اقتربت منها بعد كل ما سمعته عنها من حكايات، تلك السيدة المسنة، التي تصارعت الخصلات البيضاء لتغزو وتلتهم ما تبقى من شعرها الكستنائي، ليتحول إلى هالة بيضاء تحيط برأسها. .
حتى أن ملامحها رغم ما يكسوها من التجاعيد إلا أنها تنبأ الرائي بأن هذا الوجه كان يحمل لمسة من جمال زال بمرور الزمن ولكنه ترك أثر منه عليها. .
رأيتها كعادتها وقد جلست عند الحافة تتطلع للمجهول أو لشيء لا نعلمه وربما لم يعد له أي وجود على أرض الواقع. .
كما ذكروا لي أن هنا كان البيت وكان السكن وكان، ولكن أين ذهب كل هذا؟ ! !
يَحْكِي أنه وفي غمضة عين وبعد سيل جارف من الأمطار سقطت أعمدة البيت ونجت هي منه بأعجوبة بعد أن أخرجها رجال الإنقاذ. .
كيف يغدر بها من كانت تعشقه وتنتظر قدومه انتظار العاشق لمعشوقه؟ ! !
كيف يسلبها الشتاء بأمطاره ورياحه ويعصف ببيتها وسكنها وأمنها؟ !
هنا كانت مملكتها الصغيرة مملكة أم هلال تلك السيدة التي ارتضت أن تعيش بين الأطلال وحيدة لسنوات لم تعد على حد قولها تذكر عددها، بعد أن رحل من رحل، وارتحل عنها كل من اتخذ الرحيل سبيلا، والغريب أنها لم تستسلم أبدا أو تضعف وعاشت رغم وحدتها تأنس بذكرياتها التي لا تنتهي وتحتمي بأطياف كل من شاركوها تلك الذكريات. .
هنا يقسم كل من عاصر ماضيها أنه ومنذ زمن بعيد عاشت أم هلال مع زوجها عيشة الرغد وأنجبت له البنين وأنجبت البنات. .
كانت سلطانة لا يعصي لها أمر، ولا يرد لها مطلب،
كانت تأمر فتطاع. .
ولكن دوام الحال من المحال، الآن هي وحيدة بكل ما تحوي الكلمة من معنى، بعد أن رحل وليفها، ورفيق الدرب عنها وصارت بلا كتف تستند إليه ولا يد تربط على كتفها. .
وليكتمل المشهد تهدم البيت وصارت بلا مأوى. .
كما أنها أيضا لم تعد تملك من الطاقة شيء يجعلها تقوى على أن تفتح الأشرعة وتبدأ الحياة من جديد، إنها علي أعتاب النهاية، أين هي من البدايات؟ !
وجدتها جالسة تنظر بعين دامعة للطريق، قد تخبرك تلك النظرة أنها تنتظر قدوم أحد لكنها في حقيقة الأمر تتطلع للطريق لا رغبة منها في عودة الغائبين الذين لحظة أن انكسر القيد لاذوا بالفرار والإفلات من قبضتها وتاهوا منها في زحمة الحياة بحثا عن طيب العيش، ولكن لترثي ذاتها المحترقة المتصدعة من هول ما لاقته من مرارة وقسوة بعد رحيلهم، وتتجرع الألم من كفاح باتت تراه غير مبرر بعد أن تخلى عنها الجميع وتركوها وحيدة بين جنبات البيت المتهالك. .
الشيء الموجع حقا بالنسبة لها هو فقد أولئك الذين بات كل شيء من حولها يكتسي بالسواد في غيابهم. .
لم يكن الطريق فقط ما كانت تتطلع إليه بل أيضا شغلتها تلك الشقوق التي باتت تملأ الجدران المتحطمة من حولها وكأن كل شق منها ناء بما يحمله من أثقال وقرر أن يفشي عن سر كان يخبئه بين ثناياه. .
كل من بالحي كان يعرفها حق المعرفة، حتى أن البعض كان يطلق على الشارع اسم شارع الست أم هلال للاستدلال إلى موقعة. .
فقد أصبحت رمزا آدمي لشيء انتزع منه كل ما هو آدمي. .
اقتربت من تلك الحزينة الباكية وسألتها عن حالها وكانت إجابتها صارمة بالنسبة لي. .
لقد قالت بنفس اللفظ أنا في نعمة وستر من الكريم
في داخلي صرخت صرخة مكتومة، بذلت جهد مضني كي لا تتخطي حنجرتي، وتسألت:
أي نعمة تلك التي تتحدث عنها واي ستر وهي بلا مأوى يؤويها. ولا عائل يهتم بها وتتكئ عليه في عمرها هذا؟ ! !
حتى عندما سألتها بتردد عن حاجتها رفضت أن تعترف أن لها حاجة، وقالت إنها في ستر تحتمي بجدار بيتها حتى وإن بدا متهالك لكنه لا زال يمكنها الإسناد عليه. .
وكأن ثقتها بالحجارة كانت أكبر من ثقتها بمن حولها من البشر فالتمست منه الحماية. .
مددت يدي في جيبي وأخرجت ظرف به مبلغ من المال، ربما يعينها على ضيق العيش، لكنها رفضت أن تأخذه بشدة وقالت إن هناك من هم أحوج منها له. .
قبلت يدها التي ارتسمت عروقها بنقوش بارزة، ومضيت في طريقي، لكن ظلت هناك تساؤلات كثيرة تحاصرني، من أين لها كل هذا الثبات وتلك القوة؟ !
اتخذت طريقي وركبت سيارتي وأدرت مؤشر الراديو علني أجد مايلهيني عن زحمة أفكاري. .
جاءني صوت الشيخ يقول. .
يا ابن آدم لا يُرفع قضاء حتى ترضى به. .
فمن رضي بقَدَري أعطيته على قدري.
وكأنها كانت الإجابة لكل تساؤلاتي أنه الرضي. .
الرضي هو السر وراء أسطورة الحي الست أم هلال. .
فوجدت قلبي قبل لساني يتمتم بتلك الكلمات. .
اللهم إني أشهدك، وأشهد حملة عرشك، وملائكتك، وجميع خلقك، أني قد رضيت بكل ما قدرته لي. .
مع ارق تحياتي ..