عاد زوجي... خرج من السجن بعد عام قضاه عقوبة لتوقيعه إيصال أمانة تعثر في سداده، كانوا قد أخذوه بعدما انهار البيت الذي ورثه عن أبيه فوق رؤوسنا، هرولت خلفه إلى قسم الشرطة أستجديهم أن يرأفوا بحالنا ويتركوه، دفعني أحدهم بيد غليظة وقلب قاس فسقطت تحت الأقدام تنهش جسدي البادي من تحت ثيابي الممزقة عيون وقحة ، لملمت روحي المبعثرة ورجعت إلى صغاري المذعورين بين الهدم، في اليوم التالي رأيت ذاك الذي دفعني بالأمس قادما يساومني على عرضي مقابل إطعام الصغار، شججت رأسه بحجر كبير من أحجار البيت المتهاوي، هددني بحبسي وتشريد الصغار لولا تدخل أهل الخير فمنعوه.
بقيت أنا وصغاري بين الأنقاض، ننام تحت جدار كان ما زال صامدا رغم تهالكه، بنيت بجواره جداران من أحجار الهدم وحطام الأبواب التي انتشلتها من بين الركام. مر الشهر الأول علينا ونحن تائهين، نأكل فضل الناس علينا بالنهار وتأكلنا الوحشة والخوف من المجهول في الليل، العالم حولنا مخيف؛ فالكل يساوم قبل أن يعطي والمساومة غير عادلة.
خلعت ثيابي الممزقة وارتديت جلبابا لزوجي انتشلته من تحت الأنقاض، ناطحت الحياة برأس متصلب وقلب مرتجف، تصفعني الأيام بيد قاسية فأركلها بقدم من حديد، في الليل يهزمني الخوف فتأبى روحي على الاستسلام، عملت في تنظيف مراحيض أحد الفنادق المتوسطة، عندما نظرت في المرآة رأيت زوجي يحمل ممسحة وفرشاة ويبتسم.
عاد زوجي محني الظهر نحيل البدن، شاخص العينين كمن عاش فزعا لا يستطيع البوح به، لم يتكلم معي كلمة واحدة كما اعتاد أن يفعل في كل زياراتي له خلال هذا العام، كنت أذهب إليه في مطلع كل شهر أحمل له بعض طعام وأقص عليه كيف تمر بنا الأيام، أخبرته حينها أننا في حال طيب، رأيت عدم التصديق في عينيه كما رأى هو الكذب يسيل على شفتي ولم يتكلم، أبتسمت له مؤكدة أننا بخير فأغمض عينيه متصنعا الرضى والاطمئنان.
جلس في زاوية الحجرة منثنيا على نفسه، يحتضن رجليه بين صدره دافنا رأسه بين ركبتيه، لم يخبرني أحد بموعد خروجه فلم أستعد له، عندما فتحت الباب الذي أُحكِمُ غلقه بجسدي طوال الليل ونحن نيام؛ وجدته متكوما بين الهدم كخرقة بالية، في البداية ظننته أحد هؤلاء الذين يبحثون عن المتعة بين ركام الحاجة، حملت سكّيني وهرولت نحوه كلبؤة تحمي صغارها، علّمَتني الأيام أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع، لم أتمالك نفسي عندما وجدته؛ رُحْتُ ازغرد وأملأ الدنيا صياحا ليعلم الجميع أن للبيت رجلا قد عاد، استيقظ الناس على فرحتي كما ناموا من قبل على آهات الحزن تشق صدري فتشق سكون الليل من حولي.
أخذت بيده إلى الداخل من بين جموع الجيران الذين هبّوا يسلمون و يباركون الخروج بسلام، استسلم ليدي ومشى خلفي يجر رجليه كمن هو ماض نحو حتفه، التف حوله الصغار واجمين متوجسين، كان يتطلع فينا كأنه يتعرف علينا للمرة الأولى، كبر الصغار في عام البعد أعواما وكبرت أنا بعدد لحظات الخوف والجوع والحرمان.
حملت الصغيرة التي فزعت من مظهره الرث على كتفي وأخذت إناء فارغا وانطلقت إلى الصنبور العمومي على رأس الحارة، ملأت الإناء ماء نظيفا وعدت تتراقص في عيني الفرحة كما تتراقص فيه المياه على رأسي مع وقع خطواتي المتعجلة على الأرض، أجلسته في الطشت الكبير ونزعت عنه ملابسه الرثة ورحت أصب الماء على رأسه و جسده المنهك، سالت دموعه مع دفقات الماء فغسلت جرحه النافذ في روحه، ألبسته جلبابه وارتديت ثيابي المزركشة، بدا الرضا على وجهه و تسللت الطمأنينة إلى روحي.
في المساء... رقدنا خلف الباب، أحكم غلقه برجله الصلبة كالوتد، ظهري مشدود على ظهرة، أحتضنت الصغيرة ومن خلفها أخوتها نائمين ترتسم على وجوههم ابتسامة دافئة، تسلل الخدر إلى جسدي عندما لامست سلسلة ظهري ظهره الصلب، ابتسمت وأغلقت عيني، في الصباح... نهض الجميع وبقيت في الفراش، تمكن الخدر مني فلم يتحرك فيّ سوى عينان تروحان وتجيئان في المكان وابتسامة تخبرهم أنني أصبحت بخير.