أكتوبر الثالث (8)

(أوشريا ساع آوى)

أول كوب شاى فى سيناء 18 اكتوبر 1973

السعادة الغير عادية فى الصورة..لأبى ممسكا بأول كوب شاى فى سيناء "كنت بأقول للى بيصور احنا فى سينا وبنشرب شاى"

 ما قبل الصورة حكاية طويلة...لكنى لم أمل من سماعها يوما..فى كل عام..بينما نحن جالسين الى مائدة الطعام بالترتيب المعتاد..أبى الى رأس المائدة..أمى الى جانبه الأيمن..أنا الى جانبه الأيسر وبعدى اختى الوسطى..ثم اختى الصغرى الى جوار امى..نعم كنا نجلس إلى المائدة بترتيب الأقدمية..

ننظر اليه منتظرين ان يبدأ الحكاية..أحيانا لا يبدا فتستفزه إحدانا (بابا هو انت كنت زى دلوقتى بتعمل ايه؟) ينظر الى الساعة ويبدأ (اهو زى دلوقتى يا ولاد....) ننظر بإنبهار الى الحدوتة..الملاعق فى أيدينا و أفواهنا الفارغة مفتوحه ...يحكى بإندماج وينهرنا من وقت لآخر كى نستكمل الطعام لان (حصة الأكل المفروض خلصت)..لكننا ظللنا ننبهر كل مرة..وادوات الطعام فى ايدينا و عيوننا مفتوحه...

"اهو قبلها بفترة كنا زى ما احنا..مش عارف احنا حنفضل قاعدين لأمتى...كل فترة يصحونا (حرس سلاح..حرس سلاح) ونصحى نجرى وبعدين يقولك احنا بنختبركم..

قبلها بيوم لقيت القائد بتاعى بيستدعينى (القنطرة- الجيش الثانى الميدانى) و بيلقننى خطة الحرب اللى احنا اصلا عارفينها..وضع روتينى وحصلت قبل كدا كتير..."

"يوم 5 اكتوبر بالليل لقيت جواب جاى لى (سعت 1200 6 اكتوبر 1973) يعنى يتفتح الساعة الثانية عشرة الصبح..حطيته تحت المخدة ونمت..تانى يوم صحيت و فتحته..لقيت ساعة الصفر والمهام بتاعتى كلها ..قلت يووووه..بيشتغلونا....الساعة 12 لقيت اصحابى كلهم بيقولوا يلا دا بجد..بجد!! المرة دى بجد!!!!! الناس كلها بتضحك..مش مصدقين بس بننفذ..اما نشوف آخرتها"

"دخلت استحميت..منها يبقى غسل لو استشهدت..حلقت دقنى...طلعت أفرول نضيف و لبسته..ضبطت منظرى..كان عندى نضارة شمس وبرفان جديد كنت شاريهم وشايلهم للعيد...طلعت النضارة ال Persol و لبستها..ما هو جايز ما ألحقش العيد عشان ألبسها..كنت حأخرج..بصيت للبرفان وقلت ما هو لو انا مت و اليهود دخلوا هنا حياخدوها و حد منهم يتهنى بحاجتى..والله ما يحصل..رشيت نصها...وخرجت أخدت موقعى"

 داعبه احد زملائه:"جرا ايه يا حليوة..انت رايح فين بالمنظر دا!!"

"حاسب يتلخبطوا فيك ويفتكروك من جيش العدو باللى انت عامله فى نفسك دا" فى إشارة إلى عينىيه الخضراوين و شعرة الكثيف الأملس وملامحه الإيطاليه..ضحكوا جميعا ووقفوا كل فى مكانه. كان بداخل كل منهم جزء يتمنى وجزء لا يصدق.

"لقيت الطيران من فوقى (فوووووووو..فوووووووو) لو مديت ايدى لفوق شويه كنت لمسته...دا ببببببجججججججججدددد...دا بببببججججججدددددددد ..صاحوا جميعا..لم يكن أحد يصدق ان الامر جدي حتى ضربة الطيران الأولى.....

"العيال العساكر كانوا بيتنططوا..تنطيط ملوش حل....الله اكبر دى ما كنتش تفهم جايه منين ولا بدأت فين....بنكبر كلنا..العيال بتضحك و بيتحركوا زى العفاريت..طلعوا نزلوا شباك التمويه من قدام المدفع وفتحنا الخرايط والإحداثيات قدامنا...معادنا لسه مجاش..اول ما معادنا جه الضرب اشتغل ..كنا بنضرب بغل..غل....يا ولاد الكلب...سنين لا عارفين نتحرك ولا عارفين نمشى يا ولاد الكلب...سنين شباب زى الورد بيموت ويتصاب واللى دراعه يطير واللى عينه تطير وجثث وناس بتموت وانتوا هناك ياولاد الكلب...)"

