ما إن ردد (مازن) عبارته مؤمّنًا على كلمات (سمر) بقولها ولكنه القدر، حتى عادت والدته تحمل أكواب القهوة بين يديها، وهي
ترحب بـ (سمر) بعد أن تعمدت التأخير، حتى يتم تنقية الأجواء فيما بينهما.
(مازن) بتساؤل: لم تخبريني يا (سمر) عن خططك المستقبلية،
وهل ستعودين إلى منزل الأسرة بالإسكندرية للإقامة مع خالتي أم
أنك ستقطعين إجازتك وتعودين لعملك السابق، كونك اختصاصية
نفسية بمستشفى الطب النفسي؟
(سمر) وهي تبتسم ابتسامة ذات مغزى قائلة: لقد اشتقت إلى الحديث مع المرضى، وإخراجهم من عزلتهم، وإعادة دمجهم بالحياة مرة أخرى.
والدة (مازن) بتنهيدة خافتة: حمدًا لله أن شقتك بالطابق العلوي ما زالت شاغرة، ولم يتم تأجيرها حتى الآن.
(سمر): هذا من حسن حظكم، وإلا فمما لا شك فيه أنني كنت سأصبح ضيفة ثقيلة الظل عليكم.
أتبعت ذلك بابتسامة ذات مغزى، وهي تتطلع إلى (مازن) الذي قال بود: تعلمين أنك لست كذلك، وأن وجودك بجوار أمي يطمئنني عليها.
l
وفي اليوم التالي....
توجه (مازن) ليصطحب (شذى) و(روان) إلى دار الأيتام كعادتهما كل أسبوع، وما إن دلف (مازن) إلى الداخل حتى رحبت
به والدة (شذى)، وهي تقول لقد أثقلنا عليك يا بني.
(مازن): لا تقولي هذا يا خالتي، فنحن أصبحنا أهلًا، كما أن (شذى) مخطوبتي، وكل ما يسعدها يسعدني.. استطرد قائلًا
بصوت حان ٍ : وإن كنت أخشى عليها من الإرهاق والتعب... ليأتيه
صوت (شذى) من بعيد معاتبة له والابتسامة لا تفارق شفتيها، وهي
تقول وقد قطبت ما بين حاجبيها: دعك مني أيها الكسول، وقل إنني أيقظتك مبكرًا على غير عادتك بيوم عطلتك.
ابتسم (مازن) وهو يحتضن ملامح وجهها الملائكية بعينيه قائلًا
بمزاح: لو أنك ألقيتي نظرة منذ ساعة أمام الباب، لوجدتيني نائمًا
بانتظار سموك... أعقب قوله هذا بضحكة طويلة توردت معها
وجنتي (شذى) حبًّا وخجلًا.
وما هي إلا دقائق حتى كان الجميع بسيارة (مازن)؛ حيث جلست (شذى) بجوار مقعد السائق بينما والدتها و(روان) بالمقاعد
الخلفية.
طلبت والدة (شذى) من (مازن) أن يقوم بإيصالها إلى المصرف أولًا لسحب بعض الأموال على أن يذهبوا هم لدار الأيتام، وستعود
هي إلى البيت عندما تنتهي من قضاء حاجتها.
بعد نزول والدتها من السيارة طلبت (شذى) من (مازن) التوجه إلى إحدى المكتبات الضخمة، والتي تعرض بجانب الأدوات
المكتبية الدمى والكثير من ألعاب الذكاء للأطفال، ومن هناك
اشترت الكثير من علب الألوان وكراسات الرسم ولعب المكعبات،
وبعض الدمى التي تستهوي الأطفال وتدخل السرور على قلوبهم، كذلك قام (مازن) بشراء الكثير من الملابس للأطفال وبعض
الحلوى وتوجهوا جميعًا إلى هناك، وما إن وصلوا إلى حديقة الدار حتى بدأ الاحتفال؛ حيث التف الأطفال من حول (شذى)، وقد
أَلِفُوا وجودها وتعودوا عليها وأحبوها، بينما جلس (مازن) يراقب ما يحدث عن كثب وهو يحدث نفسه قائلًا: يا لك من طفله رائعة!
كانت (شذى) ومعها (روان) تمرحان مع الأطفال: ترسمان
وتلونان وتلعبان بالكرة، حتى إن من يرى (شذى) في تفاعلها مع
الأطفال يعتقد وكأنها لا تعاني من أي مرض.
أما (شذى) فقد نست، أو ربما تناست لبعض الوقت كونها
مريضة بمرض يخشاه ويفر منه الجميع وكأنه عدوى أو وباء لا شفاء
منه أبدًا..
مر الوقت سريعًا، ولم يود (مازن) أن يتدخل أو يوقفها، وهو يرى مدى فرحتها وسعادتها لتنساب الدموع من بين مقلتيه، وهو
يتذكر ذلك المرض الخبيث، والذي يستشري بجسدها بلا رحمة أو شفقة، لم يقطع ذلك الصخب بين (شذى) والأطفال واسترساله بتلك الأفكار المؤلمة، سوى صوت المشرفة وهي تدعو الأطفال لتناول وجبة الغداء؛ حيث إن وقتها قد حان.
رفض الأطفال في عناد محبب الامتثال للأمر، لولا (شذى)، والتي قالت لهم بحب: ألم تخبروني أنكم فتية مطيعين تسمعون
الكلام ما دام لمصلحتكم! ألم تخبروني أنكم ستهتمون بصحتكم
ودراستكم حتى تصبحوا يافعين وتخدمون أوطانكم! أعقبت كلامها بقولها: هيا ستذهبون الآن لتناول الغداء، وكما وعدتكم سنلتقي قريبًا جدًا إن شاء الله.
التف الأطفال من حولها يتمسحون بها ويودعونها بالقبلات وبالابتسامات، وما إن انصرفوا بعد أن حصل كل منهم على حصته
من الألعاب والملابس، حتى حضرت مديرة الدار لتشكرهم على
مشاعرهم النبيلة، وهي تقول: ليت الجميع يحملون قلوبًا نقية مثل
قلوبكم، لما كانت الشوارع تمتلئ بمثل هؤلاء الأطفال، فيعانون
ويتألمون، ومن ثم يتحولون إلى قنابل موقوتة قابلة للانفجار بوجه
المجتمع في أي وقت.
(شذى) بخجل وود: إنه واجبنا نحوهم... أردفت قائلة: من
يدري، ربما نحن محظوظون لتواجدنا ببيت وأسرة مع من يهتم
بنا ويرعانا، وقد كان من الممكن أن نكون هنا بينهم، فهم بالنهاية
لم يأتوا بإرادتهم، ولكنهم ضحايا لظروف لم يصنعوها أو يشاركوا بها. لتؤمِّن مديرة الدار بقولها: هو كذلك يا ابنتي! هو كذلك!
(مازن) مغيرًا دفة الحديث، وهو يقول لمديرة الدار: يسعدني تقديم جميع الأدوية وما تحتاجون إليه من إسعافات أولية بأي
وقت وبالمجان.. أعقب ذلك بوضع بطاقة بين يدي مديرة الدار
بها أرقام الصيدلية، وهو يقول: مع خدمة التوصيل أيضًا حتى هنا.
يتبع






































