ظلَّ نادر شاردًا بعض الوقت وهو يقلِّب بعض الملفات بين يديه بطريقةٍ لا إرادية حتى إنه لم يشعر بعامل البوفيه، الذي وضع فنجانًا من القهوة أمامه مباشرةً وهو يكرر سؤاله للمرة الثالثة في دهشة وتعجُّب:
- هل تريد مني شيئًا آخر يا أستاذ نادر؟
التفت إليه نادر وقد انتبه لوجوده، فتمتم ببعض الكلمات المبهَمة التي لم يتبيَّنها عامل البوفيه قبل أن يسمعه يقول له بابتسامةٍ باهتة:
- يمكنك أنت الانصراف، وسأغلق أنا المكتب عقب انصرافي.
أخذ يرتشف قهوته بنهمٍ وهو يدخن سيجارته بشراهة، وما زال فكره شاردًا فكأنما جسده هنا وعقله بمكانٍ آخر تفصلهم آلاف السنوات الضوئية.
بعد مرور فترة من الزمن..
جلس نادر ينفث دخان سيجارته مراقبًا الدخان المتطاير بالهواء الذي يشكِّل خيطًا طويلًا يصعد إلى الأعلى، وسرعان ما يتلاشى من ثَمَّ يختفي ويتطاير في الهواء.
استفاق من شروده على إثر شعوره بيدٍ قوية تتكئ على كتفه من الخلف، ما جعله يلتفت بسرعة ثم يبتسم ابتسامةً واسعةً عندما وجد أنه صديقه حسام، ليسأله حسام بدهشة:
- أين أنت يا رجل؟ لقد دخلت وتسلَّلت من خلفك وأنت لم ترَني أو تشعر بي؟
نادر كمَن وجد ضالته قائلًا في جدية:
- اجلس أولًا، فأنا أريدك بأمر مهم حقًّا.
- حسام، ألن تسألني حتى ماذا أشرب؟!
نادر: لو أجبت على سؤالي فلك حرية اختيار أي مكان نذهب إليه للعشاء.
معقِّبًا بقوله:
- ولا تقلق فأنا من سيدفع الحساب.
استطرد نادر قائلًا دون أن يعطي حسام حق الرد:
- هل ترى هذا الدخان المتطاير من سيجارتي؟
حسام: هل هذا هو الأمر المهم الذي تريدني من أجله حقًّا أم أنك تمزح؟!
نادر متنهدًا:
- دَعنا لا نستبق الأحداث، فقط أجبني وسأخبرك بكل شيء لاحقًا.
حسام بتهكُّم: نعم يا سيدي، أراه وبوضوح.
نادر بشرود: إلى أين يذهب؟
حسام بضيق وتأفُّف: حسنًا سأخبرك.
ليستطرد قائلًا ببساطة: إنه يتبخَّر.
نادر: ربما هذا مقبول ومنطقي بالنسبة للدخان، لكن هل يمكن لإنسانٍ راشدٍ له حياته وعالمه الذي يحيط به من عملٍ وأسرةٍ وجيران وأصدقاء أن يتبخَّر مثل هذا الدخان دون أن يترك خلفه أي أثر؟ هل يُعقَل ذلك؟ هل يمكننا التعامل مع ذلك والقبول به؟
حسام وقد استرعته الكلمات وجعلته ينظر لنادر مشدوهًا وقال:
- لا أدري حقًّا ماذا تقصد بقولك هذا، فهل أوضحت لي ماذا تقصد بحديثك؟
ليعقِّب قائلًا: لا أنكر أنك قد أثَرْت فضولي وبشدة.
نادر وقد عاد للوراء حاملًا بين يديه ملفًّا ممتلئًا بالأوراق وهو يلوِّح به قائلًا:
- هل تذكر ذلك الرجل الذي أخبرتك عنه منذُ عدة شهور؟
حسام: مَن تقصد؟ وأي رجل؟ ألم أخبرك عن تلك الأسرة التي جاءت لي لتطلب مني البحث والتحرِّي عن عائلها بعد أن فقدوا الأمل في عودته أو إيجاده؟
حسام وقد تذكَّر الواقعة: أليس هو ذلك الرجل المرموق؟
استطرد قائلًا: أخبرتك وقتها أنه ربما يكون قد اختُطِف أو تعرَّض لحادث ومات، وربما يكون غادر البلاد مع إحداهن.
نادر: لا شيء من ذلك، فحتى الآن لم يتصل بأسرته أي أحد طلبًا للمال كفدية، كذلك لا يوجد له أي أثر بالمستشفيات الخاصة أو العامة، ولا يوجد له أي ذكر بأقسام الشرطة أو السجون، كما أنه ومن خلال البحث بجميع المنافذ البرية والجوية والبحرية ثبُت أنه لم يغادر البلاد مطلقًا، كما أنَّ جواز سفره ما زال بحوزة أسرته.
حسام وهو يومئ برأسه علامة الدهشة والتعجب: ربما ربما…
استطرد قائلًا: لكن ماذا يعنيك بهذا؟ ألم يتوقف أهله عن البحث عنه كما أخبرتني؟ أم أنك غاضب لعدم حصولك على المكافأة الضخمة التي رصدتها أسرته لمن يعثر عليه؟
نادر بضيق: تعلم أنني ومنذ فشلت بالالتحاق بكلية الشرطة وعقب تخرجي من كلية الحقوق قد أسَّست عملي تحريًّا خاصًّا، وبذلك كنت أول تحرٍّ خاص في المنطقة العربية بأَسْرها، وأنت لا تنكر أنني ومنذ ذلك الحين لم أفشل بأي مهمة قد أُسندت لي، أليس كذلك؟
حسام ضاحكًا: عليك أن تتذوَّق بعض الفشل لتشعر بطعم النجاح.
نادر: ستظل هذه القضية تمثِّل لي تحديًا خاصًّا، ولن أستسلم حتى أحلَّ شفرتها وفك طلاسمها.
قال ذلك وهو يتابع ببصره خيوط الدخان التي تتصاعد لأعلى من ثَمَّ تختفي وتتلاشى دون أن تترك خلفها أي أثر.
