ذات جلسة علاج، وبعد الانتهاء من جلسة الكيماوي، حاول (مازن) تلطيف الأجواء وهو يقول: ما رأيكن بنزهة نيلية قصيرة؟ (شذى) بابتسامة باهتة: كم أتمنى ذلك حقًا! لتستطرد قائلة
بوهن: لَكَم ِ اشتقت إلى البحر والسير على الرمال حافية القدمين..
لتنظر نحو والدتها وهي تقول بصوت خفيض: أتذكرين يا أمي عندما اصطحبنا أبي ذات مصيف إلى مدينة اللاذقية!
الأم وهي تحتضن كفها برفق وحنو: نعم يا (شذى)، وهل مثل هذه الأيام يمكن أن تُنسى! لتقول بثقة وهي تمنحها ابتسامة ودودة: وإن شاء الله عندما نعود ذات يوم عساه قريبًا ستصطحبين (مازن) بنفسك إلى هناك، لتعيشا تلك اللحظات معًا وسويًّا. قالت هذا وهي تغالب بعض دموع تحررت من مقلتيها غصبًا.
(شذى) وهي تضغط على يدي والدتها وبصوت متهدج: أتمنى
ذلك يا أمي، أتمنى أن يتحقق ذلك إن شاء الله.
(مازن) بحماس: إذًا فلنذهب الآن بنزهة نيلية وسوف...
قاطعته (شذى) بإرهاق: ليس الآن يا (مازن)، ليس الآن، ربما بوقت آخر.
كانت والدتها تدرك ما يعتري (شذى) من متاعب صحية وآلام لا تُحتمل، جراء جرعة الكيماوي فهي وما إن تعود للمنزل حتى يبدأ نوع آخر من المعاناة، فمعدتها لا تبقي أي شيء بداخلها؛ لتدخل بمرحلة طويلة من الغثيان، كما أنها تنام لفترات طويلة إثر كل جرعة، لهذا وجهت حديثها إلى (مازن) بود وهي تقول: لِنَعد إلى البيت
الآن يا بني.
وفي طريق عودتهم نظرت (شذى) نحو (مازن) وأمها، وهي
تقول بصوتها الواهن: هل تعلمين يا أمي أنه عندما أتت تلك الرسالة
من سورية قد راودني الأمل.
(مازن) بدهشة اعترت ملامحه، وهو يقطب ما بين حاجبيه متسائلًا: عن أي أمل تتحدثين يا (شذى)؟
والدة (شذى) وكأنها توفر على (مازن) تماديه في تساؤلاته
وشكوكه، وعلى (شذى) عناء الشرح والحديث، وقد أدركت هي
باعتبارها أمًّا، وبفطنتها ما ترمي إليه، لتقول بود: سأخبرك يا بني،
فلقد لاحظت دهشتك من ابتسامتها عندما أوقفنا إجراءات عقد القران.. استطردت تقول بحنو وود: (شذى) فكرت أنه ربما، وبما
أنه لا يوجد جثمان لـ (باسل)، ولم يتم إثبات موته، فقد يكون ما زال على قيد الحياة.
للحظات تلعثمت الكلمات فوق شفاه (مازن)، وقد أدرك أنه أمام فتاة استثنائية، لا تشبه غيرها من الفتيات، فتاة تحترم الحياة
الإنسانية وتقدس الروح البشرية، وتشعر بآلام الآخرين، تتألم وتفرح من أجلهم.
لتقاطع (شذى) استرساله بأفكاره، وهي تقول بصوت متهدج: كم دعوت الله أن ينجيه ويعيده لأبيه، ولنا سالمًا، وأن ينجي
الجميع من ويلات هذه الحرب الظالمة.
أمّن (مازن) ووالدتها على عبارتها بقولهما: آميييين.
عاد الجميع إلى البناية وتوجهوا مباشرة إلى شقة (شذى) ووالدتها؛
حيث تتواجد والدة (مازن) بصحبة (روان) شقيقة (شذى)، وما
إن أدارت والدة (شذى) المفتاح بالباب، ودلفوا إلى الداخل حتى
تسمرت أقدامهم وتباينت المواقف وتفاوتت المشاعر، فبجانب
والدة (مازن) والصغيرة (روان) كانت تقف فتاة بمنتصف العقد
الثالث من عمرها، لتتقدم (شذى) وهي تستند إلى يدي والدتها
مرحبتين بالضيفة، بينما تسمر (مازن) بمكانه في ذهول من وقع المفاجأة، وهو يتجول ببصره ما بين الفتاة وبين والدته و(شذى).
