اليوم التالي....
طرقات على شقة (شذى)، تفتح على إثرها (روان) الباب؛ لتجد (مازن) يقف قبالتها مرتديًا زيه الرياضي، مع قبعة رياضية يعتمرها
فوق رأسه، وكأنه ذاهب بطريقه للتريض أو للنزهة بإحدى الحدائق،
تأملته (روان) بدهشة فهي لم تتعود على رؤيته بهذا الشكل، قبل أن
يستأذنها بالدخول ويطلب منها إخبار والدتها و(شذى) بحضوره.
ما هي إلا دقائق قليلة حتى كانت والدة (شذى) ترحب به بود
وحب، وعندما سأل عن (شذى) أخبرته والدتها أنها تصلي العصر بغرفتها، وأنها ستكون معهم بعد قليل.
دقائق قليلة مرت قبل أن تأتي (شذى) تزين شفتيها إبتسامة رقيقة، لتسأله عن حاله وعن (سمر) ووالدته؛ ليجيبها (مازن) أن الجميع بخير، ثم نظر إلى عينيها مباشرة قبل أن يتوجه إليها بالسؤال قائلًا: أخبريني يا (شذى) وبصدق، ماذا لو أنني وأثناء عبوري
للطريق تعرضت لحادث سير أفقدني القدرة على الحركة وجعلني قعيدًا؟ هنا انتفضت (شذى) وهي تقول بخوف وهلع: لا تقل هذا
يا (مازن)، لا تفترض السوء الله يحميك ويحفظك من كل شر.
(مازن): أرجوك يا (شذى) لا تقاطعيني ودعيني فقط أكمل
سؤالي وأجيبي عنه بوضوح.
ليستطرد قائلًا: ماذا لو قدر الله ذلك،
وأصبحت عاجزًا عن الحركة، أو تسبب هذا الحادث لي بضرر كبير
وإعاقة دائمة... لينظر إلى عينيها مباشرة، وهو يقول بحب: هل كنت ستتركيني وتتخلين عني؟ هل كنت ستخذليني؟ (شذى) وقد علمت مغزى السؤال، وإلى ماذا يرمي (مازن) من
ورائه، لتجيبه بصوت خفيض: الأمر مختلف يا (مازن)، وأنت تعلم
ذلك فلا وجه للمقارنة.
(مازن): وأي اختلاف يا (شذى)؟! هل هناك فرق؟ هو وفاء
المحب لمن يحب، كما أنه لا أحد منا يختار نوع الابتلاء الذي يتعرض له، فهو اصطفاء لنا من رب العالمين؛ ليختبر ثقتنا به وقوة إيماننا، ثم أخبريني يا (شذى) إن لم يكن المحب مُتَكَئًا
لمن يحب، إن لم يكن وفيًا له! إن لم يشعره بالاحتواء والأمان، إن لم يكن الصدق مذهبه! فهل يمكن أن نسمي ذلك أو نطلق عليه حبًّا حقيقيًّا؟! وإن كنت ِ أنت ِ مستعدة لتحمل الألم والوجع
من أجل سعادتي، وإن كنت ستدعميني وقت أزماتي وأوجاعي،
فلِم َ تظنين أنني أقل منك حبًّا ووفاء، أم أن هناك من أخبرك بأن
الحب والإيثار والوفاء حكر على النساء دون الرجال! استطرد قائلًا
بحماس: صدقيني يا (شذى) هي ليست سوى مشاعر إنسانية، لا تخضع لأي مقاييس، ولا توجد بها أي مساومات أو حسابات.
صمتت (شذى) لتتحدث والدتها، وهي تقول: هذا لأنك على خلق وشاب صالح قلما يجود الزمان بمثله يا بني.
كانت (شذى) تتأمل (مازن) بكل حب، وكم أسعدها أن تجد منه كل هذا الحب وكل هذا الوفاء، كانت تشعر بمشاعر وأحاسيس
متناقضة تعتمل بداخل روحها، في ضجيج صامت لا تعبر عنه ملامحها.
(مازن) متأملًا ملامح (شذى) الملائكية بكل حب وعشق، باحت به قسمات وجهه وهو يقول بنبرة هادئة: أن يتقاسم الأحبة
لحظات السعادة والألم، فهذا هو الحب، بينما أن يتمنى المُحب
لو أنه يُعفي مَن يُحب من نصيبه ِ من الألم فهو الحب الحقيقي..
