في أثناء عودتهم تحدث (مازن) لـ (شذى) مداعبًا: يبدو أنك
تعشقين الأطفال كثيرًا.. أليس كذلك؟
(شذى): نعم أعشقهم بجنون وحد الإدمان، كم أعشق البراءة
بأعينهم وعفويتهم! حتى شغبهم وحركاتهم أعشقها، ولا أمل ّ منها
أبدًا، فهم بالنسبة إلي ّ يمثلون الطهر والنقاء وبلا حدود.
تنهدت بأسى وهي تقول: للأسف معظم ضحايا الحروب
والصراعات من الأطفال، فهم أكثر وأول من يدفع الثمن من أمنهم وصحتهم وحرمانهم من دراستهم وذويهم، وكذلك يدفعون الثمن من أرواحهم.. لتقول بأسى: انظر حولك لترى كم من طفل
وطفلة فقدوا ذوييهم! كم أم ٍّ فقدت ابنها! وكم زوجة ترملت أو
فقدت أباها وأخاها بالحروب! الجميع خاسرون ولا أحد ينتصر.
أمّن (مازن) على كلامها وهو يقول: صدقت يا (شذى)،
فبالحروب لا يوجد رابحون والجميع خاسر.
ما إن وصلوا، حتى دلفت (شذى) إلى الداخل بصحبة (روان)، وهي تدعو (مازن) إلى الدخول، والذي اعتذر مبررًا: ذلك بأنه سيذهب إلى الصيدلية لمراجعة بعض الأمور لتقول له.
(شذى) مذكرة إياه: لا تنس َ أنك مدعو ووالدتك و(سمر) مساء اليوم للعشاء لدينا. أعقبت كلامها بقولها: الماما مصرة تطعمكومن دياتها وتفرجيك طعام الشام. قالت هذا بلهجة سورية، وبطريقة مسرحية، ليرد عليها (مازن) وبنفس اللهجة السورية قائلًا: ولووو..
حاضرين ست (شذى)، وإذا راح تطعموني كبيبة ومكدوز راح ضل
عندكم حتى آخر العمر.. ضحكت (شذى) حتى بدت نواجزها، وهي تسمع (مازن) يتحدث باللهجة السورية، ولكن بلكنة مصرية
لترد قائلة: من وين هالحكي.. والله منك هين يا زلمة!
مازن مازحًا: بس هيك؟ (شذى) بحب وخجل: وكتييير مهضووووم.
مازن (ضاحكًا) وبلهجة عامية مصرية قائلًا: متفرحييش أوي
ومتتعوديش على كده، هما كلمتين حفظتهم من "باب الحارة"
علشان أفاجئك بيهم. ليتبادلا النظرات الضاحكة، وقد أدرك كل
منهما أنه لا يكتمل إلا بالآخر.
دخلت (شذى) غرفتها لترتدي ملابس مريحة وتساعد والدتها
بالمطبخ للاستعداد لوليمة المساء واستقبال (مازن) وأسرته دخلت (روان) لغرفة (شذى) بسعادة غامرة وهي تحمل دمية كبيرة بين يديها، ولكنها وما إن دخلت ونظرت باتجاه (شذى) حتى
تسمرت قدماها بالأرض، وهي تطالع (شذى) بذهول لتسقط الدمية
من بين يديها، وتستدير لتغادر الغرفة وهي تبكي وتنتحب بصوت
متهدج ومرتفع، أتت على إثره والدتها من المطبخ وهي تتساءل عن
سر بكائها وصراخها المفاجئ.
كانت (روان) تبكي وتنتحب ودموعها تغرق وجنتيها دون
أي كلمة أو حديث، فقط جسد ينتفض مع ارتعاشة سرت بجميع أوصالها، لتسألها الأم بخوف وقلق: ما بك يا بنيتي! أخبريني هل
أختك بخير؟ هل هناك ما...
وقبل أن تكمل عبارتها تفتح (شذى) باب غرفتها، لتخرج عليهما حيث تتواجدا بالردهة.
ثوان ٍ مرت كالدهر، وهي تنظر إليهما بوجه شاحب قد اعترى ملامحها، بينما أمها و(روان) ينظران إليها بصمت مطبق، ودون أي
حديث، فما يشاهدانه أمامهما كان أقوى من أي كلام أو حديث، فقد
كانت (شذى) تقف بدون غطاء للرأس، ولأول مرة تراها (روان) بهذا الشكل، بينما ورغم علم أمها بنتائج العلاج الكيماوي إلا أنها
شعرت بروحها تتمزق وجعًا وألمًا على ابنتها، وقد تساقط شعرها
تمامًا أو معظمه من أثر تلك الجرعات الكيماوية.
