في لحظةِ مغادرتي كرسيَ الحلاقةِ، همسَ لي حلاقي:
- أبا وحيد، عليكَ أنْ تنتبه، الحلاقةُ اليوميةُ لذقنِك، جعلَتْها قاسية، أخشى في المراتِ القادمة، أن يعجزَ موسي عن حلاقتِها.
ملأت ضحكتي المكانَ وأنا أردُّ عليه:
- لاتخفْ لن أعجزَ عن حلاقتِها، سأجدُ حلاقاً أفضلَ منك.
وصدحْتُ بضحكةٍ مجلجلةٍ لم تجدْ صدىً عندَه، إذْ عاجَلَني بالقول:
- أنتَ صديقي ولاتهونُ عليَّ العشرةُ. لاتفهمْ كلامي تدخلاً بشؤونِك ..لكنْ ..
انتبهْ لزوجتِك وابنِك الوحيدِ
الدنيا تأخذُك بعيداً عنهم ، ستندمُ حينَ لاينفعُ الندمُ .
أومأتُ لهُ برأسي وخرجْتُ نحو المنزل
وما أن دخلْتُ وأنا أتلمسُ وجهي مطمئناً ، وأمررُ أصابعي على ذقنيَ الملساء ، حتى خرجَت أمُّ وحيدٍ من المطبخِ غاضبةً:
- الحمدُللهِ أنّك عدْتَ ، وتذكرتَ أنّ لكَ بيتاً، إلى متى سنبقى على هذه الحال ...
أدرْتُ وجهي عنها كعادتي وحاولْتُ أنْ أتّجهَ نحو الحمام ، لأتخلصَ منها ،اعتدْتُ على كلماتِها وتساؤلاتِها ، لكنّها أدركتْني أمام الباب ووقفَت أمامي سادّةً الطريقَ بقامتِها الممتلئةِ ورعبٌ حقيقيٌ يطفحُ من عينيِها الخضراوَين قالت :
- وحيدٌ نام خارجَ المنزل البارحةَ ...
- ماذا تقولين أين ولم؟
- هيَ المرةُ الأولى التي ينامُ فيها خارجَ المنزل
-وحيد وحيد أين أنت تعالَ إلى هنا
وقفَ أمامي صامتاً مرتبكاً عيناه مصوّبَتان إلى الأرض سألْتُه:
- أين كنتَ البارحة؟!
أجابَ متلعثماً:
- أعِدُك يا أبي لن أعيدَها...
لم تشفعْ له أعوامُه الثمانيةَ عشر، رفعْتُ يدي وهويْتُ بها على وجهه.
تجمدَتْ ملامحُه برهة، ثم تراجعَ
مسرعاً نحو بابِ المنزل، جرَت خلفه لكنّه سبقَها، فتح الباب وخرج، لحقَت به على الدرج، غابَت أقلَّ من دقيقة، شعرْتُ أنّ هناك شيئاً ما يخز راحة يدي، فتحتُها، كانت بعضُ شعيراتٍ سوداءَ قاسيةٍ عالقةً بها كالإبر، أخرجَني صوتها من حالتي :
-لم أشكُه لك لتضربَه ، كيف استطعْت أن تمدَّ يدَك عليه وهو ابنك الوحيد، قبل أن تحاسبَه حاسبْ نفسك، اذهب وابحث عنه، لاتتركْه للشارع ولنفسه، منذ عشر سنوات وأنا أقول لك أنت مقصرٌ معه، غيابُك عن المنزل، أتعبَني وأتعبَه، متى سيأكلُك الندم..
تركتُها ترعدُ وخرجْتُ من المنزل نحو سيارتي وتلك الإبر تشغَلُني بوخزِها فقد كان أشدَّ من وقع كلماتها.
جلسْتُ في السيارة، أنرْتُ الضوء الداخلي، وفتحْتُ كفّي، تكاثرَت الشعرات السوداء المغروزة بها، و بدأت تظهر حولها هالاتٌ حمراء، الرعب ملأ قلبي تُرى ماهذا، تذكرْتُ ابنيَ الغاضبَ
عليّ أن ألحقَ به، مسحْتُ وجهي، أخذْتُ نفساً عميقاً، أدرْتُ محركَ السيارة، أطفأٰتُ النورَ الداخليّ وانطلقْتُ تُرى أين أذهبُ في هذا الوقتِ المتأخر؟ أنا لا أعرف شيئاً عنه، تُرى من هم أصدقاؤه، أين يمكن أن يكونَ الآن ؟ يا إلهي ماذا فعلت بنفسي وبه، وهْجٌ خرج من ذقني، حاولْتُ أن أحكَّها بأظافري، صُعِقْتُ بملمسِها الخشن، الشعرُ يملؤُها، لقد عدْتُ من عند الحلاق منذ ساعة فقط، أدرْتُ المرآة نحو وجهي، شعرٌ أسودُ كثيفٌ يغطّيه، وعلى انعكاس الصورة في المرأة؛ بدأ الشعر يطولُ ويطول، تملّكني الرعبُ أخذ الشعر يتشكّل ويتشابك حول وجهي ثم أخذ يَنْصُبُ شباكَه على يدي، فقدْتُ توازني وكذلك سيطرَتي على السيارة ، حاولت أن أضغطَ على المكابح لكنّ قدميّ الملفوفةَ بالشعر ضغطَت دواسةَ الوقود . وانطلقَت السيارة بسرعة جنونية بدأ الشعر يتشكل أمامي كأخطبوط،
صوت يجلجل في السيارة ، صوت لا أدري هل هو إنسيّ أو جنيّ يردّد مقهقهاً:
- أرني أيَّ حلاق في الكون سيخلّصُك منّي .
لم أعدْ أرى شيئاً أمامي سوى فضاءٍ وزرقة، ومن ثم انغمسْتُ والسيارةُ في مياهٍ مالحة، بدأ الشعر يلملم نفسَه وينزع جذوره من ذقني بعنف، وينسحب خارجَ السيارة متلوياً أمامي وينفثُ حبراً من أعلى رأسه، الماء يغمرُني من كلِّ جانب، وصوتُ زوجتي وقهقهاتُه تملأ السيارةَ الغارقة.
كتمْتُ أنفاسي، وجاهدْتُ على الخروج من النافذة، دفعْتُ نفسي نحو الأعلى، سبحْتُ بعيداً عنه، وعندما وصلْتُ صخورَ الشاطئ، رأيت وحيداً عارياً، وقد قفز في البحر لحقْتُ به، صرخْتُ كثيراً،
لكنّه لم يلتفت، أسرعْتُ نحوَه لعلّي أحذّرَه من ذاك الأخطبوط الأسودِ اللعين، وصلْت إليه، جذبْتُه نحوي، حدّقْتُ فيه صُعِقْتُ بذقنٍ سوداءَ تعلو وجهه.