ما إن نطق «مازن» عبارته عقب رؤيتهم لتلك الرسالة والأخبار
التي أتت من الأهل بسورية، وهي تحمل نبأ موت «باسل»، حتى خيَّم
الصمت والحزن على الجميع.
كثيرًا ما يباغتنا القدر ببعض المواقف والأحداث، لنجد أنفسنا
عاجزين عن الحديث، ربما ليقيننا أن بعض الابتلاءات تقع منا
بالقلب موقع النار من القِدر، فتدميه، وتلامس أرواحنا كشمس
الهجير فترهقها. وقتها فقط ندرك عدم جدوى أي كلمات أو عبارات
بقصد المواساة، وقتها يصبح الصمت، والصمت فقط، هو سيد
الموقف.
ومع ذلك الصمت والوجوم اللذين حلا وخيَّما على وجوه الجميع،
أغمضت «شذى» عينيها لتستعيد ما سبق من حياتها كفيلم سينمائي
فلاش باك.
استعادت طفولتها ببيتهم مع الأهل، تذكرت ملامح الجيران
وطيبتهم، استعادت طفولتها مع «باسل» ورفاقها.
دمعت عيناها وهي تردد: آه يا «باسل»، هل حقًا غادرتنا دون
رجعة؟ هل رحلت شمسك نحو المغيب؟ تساءلت كيف يحدث
ذلك وما زال «باسل» ماثلًا أمام عينيها، يحتل مخيلتها بملامحه
المميزة وتلك الطيبة التي لا تخطئها عين!
تذكرت ملامحه بعينيه الزرقاوين، واللتين تجعلانِه أقرب
للأوروبيين من حيث الشكل والملامح.
ما زالت كلماته تتردد بأذنيها، وهو يحدثها عن أحلامه وطموحاته،
وكيف اختزلها كلها لوطنه سورية، لتصبح جنة الله في الأرض.
عادت بذاكرتها لبيتهن، وهي تستعيد كل ركن به، حتى إنها
تجولت بخيالها، فذهبت إلى المطبخ والغرف والنوافذ وأحواض
الزهور وسمك الزينة.
كم تشتاق لتلك النافورة بصحن الدار! تلك النافورة المزينة
بالفسيفساء الملونة، والتي شهدت أجمل لحظات مرحها وطفولتها.
كم تشتاق روحها وتهفو للياسمين الذي تفتحت عليه عيناها!
كم تشتاق لرائحته، حتى إن عبيره وشذاه ما زالا يملآن أنفاسها!
هل ارتبط مصيرها بالياسمين؟! لِمَ لا، وكلاهما لا حياة له بعيدًا
عن تربته وموطنه، كما أنها، كما الياسمين، تحب الشمس ولا تهوى
الحياة في الظل.
هل ما يعتريها من مرض هو بسبب ابتعادها عن موطنها؟!
هل كُتب عليها أن تلفظ أنفاسها الأخيرة غريبة الموطن والدار؟!
حاول «مازن» التخفيف عنها، بينما تجاهد والدتها لكبح جماح
عينيها وهي تحتضن «روان»، والتي كانت تنتحب بصوت مبحوح
ومتهدج.
بدون أي مقدمات، وفي صمت، نهضت «شذى» لتمشي اتجاه
غرفتها دون أي كلام، فما تشعر به لا تصفه الكلمات أو تعبر عنه
أقوى الصرخات ضجيجًا.
للحظات آثر «مازن» الابتعاد ريثما تهدأ الأمور، وما إن همَّ
بالمغادرة حتى شعر بأن حبه لـ «شذى» يحتم عليه ألا يتركها وحيدة
لحزنها، ليستأذن من والدتها بالدخول عليها للتخفيف عنها. وما إن
سمحت له بذلك حتى دلف إلى الداخل، ليجلس على حافة الفراش،
حيث كانت تجلس «شذى» واضعة رأسها بين يديها في لحظات
من الصمت المؤلم.
«مازن»، وهو يرفع ذقنها إلى الأعلى، قائلًا بحب: تذكري حبيبتي
أنه بينما تلملمين ذاتك وتعددين انكساراتك، وأغلب الظن لديك
أنها النهاية لا محالة، ستكتشفين أنها ليست سوى إشارات قدرية
تقودك نحو الفجر.
بمكان آخر ومشاعر أخرى، جلست «سمر» خلف مكتبها تحمل
بين يديها دفتر مذكراتها، وهي ترتعش حائرة ما بين إفراغ مكنون
روحها أو الصمت للأبد.
بالنهاية، وبعد صراع استمر لدقائق بينها ونفسها، حسمت أمرها.
أعدت فنجانًا من القهوة، ارتشفت منه القليل، لتمسك بالقلم
محاولة البدء، ولكن ما أصعب البداية. تناولت رشفة أخرى من
فنجان قهوتها، عساها تستطيع وأد تلك النيران بقلبها قبل أن
تستعر، فتأكل ما تبقى منها، لتشعل بروحها حريقًا بلا دخان.
كتبت وهي لا تدري لماذا، أو لمن ستكتب، فقط هي تشعر
برغبة جارفة في الكتابة، ربما يخفف ذلك من ألمها، وربما يزول
هذا الضجيج، الذي يحتل رأسها وعقلها دون هوادة.
ستكتب عساها تجد لنفسها مكانًا قصيًا بذاكرتها، يتيح لها
التأمل في هدوء وروية، ربما تجد بعض الإجابات للكثير من
علامات الاستفهام التي تتناثر وتعبث بها دون جدوى.