خانته عبراته وهو يقول بود: وليس لذلك أي علاقة بمشاعر الشفقة أو المواساة، ولكن لأنني أحببتك، ولأنك لن تكون لغيري،
ولن أكون لسواك، وما دمتِ تحبينني كما أحبك، فلن نستسلم وسنكمل رحلة الحياة سويًّا يا رفيقة الدرب.. أردف قائلًا: إلا إن
كنت قد توقفت عن حبي، ولتثبتي هذا عليك ِ أن تنظري الآن بعيني مباشرة وتخبريني أنك لا تحبينني.
نظرت (شذى) نحوه معاتبة قبل أن تطرق برأسها أرضًا، ثم وبحركة مباغتة نزعت غطاء رأسها وهي تتحاشى النظر بعينيه.
كانت (شذى) قد أزالت شعر رأسها كاملًا، حتى كادت تصل للجلد، وما إن فعلت ذلك حتى باغتها (مازن) برد فعل لم تتوقعه
هي أو أي أحد، وبحركة مباغتة ومفاجئة منه قام بنزع قبعته الرياضية، والتي كان يرتديها فوق رأسه، وهي من النوع الذي يرتديه بعض الشباب لتقيهم حرارة الشمس أو المطر،
وضع يده أسفل ذقن (شذى) ليرفع رأسها إلى الأعلى، وما إن فعل ذلك، حتى رفعت رأسها للأعلى، لتقع عينيها على رأسه، وقد أزال شعر رأسه كليًّا بالموس، ليصبح رأسه أصلع بالكامل،
وهو يردد بحب وعشق: هل تقبلين بي زوجًا لأصبح أسعد رجل بهذا العالم؟ سالت دموع (شذى) من عينيها رغمًا عنها بغزارة، ولكن هذه المرة كانت دموع السعادة والفرح قد وقعت بقلبها وروحها بردًا
وسلامًا، لتقيها نيران الخوف والمرض، لتومئ برأسها للأسفل علامة الموافقة والقبول وسط دموع والدتها و(روان).
دمعت عينا (مازن) وهو يهمس لها قائلًا بحب: هل تعلمين يا
سيدتي أنك تجلسين الآن أمام ثاني أسعد رجل بهذا العالم.
(شذى) هامسة بحب: شكرًا يا (مازن) شكرًا لوجودك معي
وبحياتي.
(مازن): لا تقولي هذا يا شذي، فإن كان يجب أن يشكر أحدنا الآخر فهو أنا يا حبيبتي، أنا من يجب أن يشكرك على كل شيء.
(شذى): كم أنا محظوظة بك.
(مازن) وهو ينظر إلى عينها بحب: أوليس الحبيب متكئًا لمن يحب؟
قطع حديثهما الهامس صوت هاتف والدتها بالرنين، لتحضره
(روان) إليها والتي قالت، وهي تمسح دموعها أنها رسالة علىوالواتس من الأهل بسورية، وما إن فتحت الرسالة حتى تسمرت
عيناها على شاشة الهاتف في ذهول، فلم يدر ِ من حولها ما سبب ذلك، وماهية ذلك الخبر الذي لم تبد ِ له أي شعور، سواء بالحزن أو بالسعادة، لتتناول (شذى) منها الهاتف، وما إن رأت الرسالة حتى
أعطته لمازن، والذي رأى صورة على الهاتف لإحدى الصحف تنشر
خبرًا يتحدث عن اكتشاف مقبرة جماعية جنوب سورية عن طريق
إحدى منظمات الإغاثة، والتي تعرفت على ثلاثة من العاملين بها
من خلال تلك الشارة، والتي يتم وضعها على القميص بالقرب من
الصدر للتعريف عن هويتهم، وقد كان من بين الثلاثة اسم (باسل) ابن عم (شذى) وزوجها على الورق، وما إن قرأ الجميع الخبر
حتى ساد الحزن والوجوم على وجوه الجميع، ليعم الصمت عليهم
ويغشاهم، مما دفع (مازن) للقول محاولًا التخفيف من هول تلك
الصدمة عليهن، وقد بدا الحزن والخشوع بنبرة صوته: قدر الله وما
شاء فعل، كتبه الله من الشهداء ورزقه الجنة.. أردف يقول بحزن وألم: لا أحد منا له أن يختار موعد موته أو مكانه، ولكنه القدر...






