بعد فترة وجيزة من الزمن حيثُ كورنيش النيل كان الطريق العام مزدحمًا بالسيارات في الحارات المخصَّصة لها، بينما بعض المارة والدراجات النارية والدراجات الهوائية ينتظرون في ضيقٍ وتأفُّف الإشارة الخضراء للمرور للجهة المقابلة أو المضي في طريقهم، كان الكورنيش يعجُّ بالبشر ويضجُّ بالباعة الجائلين ممن أصبح الكورنيش مصدر رزقهم الوحيد، فهذا يشوي الذرة على الفحم، وذلك يبيع العصائر والمياه الغازية، بينما هناك مَن يبيع الشاي ويعرضه بإلحاح على الجالسين والسائرين، فما إن يلمحوا شابًّا وفتاةً أو رجلًا وزوجته حتى يزداد الإلحاح حد السماجة والصفاقة.
كان الكورنيش يمثِّل عالمًا موازيًا للطريق العام، عالمًا مستقلًّا بذاته.
وسط هذا الضجيج كان نادر يسير شاردًا يتأمَّل الناس من حوله، يتجوَّل ببصره بين النيل بزُرقته وهدوئه وبين الناس بملامحهم المرهقة والمتعبة دون أن تفصح أو تبوح بشيء وكلاهما النيل والناس يخفون بداخلهم أكثر مما يظهرون.
شعر ببعض الإنهاك والتعب، فقرر الجلوس على تلك الأريكة المواجهة للنيل دون أن يشيح ببصره عن هذا العالم من حوله الذي يشبه لوحةً سرياليةً تحتاج لمن يراها معكوسةً ربما يستطيع وقتها أن يفهمها.
كان ينفث دخان سيجارته بشراهة قبل أن يشعر بأحدهم يقترب منه ببُطءٍ وحذَر حتى أصبح قريبًا منه، كاد يلتصق به ليضع شفتيه على أذنه وهو يقول هامسًا وكأنه يحذره من أمرٍ خطير:
خروج مباغت 2
ــــــــــــــــــــــ
- حذارِ أن تمعن النظر وتدقِّق، وإلا فلن تصبح أنت أنت.
ليعقِّب قائلًا: إن دقَّقت سترى بوضوح، وإن رأيت ستنضم لمن ذهبوا ولم يعودوا.
قال ذلك ليبتعد مسرعًا تجاه سور الكورنيش من ثَمَّ يفترش الأرض فوق التراب، ليرسم أشياء مبهَمةً على الأرض لم يستطِع نادر أن يتبيَّنها أو يراها بوضوح.
ما حدث كان مُباغتًا لنادر وبالوقت نفسه أثار دهشته، فكلمات الرجل كانت عميقةً وبلغة واضحة ولا تخرج من رجل مشرَّد رثِّ الثياب رغم أنَّ ملابسه تدل على أنها بيومٍ ما كانت ملابس راقية.
كان الرجل المشرَّد أشعث الشعر قد نمَت لحيته حتى غطَّت الكثير من ملامحه، ذو شارب كث يتدلَّى على شفتيه فيتلاحم مع لحيته ليغطي شفتيه فلا يظهر منهما شيء.
أخذ نادر يراقبه بعينيه وقد استرعته الكلمات، كما أنه وبعُمق ذاكرته البعيدة شيء ما يخبره أنَّ ملامحه ليست غريبةً عنه، وأنه يتذكَّر أنه يعرفه أو ربما قد رآه من قبل في مكانٍ ما أو زمانٍ ما.
حاول أن ينادي على الرجل الذي كان يحاول النهوض دون التوقُّف عن الرسم والنقش فوق التراب، أشار له أن يأتي إليه دون فائدة فالرجل كان مشغولًا عنه بما يفعله في تركيزٍ شديدٍ، وكأنه فنان يخطُّ بالألوان على لوحة فنية فلم يعِره أي اهتمام.
كرَّر نادر محاولته مع إخراج بعض النقود ربما ينجح باستدراجه، لكن دون جدوى، فالرجل ينظر إليه بابتسامة ساخرة وهو يحرِّك شفتيه قائلًا فيما معناه:
- لقد حذَّرتك أيها الغبي، لقد حذَّرتك فلا تلومنَّ إلا نفسك..
تملَّكت الدهشة من نادر وقد استحوذ على تفكيره شيء واحد ألَا وهو: مَن هو؟ وماذا يقصد؟ ولماذا اختاره هو وحده دون الآخرين!
تحرَّك نادر نحوه بخطواتٍ متردِّدة وهو يقترب منه ودقات قلبه تتسارع بعنف وشدة، حاول أن يجعله يتوقف عما يفعله دون جدوى، فلم يكن أمامه سوى أن يجذبه للأسفل، من ثم يجلس بجواره لتتكون صورة شاذة بالنسبة للمارة المارقين بجوارهم ومن حولهم، فكيف يجلس ذلك الشاب الأنيق المهندَم بجوار ذلك المشرَّد رث الثياب؟
مئات الأسئلة بل الآلاف منها يتسابق داخل رأس نادر في سباق محموم، أبسط تلك الأسئلة: ماذا قلت لي للتو؟ وماذا تقصد؟ ولماذا أنا؟ ولمَ أنت هنا؟
اختصر نادر كل ذلك بسؤال واحد ردَّده عدة مرات:
- مَن أنت؟ مَن أنت؟
ببادئ الأمر ظنَّ نادر أنه درويش يتصنَّع الجنون لاستدرار عطف المارة للحصول على بعض المال أو بعض الطعام ليسد به جوعه، كرر سؤاله في حدة:
- مَن أنت؟ مَن أنت؟
كان ذلك هو السؤال الملِح.
نظر المشرَّد إليه بذُعر وهو يقول له محذِّرًا:
- إن أخبرتك سيصيبك الضرر، فلا ضرر على مَن لا يعلم، وإن علِمت فلا عُذر لك أو مبرر.
نادر: ماذا تقصد؟ وماذا ستخبرني؟ وما ضير ذلك إن علِمت؟
المشرَّد بفلسفة تناقض هيئته:
- أحيانًا الجهل بالشيء أفضل من معرفته، كما أنَّ بعض المعرفة جنون وعذاب.
نادر بضيق: وأنا أقبل بذلك، فقط أخبرني بكل شيء، ولماذا أشعر أننا قد التقينا من قبل؟
المشرَّد وهو يتلفت من حوله قائلًا بصوتٍ خفيض:
- أنا علمت، وكان يجب عليَّ أن أنضم لهم، وإلا فهم لن يسمحون لي بالحياة بعيدًا عنهم.
