الحنينُ نهرٌ خفيٌّ يمرّ تحت جلد الزمن، ينسج الظلال والذكريات كأمواجٍ لا تتوقف، يلامس عروقنا بصمتٍ مُخيفٍ وجميل في الوقت نفسه، كأن كل خفقة قلبٍ هي موجة تردد صداها في قلب الكون.

يأتي من حيث لا ندري، يختبئ بين أصابع الضوء والظل، بين كلمةٍ لم تُقل، وابتسامةٍ لم تُعاش، وبين فجوةٍ في الروح لم تُسدّ، ليذكّرنا بأننا عشّاق ما لا نستطيع الإمساك به، وحراس ما لا يمكننا استعادته.

نظنّ أننا نشتاق إلى وجوهٍ مضت،

لكن الحقيقة أن الشوق هو لأنفسنا كما كنّا حين أحببنا،

للنسخة النقية من الروح التي لم يعرفها الفقد، للأمان الذي سرقته الغيابات الطويلة، للطفل الذي كنا عليه قبل أن تُصقلنا خيبات الحياة، قبل أن يضيع العالم تحت أقدامنا فجأةً، ونحن عاجزون عن الإمساك به.

الحنينُ كائنٌ مزدوج: طينٌ ونور،

يتلوّى بين الصمت والدمع، يزرع قلاعًا في القلب لا يراها أحد،

يسقط علينا الأسئلة الثقيلة بلا إجابة، ليعلّمنا أن الفقد ليس عدواً، بل بوابة، وأن الغياب ليس عقوبة، بل مرشدٌ صامت، وأن الذي نفقده كان دوماً مرآةً لذواتنا التي لم تُكتشف بعد.

هو خيطٌ دقيق يربط الماضي بالحاضر،

صوت الريح الذي يلمس نافذتنا ليذكّرنا بأن شيئًا ما بقي حيًا، ظلّ نورٍ لم ينطفئ بعد، وشجرةٍ جذورها في العدم، أغصانها تمتد إلى قلبنا، حيث تتلاقى الدموع بالابتسامات القديمة، ويصبح الفقد صلاةً، والفراغ جسرًا إلى منازل لم نزرها قط، إلى أزمنة لم نَعِشها بعد، إلى أماكن لم تُخلق إلا في أعماقنا.

حين نصالح الحنين، نختفي في حضرته،

نتركه يعبرنا كنسمةٍ لا تُقاوم، كظلٍ يضمّنا بلا طلب،

نتعلّم أن نحبه بلا رغبةٍ في الامتلاك، أن نحتفظ بضيائه دون أن نعود إلى الرماد، أن نرى في كل وجعٍ نورًا، وفي كل غيابٍ درسًا، وفي كل دمعةٍ خريطةً تؤدي إلى الذات التي لم تكن تعرف الطريق بعد.

وفي النهاية، نتعلّم أن الحنين لم يرحل،

أنه تيارٌ داخلي متدفق، نهرٌ يعلّمنا أن ما فقدناه لم يذهب، بل تحول إلى معرفة، إلى سلام، إلى روحٍ أعمق، إلى بستانٍ من الذكريات التي صارت شجرةً تنبت نورًا بدل ألم، ظلًّا بدل فراغ، همسًا بدل صرخة، وكل موجةٍ فيه تصنع فينا انعكاسًا للكون بأسره.

نضع أيدينا على قلوبنا، ونهمس له كما لو نهمس لروحنا:

"شكرًا لأنك مررت،

فلولاك، ما كنتُ لأعرف الطريق إلى نفسي، ولا إلى الله،

ولا كنت لأعرف كيف يبتسم الضوء في عمق الفقد، ولا كيف يتحوّل الألم إلى نهرٍ ينبض بالحياة."