كان مازن بالأعلى ينتظر من أمه وسمر أن توضحا له ما حدث، عندما قالت أمه بصوت متهدج:
تعلم يا بني أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وأن الله، ولحكمة لا نعلمها، قد يقرب منا شيئًا وقد يبعده، وأن رقابنا تنحني لقضاء الله ولقدره.
هنا أدرك مازن أن الأمر جد خطير، بل هو، ومما لا شك فيه، حدث جلل، وأنه على وشك سماع ما لا يود سماعه أو يطيقه.
سمر، وهي تنظر إلى عيني مازن مباشرة، وكأنها تود أن تستشف ردة فعله:
أعلم أنك إنسان قدري يا مازن، وأنك قوي وقادر على تجاوز أصعب الأمور وأقساها.
مازن، وهو يتجول ببصره بينهن قائلًا:
هل ستخبرني إحداكما سبب هذه المقدمة الطويلة؟ هل هناك شيء حدث بغيابي؟ من فضلكن، إما أن تخبراني ماذا حدث، أو أتركاني لألحق بشذى لأطيب خاطرها و……
قاطعت سمر عبارته بقولها بعد تنهيدة طويلة:
انتظر يا مازن، فما حدث وما ستعرفه لم يكن يتوقعه أي أحد منا، مهما تجاوز بخياله.
كان مازن يقف بين والدته وسمر مذهولًا، لا يدري لماذا كل هذه الأحجيات والألغاز التي يتفوهان بها دون الدخول مباشرة في الموضوع، ليتساءل بقلق: ترى ما هو ذلك الأمر الذي يمهدون له منذ حضر؟ وما هي تلك القنبلة التي سيلقيانها بوجهه ويخشيان عليه من توابعها؟ عاد من تفكيره وتساؤلاته، وهو ينظر نحوهما مباشرة ليقول بحدة وغضب:
هل ستتحدثان الآن أم ستتركاني لألحق بشذى؟
كانت شذى تستمع إلى والدها الذي يتحدث بجدية وحذر، بينما هي ما زالت تتشبع من ملامحه ورائحته، وفي الوقت نفسه تنصت إلى كل حرف يقوله فقط لتسمعه، دون حتى أن تعي ما يقول. فهي كانت تشعر نحو والدها بحنين لا ينتهي أبدًا، وكيف ينتهي، وكل شيء في غيابه بلا طعم، حتى الأيام مرت عليهما بغيابه ثقيلة ومملة. تذكرت كيف كانت تسافر إليه يسبقها الحنين.
وآه من السفر على متن الحنين، فهو غير آمن، فالإقلاع مفاجئ، والهبوط اضطراري، والأجواء دومًا ملبدة بالضجيج...
انتبهت إلى صوت والدها، الذي صمت لبرهة، وكأنه يعيد ترتيب العبارات برأسه قبل أن يتفوه بها لسانه، ليقول في النهاية متوجهًا إليها بالحديث بصوت مرتبك، جاهد كثيرًا أن يغلفه باللين، وكأن الكلمات تأبى مغادرة حنجرته أو ينطق بها لسانه.
استجمع كل قوته ليقول بحسم، وفي عبارة واحدة:
أنا لم أعد وحدي يا شام، لقد عدت ومعي باسل ابن عمك.
للحظات كادت شذى تقفز فرحًا بسعادة غامرة، وهي تقول:
حمدًا لله الذي استجاب لدعواتي ورد باسل إلينا ولكل أحبته بالسلامة.
والدتها بحيرة وقلق:
نعم يا بنيتي، بالطبع نحمد الله على نجاته، وكم سعدت بهذا الأمر وسجدت لله شكرًا، فهو مثل ابني، كما أنه شاب نقي وصالح، ويعلم الله أنه عزيز على قلبي مثلكم بالضبط.
شذى بلهفة وتساؤل:
وأين هو الآن؟ لماذا لم يأتِ معك يا أبي؟ كم أود رؤيته والاطمئنان عليه!
والدها، وهو ينظر إليها بحب وشفقة وتساؤل:
مهلًا حبيبتي، وقبل أن يأخذك الحماس، هل فكرتِ جيدًا بمن ستلتقين يا شام، أم أن السعادة والفرح أخذاك فنسيتِ من يكون باسل بالنسبة إليك؟ هل تعلمين من هو حقًا؟
شذى:
نعم، هو أخي وصديق طفولتي ورفيق دربي، وقبل كل هذا هو ابن عمي.
الأب بحسم:
كما أنه زوجك يا شام، أم أنك تناسيتِ حقًا أنه زوجك؟
للحظات صمتت شذى شاردة، كما خبا ذلك البريق بعينيها، وهي تجلس في صدمة مفاجئة وقد باغتتها عبارة أبيها، وهي تردد بحزن:
مازن! مازن!
لتنظر نحو والدتها شاحبة الوجه، وهي تقول وكأنها تسأل وتجيب عن سؤالها:
الآن فهمت يا أمي، من أجل ذلك رفضت والدته نزوله معي إلى هنا، أليس كذلك؟ هما أيضًا يعلمان بأمر باسل؟ لقد علما بالأمر يا أمي، أليس كذلك؟
والدتها، وهي تومئ برأسها إيجابًا:
نعم يا بنيتي، لقد عاد والدك صباح اليوم فقط، ولم أود إخبارك بذلك، خاصة وأنا أعلم بعودتكما اليوم.
شذى بحب ولهفة:
يجب أن أصعد إلى مازن الآن، لا يجب أن أتركه وحيدًا يا أمي.
وما إن همت بالذهاب إلى مازن، حتى قال والدها بحزم:
مهلًا يا بنيتي، تمهلي يا شام. يجب علينا أن نتريث قليلًا، حتى نعلم ما يجب علينا فعله أولًا، فلا نخالف الشرع والعرف أو نقع في المحظور يا بنيتي.
شذى:
لم أفهم يا أبي ماذا تقصد بقولك هذا؟ فالأمر عندي واضح جلي ولا لبس فيه، وعودة باسل ووجوده على قيد الحياة أمر يسعدني، ولكنه لن يغير من واقع الأمر شيئًا.
استطردت تقول بحب:
مازن هو زوجي وهو اختياري الأوحد وقراري النهائي، أما باسل فهو بالنسبة إلي أخي وابن عمي فقط، وجميعكم تعلمون ذلك منذ البداية.
قالت هذا وهي تنظر نحو أبيها برجاء وتوسل، وكأنها ترجوه أن يسمح لها بالذهاب إلى مازن والتخفيف عنه بمثل هذا الموقف، ثم نظرت نحو أمها بعتاب وهي تقول:
أليس كذلك يا أمي؟ أخبريه يا أمي، أخبري أبي، أم أن لديكما شكًا بذلك؟
يتبع






































