ها هو شهر "آذار" يقترب.. يفرد أشرعة أيامه محلقًا في سموات العام، يقطب حاجبيه ويُمعن النظر إليَّ طويلًا.. نظرة أفهم مغزاها جيدًا، يرتجف قلبي هلعًا من تلك التجعيدة التي ارتسمت هناك قرب نهايات أيامه، أعرفها تمام المعرفة.. أتقنُ قراءة قسمات وجه الترقب التي يلقاني بها سنويًا -كل ربيعٍ- منذ دهور...

يدوي صوته الخشن بين ضواحي روحي مرددًا على مسامعي جملته التي حفظتها عن ظهر قلب.. " مرحبًا نسيم.. ألا زلتِ تذكرين العهد؟" أخفض رأسي في حضرة لحظاته التاليات وأرددُ في خشوع: أذكرُ جيدًا سيدي.. يرتفع كفي محاذيًا وجهي علامة التسليم بينما أردد قائلة في شرود.. "لم أنس ما فعله بي في آذار ولو للحظات".. أنتبه على صوت ضحكاته مستحسنًا كلماتي فأكمل قولي المعهود.. "مستعدٌ قلبي لتقديم قرابين جديدة في حضرة سيدي آذار.."

ألمحُ وجهه يبتسم في خيلاء، يخبرني فحيح صوته أن الضحية التالية التي ستراق دماؤها في محراب الانتقام هو "ماجد".. ماجد!! عجبًا.. إنه ذلك الفتى الرقيق الذي يهيم بي حبًا منذ ستة أشهر!!

يصرخ آذار مستنكرًا وكأنه يقرأ ما بين اختلاجات نفسي: فتى رقيق!! أهناك ذكور يمتازون بالرقة من وجهة نظرك؟ أنكسُ رأسي غير قادرةٍ على الرد.. يكشر عن أنيابه محلقًا في رعود: يبدو أنكِ نسيتِ ما فعله ذلك المارق الذي استلب قلبك في حضرة وجودي ثم هجركِ بحجة الملل؟ هززتُ رأسي يمينًا ويسارًا عله يهدأ.. لكنه كان قد وصل إلى ذروة انفعالاته، أراه يُقرب وجهه المتغضن من حدود بوابات روحي مزمجرًا: قربانٌ جديدٌ كل عامٍ في آذار.. كي يبرأ قلبك من الجراح.. يلملمُ طرف عباءته مرتحلًا صوب الغرب بينما صوته يكرر في إصرارٍ ذي فحيح:

-قلبٌ جديد..

قربانٌ جديد..

هكذا كان العهد يا نسيم... هكذا كان العهد.

أتنفس كلماته وكأنها الشفاء، أجد وجعي يردد خلفه في خشوع.. (قلبٌ جديد.. قربانٌ جديد.. نعم.. هكذا كان العهد، لن تبرأ جراحاتي إلا بسفك دم هذا ال "ماجد").

أرى بعين الخيال نصل سكيني وهو يغوص في قلبه بسلاسةٍ محببةٍ إلى النفس بينما يبتسم آذار راضيًا عني، ويمنحني هديته المرتقبة لباقي شهور العام.. "النسيان".

شكرًا لك سيدي آذار على جميل صنعك بإهدائك تلك القسوة إلى نفسي..

وها أنا أعلنها لك للمرة الثانية بعد الألف..

أنا "نسيم الزياتي" سأتبع النهج دائمًا، وسأتذكر درس الشهر..

روحٌ مقابل روح..

نفسٌ مقابل نفس..

قلبٌ مقابل قلبٍ في آذار..