نادر: ماذا علمت؟ ولمن انضممت؟
المشرَّد بتمتمة مبهَمة: علمت بوجودهم من خلال مراقبتهم ومتابعتهم.
أردف قائلًا بثقة: إنهم كثيرون ويتزايدون، ويومًا ما سيُفاجئون الجميع بخروجهم.
نادر: مَن هم؟
المشرَّد وهو ينظر للفراغ ويشير للمجهول: ألَا تراهم حقًّا؟ انظر حولك، إنهم في كل مكان، فقط ينتظرون الوقت المناسب.
قال ذلك ليقفز فجأةً ويغادر للجهة المقابلة بطريقةٍ عشوائيةٍ أربكت المارة والسيارات، بينما نادر يتابعه في ذهول وهو يختفي ويتلاشى وسط الزحام.
بعد فترة من الزمن…
أخرج نادر بطاقة تعريف لأحدهم ثم اتصل بأحد الأرقام المدوَّنة على البطاقة، وما إن أتاه صوت محدِّثته الأنثوي من الطرف الآخر حتى تنحنح وهو يعتدل قائلًا بتردُّد:
- معذرةً سيدتي إن كان اتصالي بوقت غير مناسب أو أزعجكِ، لكن هل يمكنك تحديد موعد لي للحضور ولقائكِ صباح الغد؟
ليقول معقِّبًا: فقط بعض الدقائق.
صمَتَ بُرهةً ليستمع إلى صوت محدِّثته قبل أن يقول بخجل:
- نعم، أعلم ذلك، ولن آخذ من وقتكِ الكثير.
تنهَّد قائلًا:
- حسنًا، شكرًا لتفهُّمكِ.
اليوم التالي..
ببهو إحدى الشقق الفاخرة والمطلة على النيل مباشرةً جلس نادر يحمل بين يديه الملف نفسه وهو يقلِّب بعض أوراقه في حيرةٍ وصمت، لم يقطع صمته سوى دخول سيدة في نهاية العقد الرابع من عمرها، يبدو من مظهرها أنها تنتمي للطبقة الأرستقراطية ذات الثراء والنفوذ.
جلست السيدة قُبالته مباشرةً وقد بادرته هي بالحديث قائلة:
- ألم تحصل على كل مستحقاتك؟ أم ربما لديك أخبار جديدة؟
نادر: صدقًا ليس هذا سبب حضوري، فأنا لم آتِ من أجل المال، كذلك يؤسفني أنه لا توجد أي أخبار غير التي أرفقتها بالملف الذي قدَّمته لك بنهاية المهمة.
السيدة: لماذا إذًا طلبت الحضور؟
نادر: أريد أن أفهم فقط.
أردف متردِّدًا: هناك شيء مبهم، أو ربما حلقة مفقودة بهذا الأمر، ربما لو توصَّلت لها يمكنني فهم ذلك الغموض.
السيدة بتململ وضجر: لقد انتهى الأمر بالنسبة لنا ولك يا أستاذ نادر، ومحامي العائلة ينهي الأمور القانونية المتعلِّقة بالغياب، وأعتقد أنَّ دورك قد انتهى، خاصةً وأننا أنهينا تكليفك بالأمر بالفعل.
نادر آخذًا نفسًا عميقًا:
- ربما يكون الأمر قد انتهى بالنسبة إليكم، لكن بالنسبة لي ما زال يسيطر على كل حواسي، بل ويؤرِّقني، وكل ما أريده هو أن أفهم.
السيدة بحدة: وماذا تريد أن تفهم؟
نادر: ما الذي يدفع شخص ناجح ومرموق للاختفاء هكذا؟
شخص ناجح ذو مركز مرموق وأيضًا ثري يمتلك أسرةً سعيدة؟
السيدة بحُنق: لو كنا نعلم ما كنا استعنَّا بجهودك رغم...
لم تنهِ السيدة عبارتها، ما دفع نادر للقول ليكمل عبارتها:
- رغم فشلي؛ أليس هذا قصدكِ؟
السيدة: ما زال غيابه يمثِّل لغزًا بالنسبة للشرطة ولنا، كما يمثِّل لغزًا بالنسبة إليك، لكن ما عاد بأيدينا شيء لنفعله.
نادر متوسلًا: فقط سؤالين وسأنصرف مباشرةً، ولن أزعجك بعدها أبدًا.
السيدة: حسنًا، لك هذا، سَل ما شئت.
نادر: هل كانت علاقته بك وبأولاده جيدة؟ وهل كان يحب عمله؟
السيدة بلا مبالاة: حقيقةً كان لكلٍّ منَّا عالمه الخاص، فميولنا تختلف عن أولادنا، لاختلاف الأجيال وعدم قدرتنا على التواصل.
كذلك أنا سيدة مجتمع ووقتي موزَّع ما بين الجمعيات الخيرية وعملي الخاص، بينما كان هو منهمكًا في عمله، بل إن شئت فقُل منغمسًا فيه لأقصى درجة.
نادر: هل يعني ذلك أنه كان يحب عمله؟
السيدة: أعتقد هذا، فقد كان يدير فرع شركة عالمية خاصة بالأبحاث الميدانية والإحصاء، ورغم أنه كان مديرها الإقليمي فإنه كان يجري أحيانًا ببعض الأبحاث الميدانية بنفسه، خاصةً عندما تكون التقارير غير مُرضية بالنسبة له.
نادر: آخر سؤال.. هل لديه مفكرة أو أجندة أو حتى أي أوراق يمكنني أن أطَّلع عليها؟
السيدة بعد تفكيرٍ مطوَّل: أعتقد هناك مفكرة بغرفة المكتب، سأبحث عنها.
أتبعت عبارتها بقولها: انتظر قليلًا وسأحضرها لك إن وجدتها.
غابت السيدة بعض الوقت قبل أن تأتي وبين يديها مفكرة صغيرة، أعطتها له قائلة:
- كان يكتب بها بعض خطط العمل وخريطة التوزيع، وقد اطَّلع عليها المحققون، لكنها لم تفِدهم في شيء، يمكنك الاطلاع عليها وإحضارها فيما بعد.
