الأب داخل البيت ليس مجرد فرد يعيش بين الجدران، بل هو عمود الطمأنينة ومصدر الأمان الأول للجميع. وجوده يضبط الإيقاع داخل الأسرة، فهو الميزان الذي تستقيم به الأمور، والقائد الذي يمسك بدفّة السفينة في بحر الحياة المتلاطم وما فيه من صعاب وعقبات. ويكفي أن تتخيل غيابه للحظات حتى تدرك قيمته الكبرى؛ فالصورة لا تبقى كما هي، والنظام لا يظل ثابتًا، والحياة لا تمضي بذات القوة والطمأنينة.
عندما نطرح على أنفسنا سؤالًا بسيطًا: ماذا لو غاب الأب؟ تدرك أرواحنا الإجابة قبل عقولنا… وتدرك معها أن وجوده نعمة لا يُعرف قدرها إلا بفقدها.
ولعل أعظم ما يعمّق هذا المعنى هو الربط بين الربوبية في معناها الأكبر ومعناها الأصغر. فالله سبحانه وتعالى هو رب هذا الكون ومدبّره، أقام نظامه الدقيق، وبسط فيه قوانينه التي لا تختل، فهو رب الخلق الذي تكفل برعاية كل شيء وحفظه. وفي داخل البيت، يظهر انعكاس صغير لهذه المعاني، فالأب هو ربّ بيته، ليس من باب الألوهية ولا التقديس، بل من باب المسؤولية والحفظ والرعاية. كما أن لهذا الكون ربًّا يحميه، فللبيت ربّ يرعاه، يضع ضوابطه، ويُقيم توازنه، ويحفظ أهله مما استطاع.
وهذا المعنى تجسّد في واحدة من أعظم المواقف التاريخية حين أراد أبرهة هدم الكعبة، فذهب إليه عبد المطلب جدّ الرسول صلى الله عليه وسلم. ظنّ الناس أنه سيطلب منه رفع الأذى عن البيت الحرام، لكنه فاجأهم بطلب إبلِه فقط. وعندما تعجب القوم قال كلمته التي أصبحت دستورًا في فهم المسؤولية:
أنا ربّ الإبل… أمّا البيت فله ربّ يحميه.
بهذا المعنى البسيط والعميق، فهم عبد المطلب حدود دوره، وفهم الناس من بعده معنى أن يكون للبيت ربّ يقوم عليه ويحفظه.
ولو عاد بنا الزمن قليلًا إلى أنفسنا في سنوات المراهقة، لوجد كل واحد منا ذلك الفتى الغرّ الذي لا يرى في سلطة الأب سوى أوامر ونواهٍ، وقسوة يريد منها أن ينفلت بعيدًا ليأخذ مساحة من الحرية. كنا نظن أن الأب يقيدنا لأنه لا يفهمنا، ولا ندرك أننا نحن الذين لم نفهمه بعد.
ومع مرور الأيام، ندرك — ولكن بعد فوات الكثير — أننا حين فقدناه كنّا الخاسرين الأكبر. ندرك أننا لو عاد الزمن مرة أخرى، لاخترنا أن نبقى أطفالًا على كتفه، لا نكبر ولا نغادر ظله، لأنه كان الأمان الذي لم نعرف ثمنه إلا بعد أن رحل.
الأب ليس مجرد رجل في حياة الأسرة، بل هو حكمة الأيام، وصلابة الظهر، وطمأنينة الليل، واستقامة الطريق. هو الذي يحمل همّ الجميع ولا يشكو، يثبت حين نهتز، ويبتسم حين نرتبك، ويقف كجدار صامت يحمينا من رياح الدنيا.
ولذلك، فإن الأب — في دوره الإنساني العظيم — هو ربّ البيت الذي أقامه الله على كتفيه، تمامًا كما أقام هذا الكون على قوانينه الثابتة. وما أجمل أن نفهم هذه الحقيقة قبل أن نخسر من كان يستحق منا العمر كله.






