قطعت الفتاة حبل هذا الصمت، وهي تقول بابتسامة ودودة: ما هذه المقابلة يا (مازن)؟ ألن ترحب بابنة خالتك!
تلعثم (مازن) وهو يقول بصوت مرتبك: (سمر)! أنت هنا! متى وصلت إلى مصر؟ وأين (عادل)؟
والدة (مازن) بحزن بدا بنبرة صوتها، وهي تقول: فيما بعد يا بني... لتقول بنبرة لا تخلو من الحزن: لنصعد ِ الآن حتى ترتاح (شذى) وسأخبرك بكل شيء.
ليغادر الجميع إلى أعلى بعد أن أوصى (مازن) والدة (شذى) بأن
تهتم بتغذيتها جيدًا، وأن تتناول الأدوية بانتظام وبوقتها.
l
ما إن دلف الجميع إلى الداخل وأصبحوا بشقة (مازن)، حتى
كرر سؤاله وهو يستفسر عن سر حضور (سمر) بغير موعد إجازة
زوجها كونه مدرسًا بالإمارات.
(سمر) وكأنها تلقي بقنبلة شديدة الانفجار وبابتسامة باهتة: لقد
انفصلت عن (عادل) يا (مازن).
لحظات من الصمت والوجوم حلت على الجميع، و(سمر)
تبتسم وهي تقول: إنه القدر والنصيب.
(مازن): ولكن كيف؟ ولماذا؟
(سمر) وهي تعود بمقعدها إلى الوراء: أما كيف، فمثل كل
الناس، طلبت الطلاق واتفقنا على كافة التفاصيل، وقد كان، أما لماذا فربما يحتاج شرح ذلك إلى ساعات طويلة، وربما لأيام والكثير من أكواب القهوة حتى أخبرك كيف ولماذا.
والدة (مازن) وهي تتوجه لعمل القهوة، وتردد بصوت هادئ:
صدقت ِ يا بنيتي، فهو القدر والنصيب والذين لا مفر منهما.
ما إن غادرت والدة (مازن) لإعداد القهوة، حتى نظرت (سمر)
إلى (مازن) وهي تقول: لقد أخبرتني خالتي بكل شيء.
(مازن) وهو يحاول أن يخفي دموعه: حالتها خطيرة للغاية يا (سمر)، وإذا لم تسافر وبسرعة لإجراء الجراحة فستتضاءل فرص
نجاتها، ولن يكون لديها أي فرص أخرى للحياة.
(سمر): لا تقلق يا (مازن)! صدقني كل شيء سيكون على ما يرام، وستتعافى (شذى) وتصبح بخير، ولا تنسى أن الحب قادر على صنع المعجزات.
(مازن) محاولًا تغيير دفة الحديث: ولكنك لم تخبريني بعد لماذا حدث الطلاق بينكما؟
(سمر): سأخبرك يا (مازن).. سأخبرك بكل شيء لأنك صديقي المقرب، ولأنك ابن خالتي وأخي، ولأنك...
صمتت لبرهة ابتلعت خلالها ريقها، وغصة علقت بحلقها، وهي
تقول: ولأنك ستفهمني.
عادت مرة أخرى إلى الوراء، وهي تقول بصوت حزين: عندما وافقت على زواجي من (عادل) ظلمته معي قبل أن أظلم نفسي، فأنا
عندما وقعت على وثيقة الزواج كنت أوقع قرار عذابي ومعاناتي، بل ربما كنت أوقع قرار موتي وجعًا وقهرًا، ولكنني وقتها كنت أشعر بجرح غائر يمزق روحي وكرامتي، كنت أود الابتعاد عنك والهروب منك قدر المستطاع.
ابتسمت وهي تقول: ولكنني كنت غبية، فقد ابتعدت بجسدي فقط، وبقيت روحي عالقة هنا؛ حيث يتواجد قلبي.
صمتت للحظات لتبتلع ريقها وهي تشيح عنه بنظرها بعيدًا لتقول:
لك أن تتخيل كيف تظل الروح عالقة، فلا هي حيث تنتمي، ولا
حيث تمنت، وهو أمر لو تدري عظيم وشعور مميت..