نهض نادر وهو يشكرها وفي الوقت نفسه اعتذر لحضوره وضياع وقتها.
غادر وهو في طريقه لمكتبه شارد الذهن وملامح ذلك المشرَّد تحتل كل تفكيره خاصةً بعد هذه الكلمات المبهَمة التي ألقاها على مسامعه، والتي كانت تمثِّل له ألغاز وشفرات تحتاج للحل، نظر إلى المفكرة الملقاة على مقعد السيارة المجاور له وهو يقود سيارته وسط هذا الكم من الضجيج والزحام، كان يقود بيديه بينما عيناه وعقله يبحثان وسط الوجوه عن ذلك المشرَّد وحده دون غيره، كانت الشوارع تكتظ بالمشرَّدين وقد تجاوز أغلبهم العقد الرابع والخامس من عمره يتشاركون الهيئة نفسها بتلك الملابس البالية و اللحية الكثيفة، ونظرة لا يستطيع أي إنسان فهمها أو تفسيرها، وصل نادر لمكتبه فترجَّل عن سيارته ودلف إلى الدرج يسابق الوقت لقراءة المفكرة، فربما تفيده بشيء أو تجعله يمسك ببداية الخيط الذي قد يقوده لحل لغز هذا الاختفاء المفاجئ.
بينما يصعد الدرج أفلت الملف من بين يديه، وتناثرت الأوراق على عتبات الدرج، جمعها بتأفُّف وما كاد ينتهي حتى وقعت عيناه على ما جعله يتوقَّف للحظات فاغرًا فاه وهو يقارن بين ما رآه وما هو محفور بذاكرته، ليقول بصوتٍ مشدوه وفي دهشة: كيف فاتني ذلك؟
خروج مباغت 3
ــــــــــــــــــــــ
ما زال الصوت يهتف داخله: كيف فاتني ذلك؟ كان ما زال يمسك بين يديه ورقةً من داخل الملف تشير لطبيعة عمله بتلك المنظمة المتخصِّصة في القيام بأبحاث ميدانية، للحصول على استطلاعات عشوائية للرأي العام، كما لاحظ أنَّ آخر مهمة أشرف عليها كانت عبارةً عن بحث ميداني عن المشردين وكيفية تحوُّلهم لمشردين، نعم، لا بُدَّ أنَّ هناك علاقةً ما بين ذلك الغائب وما حدث معه بالأيام الأخيرة خاصةً ذلك الحوار الغريب الذي دار بينه وبين ذلك المشرَّد، تُرى هل هناك علاقة بينهما؟ هل تكون بداية الخيط من ذلك المشرَّد؟
تناول نادر المفكرة آمِلًا أن يجد بداخلها ما يستحق عناء إحضارها، كانت مفكرةً عاديةً بالصفحات الأولى مجرد أسماء وأرقام هواتف، كما لاحظ وجود تواريخ محدَّدة وذكر لبعض التوقيتات، ظلَّت المفكرة هكذا حتى وصل إلى منتصفها، فقد وجد بالمنتصف بعض العبارات البسيطة والمبهَمة في الوقت نفسه مثل أطفال الشوارع والمراحل العمرية كذلك هروب القاصرات، وجد أيضًا عبارات مثل المشاريع الصغيرة أو القروض والغارمين، توقَّع نادر أنَّ هذه العبارات ليست سوى مقدِّمات لأبحاث ميدانية عن هذه الفئات.
قلَّب صفحات المفكرة حتى وجد تلك الكلمة التي استوقفته كثيرًا ألَا وهي "المشرَّدين" وتحتها عدة خطوط، تكرَّرت الكلمة نفسها مع إضافة بعض الكلمات مثل: الفئة العمرية، العمل، مكان الميلاد، ظلَّت هذه الكلمة تتكرر كثيرًا وبشكلٍ مبالَغ فيه مع رداءة واضحة بالخط تدل على اهتزاز الأصابع،
بالصفحات الأخيرة كانت توجد الكلمة نفسها "المشردين" مع بعض الكلمات مثل فقد الأمل أو اللامبالاة أو التأمُّل والمراقبة حتى وصل لتلك الكلمة التي جعلته يشعر بالحيرة مع قشعريرة سرَت بجسده دفعةً واحدة، كانت العبارة التي قرأها هي "خروج مباغت".
ترك المفكرة من بين أصابعه ليضع رأسه بين يديه ويعتصرها بقوة حتى ظنَّ أنها ستنفجر، أغمض عينيه وبحركة لا إرادية وجد نفسه يستعيد ملامح ذلك الرجل المشرَّد الذي صادفه على كورنيش النيل، كانت ملامح الرجل تسيطر عليه كليًّا وهو يحاول جاهدًا التذكُّر أين ومتى رآه، وفي وميضٍ خاطف داخل عقله لمح ضوء يشبه الشعاع يشير نحو الملف الخاص بالتحرِّي عن ذلك الثري المفقود، هبَّ واقفًا يبحث عن الملف حتى وجده، وبسرعةٍ شديدةٍ فتحه ليبحث عن تلك الصورة الوحيدة للرجل، التي أعطته إيَّاها أسرته للبحث والتحري، ظلَّ يحدِّق بالصورة مليًّا وهو يستعيد ملامح المشرَّد حتى هتف بصوت مسموع كأنه يحدِّث شخصًا ما يجلس معه قائلًا في ثقةٍ ويقين:
- نعم، لو هذَّبنا اللحية وخفَّفنا شعر الرأس وتخيَّلنا المشرَّد نفسه بتلك الملابس الأنيقة فلن يصبح لدينا شخصان، بل شخص واحد فقط مع تفاوت الهيئة، هنا أدرك -وبيقين- أنه سيجد ضالته بذلك المشرَّد، لكن سيظل هناك سؤال يطرح نفسه ألَا وهو: هل سيجده هناك؟ ماذا لو كان يتنقل من مكانٍ لآخر ولا يقيم في المكان نفسه؟ هل سيفقده بعد أن وجده هكذا؟
وظلَّت هذه التساؤلات تلحُّ عليه لتصنع داخل ذهنه ضجيجًا لا طاقة له به، حسم أمره وقرَّر الخروج دون السيارة حتى لا تقيِّده، ليكون حرًّا في التنقل من مكانٍ لآخر، ركب سيارة أجرة على عجل وهو يقول للسائق:
- كورنيش النيل لو سمحت.
