب!
_وأبي ، مين سحرته؟؟
مسحت دمعة أطلت على غير رغبة منها بطرف كمها ثم لكزتني في فخذي كي أكف عن الثرثرة وأنهي أعمال البيت.
عرفت يومها لماذا لم ينجب أبي غيري، حتى بعدما عاد من غربته وقد سقط الثأر بأخذه من القاتل، لم أره يتودد إلى أمي كما يتودد عمي لابنة راعي الغنم!
مات عمي الأكبر، وأراد أبي أن يتزوج زوجته حفظا لبنات أخيه، بكت أمي وقالت :
_كاذب
وصرخت جدتي وقالت:
_ سحرت بنت الراعي أولادي وراح تكتلهم الواحد بعد الثاني!!
عرفت من دموع أمي أن أبي كان يحب ابنة راعي الغنم كما أحبها عمي، لكنه كتم حبه ليتعذب به وحده، وعندما واجهته لم ينكر.
فقدت جدتي بعدها الوعي أياما وعندما أفاقت لم تكن تنطق أو تتحرك ، قال الطبيب أصابتها جلطة فأقعدتها، وعندما دخل عليها أبي أشاحت بوجهها عنه ففهم أنها سمعت ما كان بينه وبين أمي، فترك أبي بيت أبيه واشترى دارنا هذه التي أودع ذكرياتي فيها الآن، لم يتزوج أبي زوجة عمي ولكنه لم يعد زوجا لأمي، وإنما ظل حبيس وجده على حبه الموءود.
بعد عام ماتت جدتي، وفي اليوم الثالث بعد وفاتها عقد عمي الأصغر على ابنة راعي الغنم التي كانت لا زالت تعيش بينهم في دار جدي تخدم جدتي رغم بغض الأخيرة لها.
كيف تسحر المرأة الرجل بالحب ؟ سؤال ظل يتردد في خاطري أياما طوال، دخلت الجامعة في محافظة مجاورة وقضيت أيام دراستي مقيمة ببيت خالتي التي كانت تعيش هناك، كان لديها ثلاث بنات وولد واحد عمل مهندسا للبترول في إحدى محافظات انتاج النفط، وكان لا يأتي لزيارة خالتي ألا على فترات متباعدة، أحببته رغم لقاءاتنا القليلة، وخلت أنه يحبني فبنيت في مخيلتي بيتا لنا معا لبناته الحب والشوق والانتظار. صارحته فأدهشته جرأتي، سألت أمي :كيف سحرت بنت راعي الغنم ثلاثة اخوة؟
أجابت بصوت كسره الحزن والحرمان :حاجات ما تعملها إلا السحارة!
زرت ساحرة في اطراف قرية مجاورة وطلبت منها العون قالت:
_هاتي قتره
أحضرت لها قميصا دسسته، وفيه عطره ورائحة عرقه، وبعد عام تزوج زميلته في العمل، بكيت كما لم أبك في حياتي قط، ملأ الغل قلبي فدعوت عليه ألا يهنأ يوم، بعد اسبوعين ذهبت أنا وأمي لتقديم واجب العزاء لخالتي في ابنها وزوجته، اللذان دهستهما سيارة نقل كبيرة وهما عائدان من إجازة شهر العسل، منذ ذلك اليوم عرفت أن القلب هو منبع كل شيء، هو السحر الحقيقي، فلم تكن رغبتي في الحب أكبر منها فى الانتقام، فكان الإنتقام!
كيف سحرت ابنة الراعي الإخوة الثلاثة ؟سؤال ظل يتردد في رأسي حتى صرت أسمع له أزيزا كأزيز القدر على النار، فذهبت الى بيت جدي وكنا قد قاطعناه منذ مدة، قابلتني ابنة الراعي بوجه طلق بشوش وابتسامة ساحرة ، وماكرة ، كأنها تعلم فيما أتيت، جلست مع جدي وكان لا يغادر فراشه بعد وفاة جدتي، بكى لانقطاعنا عنه طيلة هذه المدة، قبلت يديه معتذرة وقلت :الله يجازي اللي كان السبب! ونظرت نحو التي استقبلتني من قبل فمطت شفتيها مستنكرة قولي وهمت قائمة وهي تقول
_أعملك حاجة تشربيها
لم أرفض وإنما تركتها تغادرنا وتتركني مع جدي الذي قال
_ غيرة النسوان تخرب البيوت يا بنيتي، والقلب مأمور والانسان ماشي طوعه، وربك اما بيدي لواحد ما حدا يقدر يمنعه، ودي )ثم اشار يقصد ابنة راعي الغنم) ربنا عطاها قلب يتحب .
سمعت منه كلاما كثيرا وحكايات شتى، رأيت بعيني حب عمي الأصغر لمن كانت حبيبة أخيه الأكبر ومن بعده أبي، سألت نفسي لماذا هي بالذات؟ لم أجد جوابا وإنما شعرت برغبة في الانتقام، انتقام لأمي وجدتي اللاتان أزهق الحزن روح إحداهما وسعادة الأخرى
تعلمت أن إخفاء حقيقة مشاعري هي أولى خطوات تحقيق الهدف، فأبديت الحب وأخفيت الكراهية، والحب والكره لا يخفيان على أصحاب القلوب الطيبة، فشعرت ابنة راعي الغنم بكرهي لها لكن من حولها أقنعوها بمحبتي فصدقتهم وكذبت قلبها. عرفت وجهتي من اللحظة الأولى وتعلمت كيف أوغر صدور المحبين على بعضهم البعض، فكما فقدت حبيب لا يجب ان تهنأ غيري بحبيبها ، أوهمني شيطاني أنني من أهل الإيمان فأنا ذات دعوة مستجابة، فلبست ثوب الطهر ودنست ثياب الأخريات، وآتت شجيرتي أكلها، فكان كالحنظل في أفواه الكثيرات، حلو المذاق في فمي، كلما رأيت شقاقا بين متحابين ترقص الدنيا أمام عيني، فدموع الفراق كانت غذاء لروحي المتعبة، وكما كانت ابنة راعي الغنم سببا في هجر أبي لأمي، كنت أنا سببا في هجر عمي لها. زينت له غيرها فأشعلت ما كان قد خفت في قلبه من لذة الحب، وعاد كأنما خلع لتوه ثوب كهولته وارتدى ثوب الفتوة والشباب، فرأيته كالمراهقين ينتظر محبوبته تحت لهيب الشمس لساعات كي يحظى منها بنظرة، ورأيت دموع الانكسار في عيني زوجته، رأيت انكسار أمي ولوعتها تتقلب هي على نارها في ليل طويل بارد لا يدفئه وصل حبيب كان بالأمس يسكره الغرام.
انسل العمر من بين يدي وأنا استمتع بعذاب الأخريات وما انتبهت إلا وقد دب الشيب بأولى خطواته في مفرقي ونظرت فإذا بي في منتصف عقدي الرابع وحيدة بغير صديق ولا حبيب، يطاردني سوء عملي كلما خلدت إلى نفسي، فتمنيت أن أهجر نفسي وأرحل بعيدا عنها ، ولكن هيهات، فهي معي أينما حللت !
ولكن لا بأس، إن كنت لن أستطيع مفارقة روحي، فلتفارقني الأماكن، لعلي أغسل منها ما لطخني فيها وأنسى ما كان.