أطلت برأس مثلث الشكل وعينين واسعتين بلون السماء وقرنين صغيرين يهتزان مع كل حركة،
القطة التي تزين مقدمة جوربيها الداكنين تضعهما أمها في قدميها كل صباح لتبدأ يومها بسكينة دون نوبات الغضب المعتادة، فقد كانت تحبهما ولا ترضى أن ترتدي غيرهما مهما حاولت أمها في النقاش المتكرر كل صباح والذي ينتهي دوماً باستسلام الأم، فلم تعد تضيع وقتها في الكلام بلا فائدة، الوقت الضيق يمنعها من المجادلة وانتظار الجمل المكسرة والكلمات مقطّعة الأحرف، ناقصة المعنى التي تتأتئ بها طفلتها وهي تمسك أطراف قدميها بيديها الاثنتين متشبثة بمقدمتي الجوربين تهزّ رأسها رافضة استبدلهما بآخرين، تثغثغ بحروف مقطعة :
-" لأ لأ ...أريد ، قط .. قطة .. قطتيّ ...
تختصر الأم الأمر فوراءها نهار عمل طويل تبدؤه بالجري وراء سيارات النقل الصغيرة التي تقلها من البلدة الغافية غرب العاصمة والتي آوتها بعد نزوحها بسبب الحرب من قريتها الصغيرة المتكورة في أقصى الشمال،إلى مقر عملها في شارع بغداد وسط دمشق .
تحرر الطفلة يديها وقدميها، ثم تنهض بنشاط معلنة انتصارها، تقف على كعبيها ثم تمشي فيتحرك رأسا القطتين يميناً ويساراً يهتزان أعلى أسفل مع نقلات قدميها. تغرق في موجة من الضحك لا أحد يشاركها فيه سوى معلمتها في معهد التنمية الفكرية الخاصة بالمصابين بنقص في النمو العقلي، العاهة الولادية التي أورثها إياها اعتلال صحة الأم حين كانت حاملاً بها، تهرب متعثرة من مكان إلى آخر تحت وطأة القصف العنيف لقريتها اللائذة ببساتين الزيتون، قبل أن يستقرّ بها الأمر في تلك البلدة القابعة على أطراف دمشق .
قفز قطا الجورب أمام الأم وهي تقف جوار طفلتها أمام محل لبيع الجوارب والمناطيف الشتوية المتنوعة الأشكال والالوان، هزا رأسيهما ساخرين، و الصغيرة تشير باصبعها بشكل متواصل لأمها الى جورب قطني بلون داكن تزين مقدمته قطة برأس كبيرة وعينين بلون السماء يشبه كثيراً جوربها القديم .
تراقصت الأسعار مهولة أمام ناظريها، تنهدت ثم جرّت الطفلة من يدها لتقف أمام محل الألعاب المجاور في محاولة لإلهائها عن الجورب المنشود.
لفحة هواء لاسعة من ريح حلزونية حملت معها أوراق الأشجار التي لاتزال تتساقط رغم اقتراب كانون من نهايته.
حمل الهواء برودة تنبئ بشتاء قاس، هبط الظلام سريعاً والأم وطفلتها غارقتان في لعبة الشد والجذب أمام محلي الجوارب والألعاب، غرقت الشوارع بعتمة مرّة اعتادها الناس مع الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي وغرقت أطراف دمشق بالعتمة كذلك.
أسرعت الأم خطوها بينما خطوات الصغيرة تتثاقل وهي تجرّ نفسها بعكس اتجاه مسير والدتها، فما كان من الأم إلا أن اندلقت في شارع ضيق ينتهي بشارع أوسع تتدلى من أعلاه أشرطة كهربائية بمصابيح لاحصر لها مضيئة، ساطعة، مبهرة .
الأضواء المتلالئة على طول هذا الشارع والشوارع الأخرى المؤدية إلى ساحة العباسيين أضواء الاحتفالات بالأعياد المجيدة جعلت من وسط دمشق جوهرة مسحورة بالضوء.
تقدمت خطوات الأم والصغيرة ببطء لذيذ، كانتا مذهولتين بالاضواء مما جعلهما تتحرران في مشيتهما تحت نعمة الضوء الساطع ، يد الطفلة لاتزال تحاول الإفلات من كف الأم والعودة إلى الوراء إلى محل الجوارب حيث بقي نظرها وقلبها معلقين. غاصتا في الجموع المحتشدة أمام شاشة عملاقة تبث تراتيل الميلاد ذابتا في خضم دافىء من الأجساد والألوان والروائح . حضر الآلاف للاحتفال بالعيد . روائحهم مختلطة بحيادية غير مبالية بالبرد او لسعات الهواء الكانوني القارس . و للحظة خاطفة جذب العالم المضيء الصغيرة ذات الأعوام الثمانية، مدت يدها لتلمس الأضواء البعيدة، لكنها أعادتها بسرعة، فعالم جوربها المحبوب تشدها بشغف أكبر . فجأة توققت عن المشي نظرت إلى أمها صرخت بغضب مثل قط مجروح. أفلتت يدها بعنف من يد أمها. ركضت مبتعدة عن مكان وقوفهما، وبلمحة عين تلاشت في الحشد الهائل، نظرت الأم حولها رأتها من بعيد واقفة على جزيرة الشارع المرتفعة التي تفصل بين طريقي الذهاب والإياب .تخلع حذاءها وجوربيها القديمين. وتنطلق راكضة بقدمين حافيتين. دارت الأم حول نفسها عدة دورات ببحث محموم عمن يساعدها. دارت حولها الوجوه والأضواء والشاشة العملاقة .ثم ترنحت وهوت على الأرض مغمضة العينين. شعرت بملمس الزيتون على وجهها ورأت نفسها في قريتها البعيدة قبل أن تصير ركاماً وحلمت أنها في فراشها الوثير الدافئ غارقة بظلمة كانون الدبقة الشفيفة. فتحت عينيها أصوات طائرات تحطم رأسها مع تحطيم قريتها للمرة الألف .وصوت في رأسها يهمهم : لم كل هذا الجنون ؟؟!!
.أغمضت عينيها من جديد فرأت نفسها تقف مع طفلتها في محل الجوارب والطفلة ترتدي ذاك الجورب وتقول بجمل تامة الألفاظ والمعنى : ما أجمل جوربي الجديد برأسي القطين اللطيفين ،وتبتسم بينما تغمرها آلاف الأضواء .
أغمضت عينيها الغارقتين بدمع أسود .الأضواء تتلألأ فوق رأسها مختلطة بالناس المتحلقين حولها بدائرة فضول غبية، عيونهم خالية من أي تعبير ونظرات الإشفاق تتناسل كفطر مسموم.
يشق الصمت حولها صوت ملائكي يدندن وهو ينسحب مبتعداً: (على الأرض السلام ...وفي الناس المسرة ) .