"اللى عبروا قبلى أول ما وصلوا بقوا يوطوا يبوسوا الأرض..بصيت لهم كدا وقلت ايه الحركات القرعه دى!!!! ايه شغل العيال دا!!!.

" ميعاد عبورى جه بعد ما فردوا الكبارى...اتحركت انا قدام و وورايا 3 عربيات مدفع و ال3 مدافع بتوعى ....قبل ما أوصل بالضبط اتحبست على الكوبرى..مرة واحدة نقطه من عند العدو كانت صاحية ضربت ...الطلقة أصابت رأس الكوبرى اللى انا عليه والكوبرى اتمرجح..و بعدين التيار خلاه ينجرف بحيث راسه مكنتش ثابته زى الحركة اللى حصلت مع الجيش الثالث..عربيه المدفع اللى قدامى اتسوت بالارض وحفرتها جابت ميه...بقيت واقف فى النص...احنا نضرب يعدى الضرب من فوقى..هما يضربوا يعدى الضرب من فوقى...كان ورايا ضابط احتياط نزل وجالى (نرجع ولا ايه!) مكنش عندى اوامر ارجع ولو جت مش حأرجع..فضلنا كدا لحد الساعه 3 الفجر لحد ما المهندسين جم و سحبوا الكوبرى عدلوه و ثبتوا راسه تانى..."

"كنت حأتجنن..إيه الموته دى!! يعنى 6 سنين مرمى..وفى الآخر اموت الموته دى!!! فى النص!!! أموت بالغلط!!! يعنى 6 سنين يجيبوا طلبة ابتدائى بتوعهم يشتمونا فى الميكروفونات شتيمه متلطعش من راجل مش متربى فى مصر..بناتهم فى ثانوى ييجوا رحلات يعوموا فى الميه ويغيظونا ويشتمونا ..6 سنين اتشتم وبس!!!! لا ايه الموته دى!!!!"

"عبرت أخيرا...وصلت هناك....اتسمرت مكانى ...أنا هناك...أنا على الناحيه التانيه....الأرض اللى تحت رجلى دى الناحيه التانيه."

.-وعملت ايه! 

"عملت نفس الحركة القرعه بتاعه العيال..نزلت بوست الأرض غصب عنى وسجدت شكر لله..أتاريها بجد والعيال مكنوش بيمثلوا..نزلت بوستها غصب عنى بجد...."

"وصلت موقع المدفعية بتاعهم ...بهدلته نيران...كانوا بيصحونى من أحلى نومه وكان مزاج عند الضابط اللى ماسكها يضرب طلقات المدفع يوم العيد فى قلب ميدان كبير فى القنطرة فيه جامع..كان مزاج عنده...ما ارتحتش غير لما جبته أرض"

"العساكر دخلوا الموقع لقيوا كل اللى فيه ماتوا..اتعصبوا..كانوا عايزين يكملوا على الصاحى فيهم بس ملقيوش..واحد منهم جاب بنزين و بدأ يولع فيهم ، قلتلهم بس يا ولاد..ميصحش ..دى جثث برده ولها حرمتها، مكنتش بأتكلم جد أوى يعنى..انا عارف ان فيهم رجاله استشهد لها اخ واتنين وقرايب..وفيهم صعايده ولهم تار .."

.قالوالى "سيبنا يا أفندى نفش غلنا..ما حنا مطلناش الصاحيين مش طايلين الا الأموات" 

قلت لهم"طب لموا ايدكوا فى البنزين..متهدروش اوى..." 

و تركهم يأخذون ثأرهم الرمزى الصغير من جثث العدو.

"فضلنا ماشيين لحد ما بدأت المساحات اللى احنا مسيطرين عليها تكبر...لحد ما أخيرا بعد كام يوم...لقينا شاى...وكوبايات...عملنا شاى وكانت أول كوبايه شاى اشربها من 6 اكتوبر الصبح ..."

يا تاريخ..يا جغرافيا...إحنا فى سينا وبنشرب شاى ..

(أوشريا ساع آوى..هى ساعة الصفر باللغة النوبية..وهى لغة غير مكتوبة و استخدمت كشفرة التواصل خلال حرب أكتوبر)