ما إن وصل لبداية الكورنيش حتى ترجَّل سيرًا على الأقدام وهو يتأمل الوجوه من حوله ويحدِّق بكل المشرَّدين؛ عساه يجد ضالَّته فيما بينهم، لساعاتٍ طويلةٍ ظلَّ يسير فوق الكورنيش يتأمَّل الناس من حوله ويسأل بعضهم عن ذلك الرجل المشرَّد ذو اللحية الكثَّة والشعر الكثيف، بعضهم كان يقول: "رأيته بالأمس أو منذُ ساعات"، وهناك مَن يخبره أنه رآه بميدان التحرير وآخرون يخبرونه أنهم يرونه غالبًا تحت الكباري، منهم مَن كان ينظر إليه دون أن يجيب ومنهم مَن ظنَّه مجنونًا.
ظلَّ هكذا يبحث فوق الكورنيش وتحت الكباري دون جدوى، شعر بالإرهاق والتعب إثر ذلك المجهود الذي بذله لساعاتٍ متواصلة دون أن يرتاح أو يأكل أي شيء ، لم يكن أمامه سوى خيارين، فإمَّا العودة للمنزل ومتابعة البحث بالغد أو الذهاب إلى ميدان التحرير كما نصحه البعض، أغمض عينيه وهو يتنهَّد في عُمقٍ بينما صور متلاحقة تتلاعب بخياله المنهَك مستعيدًا كل ما حدث معه مُذ بدأ الأمر حتى هذه اللحظة التي يعيشها الآن، شريط سينمائي بخاصية الفلاش باك يدور أمام عينيه، لتتوقف الصورة أمامه على صورة ذلك الثري الغائب ومشرَّد الكورنيش…
بعد تفكيرٍ لم يتجاوز الثواني حسم أمره وقرر مواصلة البحث عن ذلك المشرَّد بميدان التحرير..
تنهَّد بحزنٍ ممزوج بالأسى وهو يتذكَّر ذكريات لا تُنسَى، كانت الذكريات تتدافع داخل عقله بهذا الميدان، ذكريات أمست مصبوغةً بلون الدم ورائحة الموت.
استقلَّ سيارة أجرة وتوجَّه مباشرةً للميدان، وهناك ترجَّل من السيارة وسار وسط الضجيج يطالع المباني والوجوه، لم يكن بالنسبة له مجرد ميدان بل عالم وحياة، فهو لكم اشتاق للأماكن ورائحتها التي لم تغادر أنفه، نعم.. لبعض الأماكن رائحة لا تخطئها الأنوف، وحنين لا تسلوه القلوب؛ فهو لم يكن مجرد ميدان بل هو حياة.
حياة اختلطت فيها عدة ثقافات واتجاهات مختلفة توحَّدت خلف هدف واحد رغم تفاوت واختلاف الإيدلوجيات ووجهات النظر.
فجأةً وجد نادر نفسه وسط الميدان يبحث بعينين زائغتين ومجهدتين عن شخصٍ واحدٍ وسط هذا السيل من البشر كمَن يبحث عن إبرة داخل كومة من القش، كاد يفقد الأمل وشعر باليأس بعد أن مرَّ الكثير من الوقت ولا أثر لذلك المشرَّد الذي استحوذ على تفكيره وخياله، كان الميدان وما حوله يكتظ بالمتسولين والمشرَّدين من جميع الأعمار ومختلف الأشكال، حدَّث نفسه عن الفارق بين المتسول والمشرَّد، وشتَّان ما بين الاثنين، فالأول قد امتهن التسول ليصبح مهنته التي يقتات منها، فهو لا يحتاج للمال فقط بل هو يجمعه ويكنزه حتى يفاجئنا يومًا ما أنه من أصحاب البنايات والأرصدة داخل البنوك، أمَّا الثاني وهو المشرَّد فله ظروف أخرى ومختلفة، فهو أقرب للعاجز منه للمحتاج، هو شخص تكالبت عليه الظروف ليتحول لشخص بلا هُوية، وأحيانًا بلا عقل أو هدف، إنسان لم يستطِع الحفاظ على آخر شعرة بعقله فاستسلم للجنون، تراكمت على نادر الأفكار والتساؤلات، وقبل أن يصيبه اليأس ويهُمُّ بمغادرة المكان لمحه من بعيد يجلس بوسط الميدان منزويًا تحت شجرة عتيقة تساقطت جميع أوراقها حتى تعرَّت من كل شيء، فأمسَت كعجوز شمطاء تركت التجاعيد آثارها على ملامحها، مَن يراها من بعيد يظن أنها شبح باهت لا ظلَّ له، مَن لا يعرف قدرها حقًّا يظن أنه لا فائدة تُرجَى منها، شجرة مريضة لا علاج لها، بل أنَّ موتها رحمة لها حتى إنه لن يفتقد أحد شجرةً لا ظل لها أو ثمر، كانت بالنسبة للجميع شجرة تحمل جينات الربيع بينما يغزو ملامحها الخريف، شجرة لا هي عقيم ولا مثمرة إنما حُبلى بجنينٍ مشوَّه استُئصِل بلا رحمة، لتفقد حاضرها رغم جذورها الضاربة في عُمق الزمن والتاريخ.
مباشرةً توجَّه إليه دون أن يشيح عنه ببصره خوفًا من أن يفقد أثره لو تغافل عنه ولو لثوانٍ.
ما إن وصل نادر إلى المشرَّد حتى جلس بين يديه وهو يتنهَّد قائلًا بثقة وزهو:
- أعرف مَن تكون.
نظر الرجل إليه شذرًا قائلًا: اصمت ولا تتحدَّث بجهلٍ وعتَه؛ فأنت لا تعرف أي شيء ، أنت لست إلا جاهلًا متكبرًا مثلهم.
نادر بتوسُّل: لو تعلم مدى حيرتي والجهد الذي بذلته في سبيل الوصول إليك ما تجاهلتني هكذا وما فررت مني كلما رأيتني.
الرجل وقد هَمَّ بالانصراف قائلًا: لقد حذَّرتك من قبل، لكنك لا تعرف خطورة ما تفعله.
