أيامٌ رتيبة، أنسامٌ حانقات، ياله من صيفٍ خانق!!
الجميع يشكو من ندرة الهواء، تطبق أيادي الرطوبة على أنفاسنا بصبرٍ وأناة، يحتدم صهيد شمس الظهيرة؛ فيصهر أرواحنا بين فيافيه، حتى ذرات الهواء باتت لزجة، تلتصق بنا كطفلٍ لا يريد الابتعاد عن أمه، وكأننا نمنحها سببًا للوجود!!
ها هو العم قاسم قادمٌ من بعيد... يسرع الخُطى صوب موقف الحافلة؛ يراها تُقبل جهتنا، يُلوح لها بيده، لا يبدو أنها ستتوقف، ها هي تتجاوزنا بلا مبالاة، يلوح لها أكثر، يرفع عقيرته أن هيا توقفي، تحتك عجلاتها بأرضية الطريق في صريرٍ يخلع الأنفاس...ثم تتوقف على حين غرة، عجبًا!! وكأنها رأته... تتقهقر للخلف، تتوقف قبالته، تفتح له أبوابها ببراءةٍ كزهرةٍ تفتحت بتلاتها لاستقبال الربيع، ينخلع قلبي لتوقفها، يا ألله... إنها ذات الحافلة!! أريد أن أصرخ به، لا تركب يا عم قاسم، بالله ابتعد، تخونني الكلمات... تأبى المغادرة، أفتح شفتيَ، أهم بالصراخ... ينظر ليَ الفراغ القاتل المحتل مكان السائق بتحذيرٍ اعتدتُ سماع صمته، تتسمك الأحرف بأحبالي الصوتية في رهبةٍ، تتشبث بحلقي في فزعٍ، أبجديات خوفي تبتهل إلى الله ألا تنزلق صرخاتها؛ كي لا تصل لأسماع ذاك الفراغ، فأحتل مكاني في قائمة ضحاياه، ها هو العم قاسم يتقدم نحو الحافلة، يتداعى شريط الذكريات أمام عينيّ..
العم قاسم يبتسم لي...
يناولني قطع الحلوى..
يحملني ويعبر بي الطريق..
وجهه الطيب في كل صباح...
ابتسامته تنير حدود سمائي يوم ان اجتزت امتحان الإعادة..
اللهم قوة من لدنك لاجتياز هذا الامتحان المرير.. ينظر لي الفراغ من جديد... يرنو لي بنظرات الوعيد.. العم قاسم يوليني ظهره... بينما قسماته بداخلي تبتسم في حنو... صوته بأنحائي يخبرني أني أستطيع... يده تربت على كتفي وقت الأزمات.. العم قاسم والفراغ يتصارعان بداخلي...
العم قاسم...
الفراغ..
العم قاااسم...
الفراااغ...
رجحت كفة العم قاسم...
فلم أدرِ إلا وقلبي يناديه في لهفة...
-يا عمي قااااااسم... انتبه.
يدير لي وجهه الحنون .. ها هو يُقبل عليَّ مُرحبًا، أختلس نظرةً للفراغ خلف مقعد السائق... أراه يجدحني بتوحشٍ، يومئ لي بعينيه الخاويتين... وكأنه يقول: "أنتِ لي"..
أسمع فحيح صمته يردد:
"تم تعديل أسماء القائمة... هاكم الضحية التالية" ..
صوت صرير عجلات الحافلة ينبئني أن عمي قاسم سيكون بخير... أسمعكم تتساءلون في فضول.. وماذا عنكِ أنتِ؟؟
حسنًا...تلك حكاية أخرى أقصها عليكم في أمسية صيف قادمة.