جلس مهمومًا خلف مكتبه المتهالك، شرد بعقله ممنِّيًا النفس بتلك الترقية ليختم بها حياته الوظيفية، توجَّه للسماء داعيًا الله أن يأتي اسمه بتقرير الكفاءة أولًا، ليستحق إنهاء خدمته على درجة أعلى من درجته، حتى يزداد معاشه جنيهات قليلة تُعينه على صعوبات الحياة.
لم يخرجه من شروده وتأملاته سوى همهمات زملائه بالعمل، انتبه لهم ليخبروه أنه حلَّ ثانيًا بتقرير الكفاءة بعد الأستاذ "قرني"، وأنه سيحصل على الدرجة الوظيفية لهذا العام، لم يعترض ولم يتذمَّر، فقط -وبكل هدوء- غادر مكتبه لينصرف في هدوء.
"وقت الظهيرة" ظلَّ يمشي على غير هُدى يرافقه ظله، تأمَّل ظله أثناء مسيره ليجده يمشي معه، فلا هو يسبقه أو يتخلَّف عنه، كما أنه يماثل حجمه فلا هو يكبره أو يصغره، نظر للشمس كانت عموديةً تسقط أعلى صدره.
ظلَّ يمشي على غير هدى حتى إنه لم يشعر بالوقت الذي اقترب من الغروب، وهنا لاحظ شيئًا غريبًا لم يفهمه، كان ظله يفوقه حجمًا، بل -كما يبدو- وكأنه يحاول أن يسبقه! نظر نحو الشمس، فكانت تتجه نحو الغروب، ترسل أشِعَّتها الذهبية نحوه أسفل خاصرته، ما جعل ظله أكبر منه.
لم يكن هذا ما يشغله حقًّا، إنما ما علق بذهنه وعقله هو محاولة ظله أن يسبقه ليتقدَّم عليه، ما جعله يتوقف منتفضًا وهو يردِّد بصوتٍ خفيض:
- حتى أنت تود أن تسبقني لتصبح أولًا وأنا ثانيًا؟
في تؤدة مشى الهوينى مستعيدًا شريط حياته منذُ الولادة وحتى لحظته الراهنة.
تذكَّر أنه حَلَّ ثانيًا لأبويه بعد شقيقته الكبرى، فلم يحظَ بشغف واهتمام والديه بقدومه.
أثناء دراسته بجميع المراحل التعليمية لم يتذكَّر أنه حَلَّ أولًا ليُكرَّم، كان دومًا ترتيبه ثانيًا أو بمرتبة أقل.
حتى التنسيق الجامعي لم يمنحه رغبته الأولى، إنما حصل على رغبته الثانية.
نظر نحو ساعته ليرى كم مرَّ عليه من الوقت خوفًا من توبيخ زوجته له، بسبب تأخره في العودة إلى المنزل، سرعان ما نفض عنه هذا الخاطر عندما تذكَّر أنه حتى بالزواج لم يكُن الزوج الأول لزوجته، إنما حَلَّ ثانيًا بعد طلاقها من زوجها الأول.
تنهَّد تنهيدةً طويلةً وهو يحاول جاهدًا أن يتذكَّر ولو لمرة واحدة كان الأول في أي شيء، لكن -ولخيبته الشديدة- لم تسعفه الذاكرة بشيء، حتى الطوابير الطويلة لإنهاء بعض الأوراق أو استخراجها لم يتذكَّر أنه كان الأول، كذلك في طوابير الجمعيات، حتى الجمعيات المالية التي كان يدخلها لتوفير بعض المال لا يذكر أنه قبض الاسم الأول بأي مرة.
ابتسم بسخرية مريرة عندما تذكَّر أنه حتى الفريق الرياضي الذي يشجِّعه غالبًا ما يحلُّ ثانيًا.
كانت الشمس تتجه نحو الغروب عندما راقب ظله الذي تعملق بفعل تساقط الشمس عليه أفقيًّا من ناحية اليمين، يسبقه ظله باتجاه اليسار، هنا طرأت عليه فكرة بدَت له مجنونة، لكن لمَ لا، لمَ لا يحاول ولو لمرة واحدة أن يكون الأول؟ نعم، يمكنه أن يفعلها ولو لمرة واحدة بحياته.
هنا قرَّر قبول التحدي، حدَّث نفسه قائلًا:
- يمكنك ذلك، نعم، يمكنني أن أسبق ظلي.
نظر للطريق من حوله، وجد المارة كلٌّ منهم له شأن يغنيه عن الاهتمام بمن حوله، نظر للأرض حيثُ يقبع ظله في ثبات وكأنه يتحدَّاه، توجَّه بمُحاذاة الرصيف وأطلق ساقيه بكل ما أوتيَ من قوة.
ظلَّ يجري ويجري مراقبًا ظله الذي ظلَّ متقدِّمًا عليه في هذا السباق، لكنه لم ولن يستسلم.
هذا اليوم عليه أن يثبت لنفسه على الأقل أنه الأول، يكفي شعوره أنه حتى في وطنه ينتمي لطبقة اجتماعية كانت متوسطةً قبل أن تتلاشى بفعل تداعيات الزمن، ليتحول المجتمع إلى طبقة الأثرياء فاحشي الثراء، وأخرى تعاني الفقر المدقع، حتى في ترتيب الطبقات الاجتماعية هو ينتمي للثانية.
كم هو مؤلم وقاسٍ ذلك الشعور بأنك مهمَّش حتى في وطنك.
ظل يجري ويجري وكأنه يسابق الريح، شعر بالنيران تجتاح صدره، تسري في جسده كسريان النار بالهشيم.
أطبق الظلام عليه من كل حدبٍ وصوب، الضباب يحيط به من كل جانب، شعور مدهش اجتاح كل جوارحه، للمرة الأولى يشعر وكأنه خفيف مثل ريشة في مهب الريح، كان آخر ما رأته عيناه قبل أن يتهاوى من علٍّ، هو ظله الذي بدا له أنه يغادر الأرض ليتجه نحو السماء، ظلَّ يراقب ظله حتى غاب عن ناظريه، غابت الشمس، أظلمت الدنيا، غادره ظله، لم يقاوم.. فقط أغمض عينيه ليفقد الإحساس بكل شيء.
تمَّت
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
ياره السيد محمود محمد الطنطاوي
فاطمة محمد البسريني
محمد محمد جاد محسن
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