كانت (شذى) قد فقدت الكثير من شعرها، وهي من كانت تحسدها صديقاتها على شعرها الأسود الفاحم، والذي يصل إلى أسفل خصرها، ليزيدها جمالًا فوق ما حاباها الله به من جمال..
تسمرت الأم، لا تدري ماذا تقول وقد انسابت الدموع من بين
مقلتيها، وبلا أي حديث أو كلام، توجهت نحو (شذى) لتحتضنها
بعناق طويل صامت، وبلا أي حديث، وهكذا فعلت (روان) والتي
احتضنت (شذى) من الخلف، وما زالت تختنق بعبراتها ودموعها.
لم يقطع هذا الصمت سوى (شذى) وهي تقول بثبات ويقين:
هوني عليك ِ يا أمي، ولا تجزعي، فقد أكون فقدت بعض صحتي
وفقدت شعري، ولكنني أبدًا لم أفقد ثقتي ويقيني بالله، وسيظل دومًا حسن ظني بالله جميلًا
مساء ذلك اليوم.....
(مازن) وهو يذكر والدته بدعوتهم على العشاء عند (شذى) ووالدتها، لترد عليه الأم: حسنًا يا بني! أنا جاهزة.. فيبادرها (مازن) بالسؤال: وماذا عن (سمر)؟ هل أخبرتها أنها مدعوة معنا على
العشاء؟ الأم: نعم يا بني! وقد أبلغتني أن أعتذر لهم بالنيابة عنها.
(مازن): ولماذا يا أمي؟! هم يعتبرونها جزءًا من أسرتنا الآن، وقد يساء فهم الأمر.
الأم: لا تكن قاسيًا على (سمر) يا بني هكذا أم أنك حقًا لا تدري؟ ليتساءل (مازن) في دهشة: ماذا تقصدين يا أمي؟ الأم وهي تتنهد بأسى: هل تعتقد أنه من السهل على المرأة أن
تتنازل عن حبها أو حلمها لأي سبب مهما بدت متفهمة أو متقبلة لذلك؟
(مازن) متسائلًا بحدة: ألم ننته ِ من ذلك الأمر يا أمي! لقد ظننت أننا انتهينا منه وأنه أصبح من الماضي، وإذا كانت (سمر) لم...
لم يكد ينهي عبارته حتى كان هناك من يطرق الباب، وما إن فتح (مازن) الباب حتى كانت (سمر) تقف قبالتهم، وقد ارتدت فستان
سهرة أسود طويلًا، يبرز جمالها بشكل أخاذ وهي تقول: ها أنا قدوأتيت، لقد غيرت رأيي باللحظات الأخيرة، فأنا وكما تعلمون إمرأة متقلبة المزاج.. لتعقب على قولها بابتسامة واسعة وهي تقول: لقد سمعت أن الطعام السوري والمطبخ الشامي شهي ومميز ولن أفوت ذلك.
عدل (مازن) من هندامه ليتوجهوا جميعًا إلى الأسفل؛ حيث تقطن (شذى) ووالدتها وأختها (روان)، وما إن دخلوا جميعًا حتى
تم استقبالهم بود وترحاب واسع.
كان الطعام وبشهادة الجميع مميزًا للغاية، وقد حرصت فيه والدة
(شذى) أن يكون من المطبخ الشامي بامتياز، مع تنوع الأكلات والكثير من المقبلات والعصائر تم إعدادها بشكل جميل ومتميز.
عقب تناولهم للعشاء، قامت (شذى) بإعداد القهوة العربية بالهيل للجميع، فكانت سهرة جميلة وأمسية مميزة امتدت حتى منتصفِ الليل؛ لتقوم والدة (مازن) وهي تقول: اسمحوا لي بالمغادرة فقد
حان موعد نومي وغلبني النعاس.
نهضت (سمر) تبعها (مازن) وهم يثنون على حفاوة الاستقبال،
وما إن هموا بالمغادرة حتى توجهت (شذى) إلى (مازن) بالكلام،
وهي تقول له: من فضلك يا (مازن) أريدك بأمر مهم لبعض الوقت.
