عاد مبروك مبكرا الى منزله مارا بتلك الردهة المكتظة بالأشجار متجها نحو تلك الشقة الموصدة التي تصدر منها أصوات مزعجة مقلقة للراحة تذيع الرعب في أنحاء القرية مما اصبحت محل اهتمام الجميع و ليس مبروك فحسب و كلما هم مبروك بفتحها ازدادت الأصوات صخبا و رعبا و كأنها ترفض أحدا أن يتطلع عليها فارتجف مبروك و تردد قليلا ثم تحرك برفق و نظر من ثقب الباب فوجدها فارغة الا من تلك الأصوات التي لم تعد تخيفه لإعتياده عليها و لكنه يخاف المجهول الذي يواريه القدر في ثناياه متأملا :
ـ ما أمر هذه الكائنات ايا كان نوعها أو جنسها جن كانت أو غيره و من الذي أذن لها أن تحتل أحد أركان منزلي و ما عساني ان سكت ان تزحف فتستولي على سائرالمنزل حقيقة أمرها أنها معتدية غاشمة لابد من طردها .
و في هذه الأثناء ظهر منير الأخ الأكبر لمبروك قافلا من الخارج هو الأخر و معه نفر من أهل القرية يتزاحمون خلفه قد جاءوا جميعا للمشاهدة و ليس للمساعدة فاستقبلهم مبروك بلهفة مقدما بين يديه علامات الإستغاثة مستفسرا :
ـ أين الشيخ عليوة ؟
فأجابه منير و هو قلبه يدق دقا متواصلا بصوت لا يتجاوز حنجرته :
ـ الشيخ عليوة بالمسجد يصلي ركعتين قضاء حاجة
و عندئذ أقبل الشيخ عليوة و هو يردد بعضا من الأذكار و الأدعية بصوت مسموع باعثا على الحضور بعضا من الأمل و الإطمئنان و فجأة يقف الشيخ عليوة منزعجا فيقف الجميع متلقفين القلق بأعينهم و طفق يقول :
ـ استعنتم بالسحرة فزادوكم رهقا ما لي أرى طلاسمهم و أشم رائحتهم
قال ذلك ثم أشار إليهم :
ـ أزيلوا هذه الطلاسم و امحو أثارها حتى نباشر عملنا هلموا و أسرعوا يرحمكم الله
فبدا عليهم القلق و لكنهم امتثلوا و أتموا ما أراده الشيخ عليوة ثم تحركوا جميعا في خطوة منتظمة يبطئهم الخوف نحو الشقة يتقدمهم الشيخ عليوة و ما لبث أن فتح مبروك الشقة على الفور و لم يعد للأصوات وجودا ثم دخل الشيخ الشقة و شرعوا جميعا بالدخول خلفه آوين إلى ركنه لما التمسوه فيه من صلاح و ثقة و قوة و أمانة و لكنه منعهم و أكد عليهم قائلا في لهجة عصبية أشبه بالصياح :
ـ انتظروا بالخارج و لو رايتموها تشتعل نارا لا تتقدموا حتى اخرج إليكم
و أدرك الجميع أن الفرج معقود بين شفتاي الشيخ عليوة و قلبه و أن الله قد ساقه إليهم ليحررهم من قيد هذا العفريت الذي اقله الخوف فوطء به القلوب و العقول و ختم عليها رعبا و رهبا .
و عندئذ أغلق الشيخ عليوة الباب و أحكم غلقه و شرع يؤذن أذان الصلاة بصوت مرتفع مستأنسا به و مستقويا و ما أن فرغ من ذلك حتى استوى على كرسي بمنتنصف الشقة بتلك البهو الكبير المقابل للباب ثم أمسك بزمام نفسة و استدعى قوته الإيمانية و بدأ يقرأ الفاتحة ثم تلاها بصدر البقرة ثم آية الكرسي و في هذه الأثناء سمع صوتا يردد خلفه حرفا حرفا كل ما يقرأه من آية الكرسي فارتبك الشيخ عليوة قليلا من وقع المفاجأة و تأمل : ( كيف لهذا العفريت أن يقتحم علي حصني أيريد أن يتحصن بما أتحصن به أم أن سهامي أصابته فهو يحتضر ) و لكن الشيخ عليوة تمالك نفسه على الفور و تبسم مستمرا في تلاوته و لم يفتر العفريت يردد خلفه كل ما يقرأ فصعد الدم إلى رأسه و قد وخزته جرأت العفريت عليه و لم يجد أمامه سوى أن يستمر فيما يقرأ مستمسكا به و بما يعتقد فيه من قوة قادرة على سحق هذا العفريت و استمر هكذا الى أن بلغ قوله تعالى : ( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) فاختفى الصوت تماما فظل يرددها الشيخ عليوة مخافة أن يتجاوزها فيعود الصوت الى أن شم رائحة احتراقه فانفرجت شفتاه بابتسامة عريضة :
ـ ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ... الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
ثم فتح الباب فألفى لديه قلوبا امتلئت رعبا و قال احدهم مندهشا :
ـ الحمد لله الذي نجاك ببدنك
ثم قال موضحا :
ـ إن الشقة قد اشتعلت نارا
و أقبلوا عليه جميعا يتفقدونه مستنشقين غبار العفريت غير مصدقين و لا مكذبين و قام أحدهم بإلقاء عمامته على الأرض معفرا اياها بغبار العفريت ظانا بأنها ستحدث له أمرا فضحكوا جميعا .