كتبت متسائلة:
هل أخطأت حقًا عندما وافقت على الزواج من «عادل»؟! هل
كنت المخطئة عندما قررت الهروب وعدم مواجهة رفض «مازن»
لي؟ كم هو سيئ ذلك الشعور بالرفض من شخص كان يمثل كل
عالمك. شخص واحد تحول بالنسبة إليك كل شيء، بينما أنت
بالنسبة له لا شيء.
شخص يحتل كل أركانك، ويسكن بكل جوارحك، ولا يشعر
بوجودك.
شخص تراه توأمًا للروح، ويراك فقط عابر طريق.
أطلقت العنان لدموعها لتتساقط على الأوراق، وهي تكتب بغصة
وبألم، وكأنها ترسل رسالة إليها، أو بالأحرى إلى روحها المنهكة.
منذ كنت طفلة، وقبل أن أعي الحب أو أفهمه، تفتحت عيناي
على «مازن»، ومنذ حدث ذلك لم أعد أرى غيره أو أشعر بسواه.
كنت أشعر بالفرح والسعادة عندما يتم ذكر اسمه أمامي، أو عندما
يتم ذكر اسمي مع اسمه في أي جملة أو عبارة، حتى إن مجرد قول
خالتي إنني أصبحت عروسًا، وأنها ستخطبني لـ «مازن»… مجرد
التلميح بذلك كان بالنسبة إلي سعادة لا تضاهيها أي سعادة.
بعض الأوهام ليست سوى ركام وحطام لأحلام مختبئة بالذاكرة،
وغالبًا ما تكون خيالات يحركها الحنين على نيران الاشتياق.
فهل كنت أنا المخطئة، أم هم من زرعوا الحلم بداخلي حتى
كبر ونما وأينع، وعندما حان وقت القطاف نسي الجميع أو تناسوا
حتى رحل موسم حصاد الأمنيات؟
لم أكن سوى زهرة تفتحت وفاح عبيرها بانتظار ذلك الفارس
ليقتطفها وليخطفها على حصانه الأبيض، لتكون له وحده، ولكن
هذا الفارس لم يأتِ أبدًا.
هل كنت وقتها أنانية حقًا؟
أليس من حقي أن أحلم كبقية الفتيات؟! هل كنت غبية لأتزوج
من رجل آخر، فقط لأبتعد عن حلم الصبا، أو بالأحرى لأهرب
منه؟! تُرى، لماذا ظل شبح الرفض يطاردني في صحوي ومنامي
حتى أرق مضجعي؟
وإن كنت لست المخطئة، وإن كنت كما أدعي ضحية لما حدث،
فما ذنب ذلك الآخر؟ ما ذنب «عادل»، والذي لم يؤذني أبدًا ولم
يجرحني ولو بكلمة؟! هل كان ذنبه أنه أحبني؟! هل أخطأ عندما
وجدني مناسبة لأقترن به وأحمل اسمه؟! هل أخطأ عندما ظن أنه
سيجد معي السعادة، فلم يجد إلا الجحيم؟!
أنا لا أنكر أنه إنسان طيب، بل مثالي، وربما يستحق من هي
أفضل مني، ولكن لست أنا. فأنا لم أخلق إلا لأكون لشخص واحد،
فإن لم يُكتب لي أن أكون معه، وإن لم يجمع بيننا القدر، ما كان
يجب أن أتحدى هذا القدر أو أعانده أبدًا.
ولكن هل كنت أعلم، عندما ابتعدت بنيران فؤادي المشتعلة،
أنني ومهما جاهدت كثيرًا لأخمدها في مهدها؟ فهل كنت أعلم أنني
عندما أفشل بذلك أنها لم ولن تحرق سواي أنا؟
استطردت تكتب، وكأن القلم يأبى أن يتوقف قبل أن يفرغ كل
محتواه من الألم، ومداده من الوجع، فربما لن تواتيه الفرصة مرة
أخرى.
كتبت تقول: ما أسوأ أن يتحول الخيال إلى ساحة قتال بين
عقل وقلب يختلفان، وكأنهما ضدان، ليشتعل بينهما أتون حرب
لا رابح فيها، ليكتشفا، وبعد فوات الأوان، وبعد أن تجف كل
الينابيع وتشتعل الحرائق، أن كليهما خاسر.
تساءلت بخوف: هل أنا خائنة؟
هل خيانة المشاعر تُصنَّف خيانة؟
هل بتواجدي مع «عادل» جسدًا بلا روح يجعلني ذلك خائنة؟
عندما كان خيالي يسافر بعيدًا، بعيدًا جدًا، وإلى أبعد نقطة،
إلى حيث يتواجد من أعشقه وأهواه، هل كنت وقتها خائنة؟
تنهدت وهي ترتشف آخر رشفة من فنجان قهوتها، والتي غاب
عنها البخار، فأصبحت باردة، لتشبه كثيرًا حياتها التي تحولت
لجليد لن يذوب، بظنها، إلا بأنفاس من تحب.
ما إن انتهت «سمر» من الكتابة حتى شعرت بالهدوء النفسي
وبالسكينة تسكن روحها، وكأنها قد ألقت بأحمال ثقال من فوق
كاهلها.
تناولت الأوراق بين يديها المرتعشتين، ودون أي تردد، وفي حسم،
مزقت الأوراق بكلتا يديها، ثم ألقتها بسلة المهملات قبل أن تتوجه
لتقف أمام المرآة مباشرة، لتنتقي أدوات التبرج، لتتزين وتزيل تلك
الهالات السوداء أسفل عينيها من أثر التفكير والسهر، قبل ذهابها
إلى عملها، عساها تجد هناك بين مرضاها ومع قصصهم ما يلهيها
ويخرجها من تلك الدوامة، والتي، مما لا شك فيه، لم تنتهِ، ولن
تنتهي.






