لتقول والدة (مازن): حسنًا! يا (سمر) هيا بنا، وسيلحق بنا (مازن)
بعد أن ينهي حديثه مع (شذى).
ما إن غادرت (سمر) ووالدته حتى لاحظ (مازن) تلك النظرات بين
(شذى) ووالدتها، وقد أدرك أن هناك حديثًا صامتًا فيما بينهما، وأن
الأمر جد خطير ومهم، ومن المؤكد أنه أمر تختلفان عليه فيما بينهما.
تعللت والدة (شذى) بحمل أكواب القهوة للمطبخ لتعطي لـ
(شذى) و(مازن) الحرية بالحديث، وما إن توارت عن الأنظار، حتى نظر (مازن) بعيني (شذى) مباشرة، وهو يقول: هل هناك ما تودين قوله يا (شذى)؟ صمتت (شذى) وهي تأخذ نفسًا عميقًا،
ليشعر (مازن) بانقباض قلبه متسائلًا بقلق: ماذا هنالك يا (شذى)؟
أرجوك ِ ! انظري إلي ّ وأخبريني، هل هناك ما تخفينه عني حبيبتي؟
(شذى) بتردد وهي شاردة الذهن، تنظر نحو المجهول لتتحاشى
النظر بعيني (مازن)، ومن ثم تقول بحسم، وكأنها تلقي بعبء ثقيل
من على كاهلها: أنت تعلم يا (مازن) ماذا تعني لي، ولا حاجة
لإخبارك بهذا، كما تعلم أنك اختيار قلبي وروحي، وأنني حتى
وإن لم أكن لك، فلن أكون لغيرك أبدًا ما حييت. تنهدت وهي
تقول: أنا أعلم أنك تعلم ذلك وتشعر به...
(مازن) بحيرة: وأنت ِ تعلمين أيضًا يا (شذى) ماذا تعنين لي و...
قاطعته (شذى) قائلة (مازن): أنت إنسان رائع ومميز، كما أنك حلم لكل فتاة، ولكنني أرى وبصدق، ومن أجل صالحك، ولأنني
أتمنى لك السعادة، فلا يجب أن نستمر معًا وأتمنى أن تتفهم ذلك...
ألجمت كلماتها تفكير (مازن) للحظات، فلم يدر ِ ماذا يقول، أو كيف يرد عليها، فقط ظل يطالعها بصمت حتى استعاد بعض
هدوئه ورباطة جأشه، وهو ينظر نحو عينيها مباشرة قائلًا بعتاب:
هل تدركين حقًّا ما نطقت ِ به للتو يا (شذى)؟ هل سمعت أذناك ما تفوهت به شفتاك؟ (شذى): هل تصدقني يا (مازن) إن أخبرتك أنني حلمت بك
قبل أن نلتقي، وأنني عندما تلاقت نظراتنا للمرة الأولى لم أشعر أنك غريب عني، بل أدركت وقتها أن روحي عانقت روحك دون
حديث.
(مازن): إن كان كذلك، فما هذا الذي سمعته الآن أم أنك
تمزحين معي؟ ليتساءل بحزن: هل هو كابوس سأفيق منه بعد قليل!
بالله عليك أخبريني أنك لم تقصدي ما قلته أنت، وما فهمته أنا يا
(شذى)، فقلبي وعقلي عاجزان عن إدراك ذلك أو استيعابه...
(شذى) وهي تنظر اتجاه الفراغ اللامتناهي واللا محدود: لا يا
(مازن)، ليست مزحة، وليس كابوسًا. لتقول بحسم: نعم يا (مازن)،
لقد قلت ما سمعته بوضوح، حتى وإن كان هذا ليس ما أريده حقًا، ولكن هذا ما يجب أن يحدث، ويجب أن ننصاع للواقع، وألا
نسمح لخيالنا أن يبحر بأشرعة ممزقة لن تصل بنا إلى حيث تهوى
قلوبنا وأرواحنا، وربما يحطم قلوبنا بلا هوادة أو رحمة.
استدارت عنه، لتواري دموعًا عجزت من كبح جماحها، وهي
تقول: نعم أحببتك فوق تصورك وفوق إدراكي، وكم تمنيت أن تتحقق تلك الأمنية، ويكتمل هذا الحلم الجميل ولكنه القدر!
يتبع






