(مازن): هل أساء (عادل) إليك؟
(سمر): بالعكس.. (عادل) شاب نبيل تتمناه أي فتاة تبحث عن الاستقرار، فهو طيب جدًا ولأبعد مدى، كما أنه ودود ولم يسئ إلي ّ طوال فترة زواجنا ولو بكلمة واحدة، أو حتى بنظرة من عينيه، ولكن يا (مازن) ولا أدري إن كنت ستدرك هذا، كانت هناك فجوة
عميقة بيننا لم أستطع تجاوزها وهوة سحيقة لم أستطع عبورها.
نظرت إليه ودموعها تنساب من عينيها عنوة، وهي تقول: حقًا حاولت يا (مازن)، أقسم أنني حاولت قدر جهدي وطاقتي، ولكنني
فشلت.. نعم فشلت.. ومعنى استمراري بذلك هو ظلم لـ (عادل) وظلم لروحي.
استطردت قائلة: لقد أدركت بالنهاية أنني يجب أن أتحلى بالشجاعة، لأتخذ قرارًا تأخر كثيرًا حتى لا أظل بزواج يقتل روحي،
ويقتات عليها كل يوم، ويطبع على قلبي الألم مع كل نبضة.
صمت (مازن)، لا يدري كيف يجيب عليها، فهل يواسيها عما لاقته أم يعتذر كونه من سبب لها هذا الألم! قطعت (سمر) استرساله
لتقول: هل كان يجب علي ّ أن أكمل هذا الزواج فقط لإرضاء أمي؟! حتى أنت لم ترض ِ أمك على حساب مشاعرك، أم خوفًا من كلام الناس وحتى لا أحمل لقب مطلقة، كما أنك تعلم مثلي تمامًا
أن كلام الناس لن يتوقف بجميع الأحوال، حتى وإن حرصنا، فهم
لن يتوقفوا.
(مازن) وهو يشعر بالحزن والأسى من أجلها: حقًا لا أدري ماذا أقول يا (سمر) فأنت...
(سمر) وهي تشير إليه بأن يصمت: وفر كلماتك يا (مازن)، فأنت لست مسؤولًا عما حدث أو سيحدث لي، فلا أنت ولا أنا
نمتلك مشاعرنا أو حظوظنا بالحياة، ولو كنت سألومك فيما أعانيه الآن، فسأكون أنا أيضًا الملامة عما سببته لـ (عادل) من
معاناة.. أردفت تقول بوجع: صدقني يا (مازن)، بعد ما مررت به،
وبعد تجربتي المريرة، أدركت أنك كنت محقًا فيما ذهبت إليه.
لتستطرد قائلة: ربما وقتها كنت أشعر بالحنق والغضب لظني أنك
فضلت علي ّ فتاة أخرى، وهو شعور لن تفهمه ولا يفهمه إلا من اختبره وعاش قسوته، وكم وددت وقتها لو أنني أرد لك الصفعة
وبقوة! وربما هذا ما جعلني أسارع بإتمام الزواج من (عادل) والسفر إلى الإمارات. نظرت نحوه وهي تبتسم بتهكم لتقول:
أظن أننا أصبحنا هكذا متعادلين، فلا تحمل نفسك ما لا تطيق.
ابتسمت بوجع وهي تقول: لكل منا حلم يظل يترعرع بقلبه
وينمو بروحه، كالنبتة نرعاها بخيالنا ونسقيها من مشاعرنا بانتظار
حصاد ثمرتها يومًا ما، قد يطول انتظار هذا اليوم، وقد لا يأتي أبدًا .. قد تذبل وتموت النبتة قبل أن تنضج الثمرة، وقبل أن يأتي
موسم الحصاد، ولكن يكفي أننا عشنا ذلك، ولو على سبيل الحلم
والخيال.. يكفي أننا حلمنا ودعونا وانتظرنا حتى النهاية وحتى
قال القدر كلمته الأخيرة…
(مازن) بتلقائية وبصوت عميق، وكأنه يأتي من بئر سحيق، وهو يردد بثقة ويقين: نعم يا (سمر) هو كذلك، نحن نحلم ونتمنى
ونطلق خيالنا لأبعد مدى بانتظار أن تتحقق أحلامنا، وبإنتظار هطول موسم الأمنيات، ونجاهد لنأخذ نصيبنا من الحياة، عساها تطيب لنا بمن نحب، ومع من نحب.
يتبع






































