تتهادى السيارةُ بحملِها الثقيلِ -أنا وعائلتي و أمتعتي - على الطريقِ الساحليِّ، تاركةً خلفَها ذكرياتِ خمسِ سنواتٍ في مدينةٍ كلُّ شيءٍ فيها بطعمِ الغربة، غربةّ حسدَني كُثُرٌ عليها.
غربةٌ جرَّدَتْ روحي من كلِّ طعمٍ للحياة..
فهي من تُحتِّمُ عليك كتمَ أحزانِك، وعدمَ البوحِ بألامِك إلا لنفسِك..شعرْتُ بنعاسٍ أثقلَ عينيَّ، ضاقَتْ بي أنفاسي، فتحْتُ نافذةَ السيارةِ لأفتحَ رئتيَّ ببعضِ الهواءِ، فرأيْتُ بناءَ القنصليّةِ السوريّةِ، متربعاً على زاويةِ الشارعِ، وكأنّهُ ماردُ الفانوسِ يناديني..
تسمرْتُ على مقعَدي، صعدَ الدّمُ إلى رأسي، حدّقْتُ في البناءِ لم أستطعْ لحظَتَها أنْ أعِيَ ماالذي جرى...
أفكارٌ سريعةٌ هاجمَتْ وداعَتي، لابل هاجمَتْ خُنوعي..
طلبْتُ من زوجيَ التوقّفُ، وأمليْتُ عليه قراري بعدمِ المتابعةِ إلى السكنِ الجديدِ، لا أعرفُ مِنْ أين أتَتْني تلكَ القوةُ الجامحةُ لأفرِغَ لهُ بالصوتِ العالي كلَّ مكنوناتِ قلبي من ألمٍ و معاناة، نظرَ إليَّ نظرةً لم أستطعْ تفسيرَها ..
نزلْتُ من السيارةِ وانسحبْتُ من أمامه بهدوءٍ، وأنا أتلمّسُ أوراقيَ الثّبوتيةِ وجوازَ السفرِ في حقيبتي اليّدوية ..
أسرعْتُ في مشيَتي نحوَ القنصليةِ دونَ النظرِ إلى الخلف، تعبْتُ من هذه النظرةِ التي أكلَت عمري، يجب أنْ أعودَ.
دخلْتُ البناءَ، ومن غرفةٍ لأخرى أتممْتُ توقيعَ طلبي بإذنٍ لمغادرةِ البلاد، بلادٍ لم أحبَّها يوماً، لأعودَ إلى نفسي إلى ذاتي، إلى مكانٍ مابرحَ يناديني صبحَ مساء ..
وكم كانت فرحتي كبيرةً، عندما أعلمَني الموظّفُ بأنّني أستطيعُ السفرَ بعد ساعتين ..
خرجْتُ مسرعةٌ من البناءِ، لأبشّرَ زوجي بما حصلَ معي
لم أجِدْه، فقد تابع طريقَه ..
طلبْتُ سيارةَ أجرةٍ، وانطلقْتُ إلى المطارِ، لا أدري كيف كانت الأمورُ تجري بسرعة، الكلُّ مبتسم، ترحيب، موافقاتٌ وأختامٌ دونَ تأخير ..جلسْتُ في صالةِ الانتظارِ لحينِ موعدِ انطلاقِ الرحلةِ إلى دمشق ..أبعدْتُ كلَّ الأفكارِ التي تُثَبِّطُني عن قراري، قاومْتُ سنواتٍ مضَتْ بفرحِها وحزنِها . .إلى أن نادَتْ المضيفةُ: آنَ آوانُ الرحلةِ، على الركابِ التوجّهُ إلى الطائرة ..لم يكنْ معيَ سوى حقيبتي اليدويةِ، أسرعْتُ إلى الطائرةِ.. الجميعُ ينظرُ إليَّ لمَ هذهِ العجَلةِ؟! ولمَ هذه الابتساماتُ التي أوزِّعُها على الجميع ؟!
لمْ يعلموا بأنّي انتصرْتُ على نفسي ..
انتصرْتُ على الكونِ بأسرِه.
ركبْتُ في مكاني المخصّصِ، وضعْتُ حزامَ الأمان.. انتابَني بعضُ الخوفِ، فأنا لستُ ممنْ اعتادَ على ارتيادِ الجوِّ.. ماهي إلا دقائقَ، حتى انطلقَتِ الطائرةُ، وارتفعَ هديرُ محرّكِها، لتحلّقَ في السماءِ.
أخافُ كثيراً من المرتفعاتِ، كما أخافُ أيضاً من الأماكنِ المغلقةِ، لذلكَ سأنامُ، ولن أصحوَ إلا على صوتِ المضيفةِ، وهيَ تخبرُنا بالوصولِ إلى أرضِ الوطن ..
غفَتْ عيني، وماهي إلا دقائقُ لأصحوَ على صوتِ زوجي يطلبُ منّي النزولَ معه للاستراحةِ، لتناولِ كوبٍ من القهوةِ التركيةِ، قبلَ أن نكملَ طريقَنا إلى المنزلِ الجديد.