نادر وقد أخرج المفكرة من طيَّات ملابسه، ليكرر كلامه مرة أخرى وهو يقول في ثقةٍ وتحدٍّ:
- أعرف مَن تكون.
هنا تسمَّر الرجل مكانه للحظات وهو يطالع المفكرة ليقول بصوتٍ أقرب للاستسلام:
- لو أخبرتك بحقيقة الأمر هل تعِدني بعدم إخبار أي أحد عن مكاني أو حتى إثبات وجودي على قيد الحياة؟
نادر: لكن كل ما أريد أن أفهمه لماذا؟
خروج مباغت 4
ــــــــــــــــــــــ
وقبل أن يتم عبارته كان المشرَّد يقول بصوتٍ خفيضٍ لكن بحدة:
- عليك أن تعِدني بذلك أولًا، أو فاتركني أذهب لحال سبيلي.
نادر مستسلمًا: حسنًا، أعِدك بذلك.
جلس الرجل المشرَّد تحت الشجرة مرة أخرى وهو يدعو نادر للجلوس قائلًا برويَّة وكأنه يستعيد ذكرياتٍ بعيدة، بدأ الأمر منذُ عام أو أكثر بقليل حيثُ كنت أنتمي للطبقة الثرية المخملية، فلا أعاني أي صعوبات من مصاعب الحياة، حيثُ تتوفر لي حياة رغدة، كانت أسرتي تشبه آلاف الأُسَر ظاهريًّا بينما الأبواب تخفي الكثير خلفها، وكما يقولون في الأمثال الشعبية "البيوت أسرار"، زوجتي لها عالمها الخاص كسيدة مجتمع، حيثُ الحفلات والسهرات اليومية تمتدُّ من بداية الليل حتى تباشير الصباح، بينما أولادي ينتمون لعالمٍ آخر غير عالمنا وجيل يختلف كليًّا عن جيلنا، لهم قواعد تختلف عن قواعدنا ولغة غير لغتنا وتفكير لا يشبه تفكيرنا.
استطرد يقول: كل هذا كان مقبولًا ويمكن التعايش معه بشكلٍ أو بآخر حتى حدث ما لم أكن أتوقَّعه أبدًا…
هَمَّ نادر بمقاطعته إلا أنه أشار إليه بأن يصمت قائلًا:
- لُطفًا لا تقاطعني، فقط أنصت لما أقول وستفهم كل شيء في وقته.
تابع حديثه ليقول بأسى: بدأ الأمر معي عندما بدأت أدقِّق في كل شيء، حيثُ بدأت بمتابعة الناس من حولي، ومن كثرة متابعتي لبعض العينات العشوائية للشرائح التي تكون أهدافًا مناسبةً لأبحاثنا واستطلاعاتنا شعرت بعدم جدوى الحياة، ببساطة شعرت بلامبالاة لأي شيء ولكل شيء ، لم أكن أظن أنَّ متابعتي وتدقيقي بالحياة ومَن ينتمون لها ستقودني إلى طريقين لا ثالث لهما، وهأنذا كما ترى، وبعد معاناةٍ شديدة قد وجدت طريقي ولن أعود منه حتى تتحقَّق النبوءة..
ظلَّ نادر يستمع للمشرَّد في شغفٍ كأنه يجلس في حضرة فيلسوف من فلاسفة العصور القديمة، بينما يتساءل في دهشة:
- أي نبوءةٍ تقصد؟
تجاهل المشرَّد الرد على سؤاله وقال في حزنٍ وأسى:
- كما أخبرتك، لم يكن أمامي سوى طريقين؛ أولهما أن أستمر بحياتي كما هي متجاهلًا الأمر كما لو أنه لا شيء يحدث، أو أنَّ ما يحدث لا يستحق التوقف.
نادر مقاطعًا: لم أفهم ماذا تقصد بقولك وكأن لا شيء يحدث؟!
المشرَّد وهو يعود بذاكرته للوراء متنهِّدًا بحسرة وألم:
- كان يجب عليَّ أن أغض البصر عن كل شيء من حولي، لأتحول -كما الجميع- إلى آلة لها كتالوج، مَن صنعها وضع لها نظام تشغيل مسبَق يجب ألَّا يخالفه أحد أو يحيد عنه، نظام محدَّد مسبَقًا ولا يحق لي تعديله أو تجاوزه.
نادر: ما زلت لا أفهم كيف لمن كان مثلك ينتمي لتلك الطبقة الراقية، بنظر الجميع شخص محظوظ يمتلك كل شيء من مقومات الحياة والرفاهية، فلماذا قد يعتريك هذا الشعور بالبؤس؟
المشرَّد: يومًا ما وعلى حين غُرَّة وجدت أنني مضطر للتوقُّف للحظات مع نفسي، كان يجب عليَّ أن أتوقف لأستعيد حياتي الماضية وأتوقف أمام حياتي الحاضرة لأسأل نفسي سؤالًا واحدًا، سؤال لم أجد له إجابةً تريحني عندي أو عند أحد ممن حولي ألَا وهو: وماذا بعد؟ يومًا ما توقفت ونظرت بالمرآة محدِّثًا نفسي: ماذا تريد؟ ما شكل المستقبل وكيف سيكون؟ كنت قد وصلت لمرحلةٍ من اللامبالاة المزعجة بل القاتلة، مرحلة أصبحت أرى فيها كل شيء مملًّا ورتيبًا ولا هدف لي في هذه الحياة.
نظر نحوه نظرةً ذات مغزى ليقول في ألم:
- لقد فقدت الشغف، هل تعرف ماذا يعني أن يفقد الإنسان شغفه بالحياة؟ يفقد شغفه عندما يفقد العدالة، عندما يفقد أمانه، عندما يفقد الأمل في غده، بل يمكنك القول عندما يفقد إيمانه في كل شيء.
عندما تصبح حياة أي إنسان نمطيةً يشوبها الروتين، كأنَّ الحياة قد تصحَّرت والروح قد تحجَّرت.
أردف قائلًا: أصبحت بلا هدف، ولم أستطِع إيجاده، حتى إنني كنت أبحث عن أي هدف حتى وإن كان وهميًّا، ليعطيني الحافز للمواصلة.
نادر: ربما كنت تحتاج للإيمان واليقين ومع عدم وجودهما وصلت لليأس والقنوط.
