في دروب الهوى يمشي المثقلون به طويلًا على أمل أن يدركهم الوصل، أو يرشفون رضابه منًّا في كاسات الحلم، ويطعمون فتاته يتامى نبضاتهم الثكلى التي سقطت سهوًا من أعمارهم دون لقاء!

(جيتي) شاعرٌ بلغ من الحب والهرم عتيا، يظن أن الحياة قد استكثرت وجود عاشقٌ مثله بين الأحياء؛ فتآمرت على موته حين حالت بينه وبين قلبه.. ونسي أن بعض الظن إثم!

وأن المحبة قدر، واتباع الهوى قرار،

"لله قلب الكاظمين الحب دون إطلاق اول شرارة ميلاد،

لله عيونهم الملأى بضجيج الشعور وألوانه!"

يمضي جيتي والشوق يجري في قلبه مجرى الدم؛ فيترعرع صباه، وتزداد نضارة نبضه حين تفضحه عيون حبه، بينما السبعون خريفًا الشاحبين من عمره قد زال عنهم شكواهم!

فالحب لا ينتمي لعداد العمر وتعاريجه الرتيبة، ولا يرافقها، ولا يعترف بوجودها بل يقفز بها على وجنات المستحيل إشباعًا لقيامة شغفه، وإن كفر السراب بلطائف العمر، وصاح صوت اليقين مدويًّا: لكل آن روعته وجلاله، ولكل سن تفرده وإجلاله؛ ما أيقظ ذلك في نفس المحب إلا مثلما تفعل النار في الهشيم!

وإن لنا في الشرق ثقافة أبية تذوب في الحب ووجوده، وترفض لججه، وتأنف جموحه الأحمق، وولوجه عنوةً من أبواب الاستجداء والخنوع.

يستجدي جيتي محبوبته ـ التي تنافس الربيع في عمره ـ بشتى الطرق، وهي تصفعه بالرفض؛ فيستشفع فيها بالأمير، وتصر هي على موقفها، وتساندها أمها؛ فينزل جيتي بحبه إلى إلى الدرك الأسفل من هاوية الخضوع والخسران، ويبخسه قدره، وعزته، وكرامته، ويحط من شأنه، ويبيعه عبدًا ذليلًا بثمن بخس قدره قبلة لاهية تمنحها إياه الفتاة، ويعود إلى بيته بخفي الخيبة، والحسرة، والانكسار، والضياع.

العقاد بطبعه يأنف ذلك، ويرفضه، ويصمه بالنقص والعيب، إذ كيف لفتاة في عمر الربيع تلتقي بعمر الغروب الآفل؟!

ونسي أن الحب قدر، لكن ما تكتسبه النفس من ظلم في حق أنفتها وعزتها قرار، لا يُلام القلب على خفقانه لمن أحب، ولكن اللوم على النفس إذا سلكت دربًا يخالف فطرتها التي جُبِلت عليها.

وتمر السنون ويجدد المشهد نفسه على مسرح الحياة، فيبتلى العقاد بمثل ما ابتلى به الأول وأنكره هو عليه، فيأتيه الحب زائرًا على حين غفلة من الحذر في الستين من عمره، ويلتهب قلبه بقلب فتاة تصغره، وتلطمه الذاكرة بما فعله في صاحبه جيتي من إتهامٍ وتوبيخ؛ فكتب قصيدته انتقام جيتي التي قال فيها:

يا صديقي القديم اعتذارًا ** لك من سوء ظنتي وملامي

كنت أنهي عليك حبك في ** الستين بنت العشرين فاغفر ملامي

وأراني على ملامك من قبل ** لحب دون الثمانين دام

فانتظرني فقد يجي اعتذاري ** لك طوعًا في مقبل الأيام

إن عشقنا كما عشقت وأوفينا ** عليها انتقمت خير انتقام

 

---