مرت الأيام بين (مازن) و(شذى) بمشاعر متناقضة، ما بين حب
وعشق تجاوز الخيال وخوف وألم تجاوز حد الاحتمال، ومع كل
يوم يمضي كان (مازن) يتأكد أن قلبه قد تعلق بـ (شذى) أكثر من
اليوم الذي مضى، كانت روحه تحن إليها وتشتاق حتى وهي بجواره،
أدرك أنه وأخيرًا قد وجد فتاة أحلامه، تلك الفتاة التي تكتمل بها روحه وينبض لها قلبه، فتاة لا يتخيل غيرها رفيقة لدربه وأمًّا لأبنائه، يفخر ويفخرون بها، شعر وكأنها منحة من الله وهدية أهداها له القدر عندما وضعها بطريقه، وكأن كل ما حدث قد حدث فقط لتتقاطع طرقهما ويتلاقيا، رغم الألم ورغم الوجع.
أصبح (مازن) بهذه الفترة مقربًا جدًّا من الأسرة كلها، فوالدة (شذى) تعتبره ابنها الذي لم تنجبه، لما يمتاز به من خلق ودين، فهو
أبدًا لم يصدر منه ما يسيء لها ولأسرتها فعلًا أو لفظًا، بل كان شابًّا
من طراز فريد، وكأنه لا ينتمي لجيل الشباب بهذه الفترة العصيبة، والتي أعقبت ثورتين متضادتين، مرحلة تهاوت فيها القيم وبرزت
السلبيات، وتغيرت المفاهيم، وتلاشت الثوابت التي تربت عليها أجيال تلو أجيال، نعم هو شاب من ذلك الزمن الجميل، ولا ينتمي
إلى هذا الجيل المغيب، والذي وللأسف قد تم تغييبه بفعل فاعل
ولأهداف خبيثة.
l
ذات يوم، وبجو عائلي جمع بين الأسرتين، تطرق الحديث إلى العادات والتقاليد، ووجه الشبه بين الحياة بالشام والقاهرة، فتحدثت والدة (شذى) بود وحب وهي تقول أنها تربت على حب
مصر وعشقها لما كان والدها يعمل بالجيش السوري ويحب عبد الناصر، بل ويعشقه كما أنه كان قوميًّا ومؤمنًا بالوحدة والقومية
العربية، ابتسمت ابتسامة خفيفة وهي تقول: بهذه الفترة تسمى
الكثيرون من الشوام باسم جمال، حتى إن كل من كان اسمه جمال كانت كنيته أبو خالد، كناية عن كنية جمال عبد الناصر
بابنه خالد.
تنهدت وهي تقول: كان حلمًا جميلًا صدقناه وعشناه
بكل جوارحنا، حتى أفقنا على النكسة وعار الهزيمة، وقتها فقط أدركنا أنه تم خداعنا بتزييف الحقائق من خلال تغييب العقول من
خلال الإعلام المضلل لنتلقى أقصى صفعة.
والدة (مازن) وهي تؤمّن على كلامها: صدقت ِ كان حلمًا لم يكتمل.. لتستطرد قائلة: ولكن وحتى بعد الانفصال، ورغم كل
شيء، وتلك الخلافات بين القيادات السياسية بالبلدين، فلقد ظل
التقارب والنسب والمصاهرة.
(مازن) بحزن وألم: كانت حقبة مليئة بالأوهام والأكاذيب.
(نسرين) وكأنها تغير دفة الحديث: لم أخبركما كيف حضرنا إلى هنا. استطردت قائلة وقد نجحت بجذب انتباه الجميع: حتى يومنا هذا مازالت تعيش بيننا الكثير من الأسر المصرية، فهناك الكثيرات من المصريات
منهن من تزوجن من سوريين، وهناك مصريون قد تزوجوا من
سوريات لتشابه العادات والتقاليد، وقد خرجنا من سورية برفقة
إحدى المصريات، والتي فقدت زوجها السوري أثناء التحاقه بالجيش، ولحسن الحظ فبيت والدها بالقرب منكما، وهي من توسطت لنا لديكم.
(مازن) وكأنه يعلن عن وجوده: نحن كعرب ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، فاللغة والدم والمصير والعدو أيضًا واحد.
(شذى) بابتسامة باهتة: حتى الآن ما زلت لا أصدق أن هذا يحدث ببلدي، ولا أدري كيف هانت علينا لنمزق أوصالها هكذا ما
بين قتل، وتدمير، ودماء، وبيوت مهجورة، وأطفال تيتمت، ونساء
ترملت، لماذا؟ لماذا؟! لماذا يموت الياسمين محترقًا؟! لماذا جف غصن الزيتون؟! لماذا ضاعت الرحمة لتحل محلها الغلظة
والقسوة؟! من أجل من! ولمصلحة من يحدث كل ذلك! لا أظن أن هناك من يدرك حجم هذه الفوضى، وما خلفته من معاناة، خاصة للاجئين وأسرهم، فهل يدرك أحد أو يستطيع الحياة بخيام على الحدود مع لهيب الصيف وقسوة الشتاء! لتستطرد بأسى: هل
كُتب علينا الشتات؟ لنصبح لاجئين بأوربا وتركيا ولبنان والأردن ومصر. ليقاطعها (مازن) بود قائلًا: بمصر يا (شذى) لا يوجد أي
لاجئين من أي دولة عربية، خاصة أهلنا وإخوتنا السوريين، فأنتم أصحاب بلد لكم فيها ما لنا، وعليكم ما علينا، منازلنا هي منازلكم،
ولا توجد على أرض مصر خيمة واحدة لمقيم على أرضها.
(نسرين): نعم يا بني، فمصر دائمًا ما تفتح ذراعيها للجميع،
فهي كبيرة بعظمة شعبها وبتاريخها ومواقفها، وهذا قدر الكبار دومًا.