ليعقِّب على قوله متسائلًا: وماذا عن عملك؟ ألم يكن حافزًا كافيًا؟ زوجتك.. أولادك.. محيطك.. الأصدقاء والزملاء، كل هؤلاء ألم تجد بينهم حافزًا؟
المشرَّد وهو ينظر لنادر شذرًا قائلًا في لامبالاة: كل ما ذكرتهم لم يكونوا سوى أدوات إلهاء سرعان ما تفقد رونقها ويخبو بريقها خاصةً عندما تجد نفسك وحيدًا وسط الجميع.
نادر متسائلًا: وهل كان البديل لذلك أن تتحول لمشرَّد هكذا؟ ألَا يبدو ذلك شيئًا خارجًا عن المألوف ويشذ عن العقل والمنطق؟
المشرَّد: ألم أخبرك أنك لن تستطيع فهم الأمر، فأنت ما زلت مثلهم أيها المسكين لم تدرك حقيقة الأمر، نعم، وربما أنت أيضًا أداة من أدوات الإلهاء كالعمل ومباريات كرة القدم ورحلة البحث عن لقمة العيش، فتظل كما الثور مغمَض العينين لا يدري أنه يدور في حلقة مفرَّغة بلا نهاية.
نادر: حسنًا، وأنا الآن أريد أن أفهم وكلي أذانٌ مصغية.
المشرَّد وهو يردِّد في صوتٍ خفيض: عندما تُنزَع الغمامة من فوق عينَي الثور سيتوقف، لأنه سيدرك أنَّ طريقه بلا نهاية، لذلك يجب أن يظل مغمض العينين حتى يؤدي مهمته الموضوعة له مسبقًا.
نادر: يبدو أنك تتحدث بما يفوق قدرتي على الفهم.
تطلَّع المشرَّد نحوه في شفقة قائلًا: لكلٍّ منَّا دوره في هذه الحياة حتى يؤديها، وجب عليه أن يظل مغمَض العينين، ببساطة لن يسمحوا لك بنزع الغمامة حتى لا تتوقف.
أومأ نادر برأسه علامة عدم الفهم ليشيح المشرَّد ببصره بعيدًا قائلًا وقد عاد بذاكرته للوراء: كان آخر بحث أجريناه عن المشرَّدين يستهدف معرفة الأسباب التي أودت بهم لهذا الطريق، ومن خلال العينات العشوائية توصَّلنا لشيء خطير وصادم، فالنسبة الأكبر لم يكن تشرُّدها بسبب الحاجة أو فُقدان العقل، إنما فقدان الرغبة والشغف في الحياة، وهي مرحلة ما بعد فُقدان الهدف ونمو الشعور باللامبالاة وعدم الانتماء لشيء، ما أصابهم باكتئاب مؤقَّت سرعان ما تغوَّل هذا الشعور وأخرجهم من الحياة كرد فعل لعدم التصالح مع أنفسهم أو مجتمعهم.
نادر: هل تعني أنهم وصلوا لذلك برغبتهم ومحض إرادتهم؟
المشرَّد: ربما ببادئ الأمر كان يبدو ذلك، لكن وبعد أن انخرطت بينهم وراقبتهم من بعيد أدركت حقيقة الأمر التي غابت عن الجميع.
نادر بحماس: هل تقول أنك توصَّلت للحلقة المفقودة؟
المشرَّد وهو يتجول ببصره بالجهات الأربع: سأخبرك بسر، لكن عِدني أنك ستحفظه ولن تشي به لأحد حتى يأتي أوانه.
نادر وقد أخذته الحماسة ظنًّا منه أنه قد آن الأوان ليفهم ويزيح الغموض عن هذا اللغز الذي أرَّق حياته:
- نعم، أعِدك بذلك.
المشرَّد: هذا ما يبدو للجميع حيثُ يظنون أنَّ بعض الأشخاص فقدوا الرغبة بالحياة فغابت عقولهم.
وعقَّب قائلًا وهو يهمس بصوت منخفض: الحقيقة أنَّ هناك هدفًا آخر من وراء كل ذلك، ولم يكن هذا عفويًّا كما يعتقد الجميع.
نادر بحيرة ويأس مردِّدًا بحُنق: أي هدف؟ وأي نبوءة تلك التي تنتظر تحقُّقها؟
المشرَّد في حماس وثقة: لقد وجدنا الهدف ونحن نعمل جاهدين لتحقيقه والحياة فقط من أجله، وعندما نصل إلى الهدف ستتحقق النبوءة.
أشاح ببصره نحو المجهول قائلًا: ربما لن نحصد نحن الثمار، لكنه سيكون تعويضًا منَّا للأجيال القادمة وعمَّا اقترفناه في حقهم من آثام.
نادر وقد شكَّ في قُوَى الرجل العقلية؛ فهو يتحدث كفيلسوف تارة بينما تختلط الأمور ببعضها في معظم الأحيان، فلم يعُد يدري عمَّ يتحدث وما يقصده، ما جعله يقول ضجرًا: إن كان التشرد هدفًا فما هو هدفكم من التشرد؟
المشرَّد قال له هامسًا: هل ترى هذه الشجرة التي نجلس تحتها؟
نادر: نعم أراها، كما أرى أيضًا أنها شجرة عقيمة غير مثمرة أو مورقة حتى إنها لا توفر لنا ظلًّا يحمينا أو يقينا حرارة الشمس.
الرجل بحزن وأسى: لم تكن كذلك أبدًا، بل هم مَن أرادوها هكذا؛ فهي ذات جذور عميقة، بل هي شجرة ضاربة بعُمق الزمن، وما أصابها من ضرر فهو من صنع أيدينا، هي ليست يابسة كما تراها أو تظن، لكن هناك مَن يريدها أن تظل كذلك كما أخبرتك منذُ قليل.
نادر وقد ظنَّ أنَّ الرجل قد عاد لهذيانه من جديد، أو أنه دخل في نوبة توهان وشرود، ليسأله في ضجر:
- ومَن تعتقد أنه قد فعل أو أراد لها ذلك؟
المشرَّد وقد أصابه الذعر قال هامسًا وبصوتٍ خفيض لا يكاد يغادر حنجرته:
- "إنهم الغرباء".
استطرد قائلًا بخوفٍ وتوجُّس: لقد راقبتهم ورأيتهم، وهم مَن يتعمَّدون إسقاط أوراقها وإضعاف فروعها حتى إنني رأيتها ذات يوم وأنا أراقبها تنزف دمًا.
نادر وهو يجاريه في حديثه الغامض عساه ينتهي من تلك المهزلة ويخرج من هذا المأزق الذي أوقع نفسه فيه:
- ومَن برأيك هؤلاء الغرباء؟
الرجل في حذر وهو يتلفت من حوله: في بداية الأمر ظننتهم مثلنا، لأنهم يشبهوننا جدًّا حتى إن ملامحهم تشبه ملامحنا، لكن بالتدقيق والمراقبة علِمت وتيقَّنت أنهم ليسوا منا، وأنَّ هدفهم هو إضعاف الشجرة من خلال تساقط أوراقها ورقةً تلو الأخرى، ثم اقتلاع جذورها من عُمق الأرض بعد سحق فروعها وأوراقها تحت الأقدام.
دمعت عيناه في حزنٍ وألم قائلًا: هذه الشجرة كانت تُوحي بقدوم الربيع، لكنهم يخشون الربيع بل يكرهونه، حتى إنهم شوَّهوها وحوَّلوا ربيعها إلى خريف.
نادر: وماذا بعد؟ ما زلت لم أفهم ما علاقة كل ذلك بالمشردين، بل ماذا تفعل أنت هنا؟
الرجل: بل قل ماذا نفعل؛ فأنا لست وحدي بل نحن كُثُر، وكما ساعَدْنا الغرباء دون قصدٍ وبنية حسنة في إيذاء الشجرة وتشويهها فنحن مَن سوف يمنعهم من اقتلاع جذورها ومحوها للأبد كما يخططون.
نادر وهو يسايره: وكيف ذلك؟
الرجل: كما خرجنا من حياتنا الأولى بغتة فسوف نخرج للمرة الثانية أيضًا بغتة، سنخرج دون أن يشعروا بذلك، كما أنَّ خروجنا سيأتي مباغتًا حتى نمنعهم من تحقيق أهدافهم الشريرة والخبيثة.
نادر في دهشة وتعجب: هل كل هذا سيفعله المشردون؟
نظر المشرَّد إليه في حسرة قائلًا: بينما نحن في نظرك مشردون إلا أننا نحن حُماة الشجرة، بل نحن حُماة الحُلم الموؤود.
ما إن ألقى بعبارته الأخيرة حتى قام من مكانه مهرولًا وهو يقفز ليقول في خوف:
- ألم أخبرك أنهم قادمون؟ ألم أقل لك أنهم سيأتون؟
ليشير بإصبعه نحو الفراغ قائلًا:
- ها هم الغرباء قد حضروا، انظر إليهم، إنهم يحملون المعاول قادمين نحو الشجرة ونحونا.
نظر نادر حيثُ كان يشير المشرَّد بكلتا يديه نحو المجهول، لكنه لم يرَ أي شيء.
هنا أدرك نادر أنَّ الرجل الذي كان يحدِّثه ليس سوى أحد أولئك الذين فقدوا عقولهم، بسبب ضغوط الحياة وصعوبتها حتى وإن كان يومًا ما ينتمي إلى الطبقة المخملية، رجل مختَل حتى وإن بدا حديثه غامضًا يحمل بعض الحكمة، نعم، يبدو له أنَّ المسكين قد أصابته لوثة عقلية.
قرر نادر الانصراف بعد أن أصابه اليأس وشعر بخيبة الأمل.
ما إن ابتعد قليلًا حتى نظر خلفه ليرى ما جعله يقف مشدوهًا وقد أصابه الذهول، فمن مكانه وحيثُ تسمَّرت قدماه رأى جموع المشردين يصطفون متشابكي الأيدي وهم يشكِّلون درعًا على هيئة حلقة دائرية تحيط بالشجرة من كل اتجاه، بدا الأمر وكأنهم كانوا يحمونها من خطرٍ شديد يُداهمها، خطر محدق خفيٍّ عن الجميع إلا هم.
بعد سنوات، وداخل ميدان التحرير وقد استعاد رونقه وبريقه ليتحول ويصبح قِبلة للأنظار ورمزًا للحرية، وقف نادر يتأمل الشجرة وقد استعادت جمالها وبهائها وكأنها تحيا ربيعًا دائمًا وقد تشابكت فروعها العالية، وعلَت حتى قاربت عنان السماء، كانت الأوراق الخضراء تكسو فروعها لتمنح الظل للجميع ودون استثناء.
وقف نادر شارد الذهن حتى إنه لم يشعر بذلك الكهل الذي نحت الزمن على وجهه التجاعيد وهو يمنحه ثمرةً يانعةً قائلًا في ودٍّ وبابتسامة عذبة:
- لقد سقطت بالقرب منك؛ إذًا هي لك.
وعقَّب قائلًا: نعم، هي من حقك أنت.
نادر في دهشة وهو يتأمل وجهه البشوش وملامحه الهادئة محاولًا التذكُّر أين ومتى قد يكون رآه، بادره نادر قائلًا:
- لم أسمعك ماذا قلت؟
الرجل وما زالت الابتسامة على شفتيه: هذه الثمرة من خير الشجرة بعد أن استردَّت عافيتها وأصبح خيرها يُوزَّع على الجميع سواسيةً ودون تفرقة.
ليقول مستطردًا: إنه قانون الشجرة منذُ تحقَّقت النبوءة ورحل الغرباء.
تمَّت
ياسر محمود سلمي
د. محمد عبد الوهاب المتولي بدر
د. راقية جلال محمد الدويك
د. سمر ابراهيم ابراهيم السيد
دينا سعيد عاصم
رهام يوسف معلا
ياره السيد محمود محمد الطنطاوي
فاطمة محمد البسريني
محمد محمد جاد محسن
د. نهله عبد الحكم احمد عبد الباقي
د. عبد الوهاب المتولي بدر
زينب حمدي
حنان صلاح الدين محمد أبو العنين
د. شيماء أحمد عمارة
د. نهى فؤاد محمد رشاد
فيروز أكرم القطلبي 




