والدة (مازن) موجهة حديثها لـ (شذى): لا تحزني يا بنيتي، قريبًا تعود سورية كما كانت وأفضل، وسيعود كل غائب إلى بيته
وينيره من جديد.
دمعت عينا (شذى)، وقد تذكرت والدها وهي تقول: اشتقت
إلى أبي، وكم أتوق لرؤيته مرة أخرى قبل أن... ليقاطعها (مازن) سريعًا، وقد أدرك أنها تخشى أن تموت بمرضها، قبل أن ترى والدها،
ليقول بنبرة يشوبها الحزن والألم: لا تقولي هذا يا (شذى)، ستتعافين
وستتعافى سورية، وسيعم الأمن والسلام فوق كل ربوعها..
صدقيني! ذات يوم غير بعيد، ستصبح سورية مقبرة لكل دخيل، وستصبح أيقونة الشام كما كانت، وسيصبح كل هذا من الماضي.
تحدثت والدة (مازن) عن الشباب الذين يدفعون أرواحهم ثمنًا للحرب الدائرة هناك بالوكالة، فلا يدري المقتول فيما قُتل، ولا القاتل لمَ قتل، وكأننا قد أصبحنا بذلك الزمان الذي أخبر عنه رسولنا
الصادق الأمين محمد (صلى الله عليه وسلم).
(نسرين): تُرى كم أم ٍّ فقدت فلذة كبدها! وكم (باسل)
مات وهو بريعان الشباب ثمنًا لمخطط يهدف إلى إضعاف الدول
العربية، بإثارة الفتن بين أطياف الوطن الواحد، يساعدهم بذلك –وللأسف– بعض الخونة من بني جلدتنا!
كانت هذه المرة الأولى والتي يتم فيها ذكر (باسل) بوجود (شذى) و(مازن).
كان (مازن) يعلم أن (شذى) لم تكن موافقة على الارتباط بـ (باسل)، لذلك تبادر إلى ذهنه أنه ربما لم يكن لائقًا بـ (شذى)
أو أنه شاب مستهتر، أو ربما به ما يجعلها ترفضه باعتبارها فتاة
على قدر كبير من الثقافة والجمال، ولكن ما فاجئه حقًّا هو حديث
(شذى) عن (باسل) بكل ود وفخر، قائلة أنه شاب مثقف محب لوطنه، وكانت لديه أحلام وأمنيات عظيمة يود تحقيقها لبلده، وأنه أنهى تعليمه الجامعي بامتياز، حتى إنه عمل بالفترة الأخيرة مع
إحدى منظمات الإغاثة.
لا يدري (مازن) لما شعر بالغيرة من حديث (شذى) عن
(باسل) هكذا، ليلوم نفسه معاتبًا وهو يتساءل بينه وبين نفسه: هل يحق له أن يغار من شخص ميت قد فارق الحياة! أم أنها أنانية العاشق المطلقة!
هنا أدركت (نسرين) بفطنتها أن عفوية (شذى) وحديثها الودود عن (باسل) قد يُساء فهمها، فقالت –وكأنها توضح الأمر–: رغم
كل هذه المميزات بـ (باسل)، إلا أن (شذى) كانت تعتبره دومًا
أخاها.
(شذى): نعم هو كذلك وأكثر، فأنا أحترمه جدًا ولا أنكر فضله
علي ّ من خلال ما أهداني إياه من كتب وروايات عربية وكتب
مترجمة، قد ساهمت بتكوين عقلي وروحي ووجداني، وجعلتني
أكثر انفتاحًا وفهمًا للحياة.. تنهدت وهي تقول: وما كان رفضي للارتباط به لعيب أو نقص به، ولكن حتى لا أظلمه معي، فأنا تعودت على وجوده كونه أخًا لي، ولم أكن أنا الفتاة التي ستسعده
وهو كان يستحق من اختارها قلبه، والتي ظلت تمتلك قلبه حتى بعد رحيلها غدرًا وعدوانًا.
مازن بخجل وهو يقول: ولكن كيف لشخص مثقف به كل هذه المميزات وواسع الإدراك أن يقبل بإنسانة لا تبادله المشاعر! ألا
يبدو هذا غريبًا بعض الشيء، خاصة وكما تقولون كان يحب فتاة
أخرى!
(شذى) وهي تشيح بوجهها بعيدًا، وهي تقول بود وفخر: كان (باسل) رحمه الله تعالى بارًا بوالديه لأقصى درجة، وقد حاول
مرارًا شرح مشاعره لوالده، وبالنهاية رضخ للأمر الواقع، خاصة بعد فقده لـ (رهف)، فتساوى كل شيء عنده، ولكنه وعدني أنه لن
يحدث أي شيء دون رغبته أو رغبتي، وأن ذلك سيكون وضعًا مؤقّتًا حتى نتجاوز هذه المحنة، ونستقر بإحدى الدول أو نعود لديارنا بعد أن تضع الحرب أوزارها.
(نسرين): كلنا نعلم أنه كان يحب (رهف)، ويتمنى أن يرتبط بها كذلك، هي كانت تحبه ولكن كان للقدر كلمة أخرى.
التقطت (شذى) طرف الحديث، وهي تقول: إن زواجهما كان
سيظل على الورق لفترة مؤقتة حتى يتم الانفصال إن عاجلًا أم
آجلًا.
هنا أدرك (مازن) أن (شذى) ليست كغيرها من الفتيات، فهى صادقة ولم تسئ لشخص غائب بحضور من تحب، وقد زاد هذا من
احترامه وتقديره لها.






































