مستوحاه من أحداث حقيقية
أدى التحية العسكرية لقائده واستقل السيارة المتأهبة لنقله من الموقع لتبدأ أجازته التي تأخرت عدة مرات ولن تستمر أكثر من 48 ساعة.
كان جندي مقاتل فرحات ينتظر الضابط عصام أمام السيارة ومعه الحقيبة. وقبل أن يسلمها له أدي التحية وإستأذن في حديث سريع حتى لاتضيع الدقائق الثمينة من الأجازة التي بدأت للتو. أذن له على عجل.
_ تمام يا فندم. ممكن تتوسط لي يا فندم آكون معاكم
في قوات حفظ السلام يا فندم؟
أخذ الحقيبة منه وركب السيارة وهو يقول: مستوى أدائك هو واسطتك لتكون ضمن القائمة..
ودَّعه رسميا وعينيه تتبع السيارة التي انطلقت وزئيرها يحفر أخاديد في الأرض حتى تركت المكان فيما يشبه العاصفة الرملية.
تلقي عصام اتصالا من زميل دفعته الرائد وائل الذي بشره بقائمة القوة المسافرة إلى سراييفو وأنه سيكون رفيقه إلى هناك. قالها بكل اللغات الست التي يتقنها. وقد علِق بأذن عصام اسم فرحات فابتسم عندما تخيل وجهه عندما يعلم بالخبر.
تبادلا النكات والضحكات إلى أن وصلت سيارته على مشارف المدينة، حيث وجد سيارة فادي الرياضية في انتظاره عند البوابة.
تفاجأ به وسعد برؤيته بعد عودته من رحلته التي قضاها فوق دراجته الهوائية وجاب فيها عدة بلدان. أراد أن يقضي مع صديقه بعض الوقت دون ان ينتقص من وقت أسرته في تلك الأجازة المكوكية، فكان قرار انتظاره عند البوابة ليقله ويحكي له في الطريق.
المفاجأة الأكبر. هي رحلته المثيرة لقمة جبل ايفرست التي ظل يعد لها سنوات وجعلها سرا خشية ألا تتم، كان الأمر يبدو مستحيلا.
كانت أكبر أمنيات عصام هي صعود تلك القمة لكن ظروف عمله شكلت حائلا كبيرا بينه وبين تحقيق أمنيته.
من مطار كاتموندو كان الإنطلاق من العاصمة النيبالية إلى مطار لوكلا الاخطر في العالم؛ حيث تتكرر حوادث الاصطدام على مدرجه؛ فقد تنتهي بك الرحلة قبل أن تبدأ.
- تخيل أني قضيت ثلاثة أشهر في الاستعداد قبل بدء موسم التسلق الذي لا يتعدى شهرين فقط في العام.
سرنا ومعنا الدليل المحترف في مدقات صاعدة بين الأشجار ثم تأرجحنا على جسر الحبال الخشبي الذي يصل بين قمتين مرتفعتين عابرا ذلك الوادي السحيق أسفل منا وصولا إلى المحطة الأولى على ارتفاع ستة ألاف وأربعمائة مترا حيث جبل ميرا بيك.
_ ثبتنا الأوتاد في الجليد وربطنا بها الحبال حتى تساعدنا في التسلق ثم عدنا لنرتاح في (نامتشي بازار) أجمل قرى الهيمالايا.
ظل فادي يحكي عن الرحلة بمخيماتها الأربعة ثم المحطة الأخيرة حيث القمة.
وعصام غارق في التخيل، يخفق قلبه لهذه التفاصيل التي يغبط عليها صديقه، ويذوب شوقا لمثل هذه الرحلة المثيرة التي لم تخلُ من حوادث الانهيارات الجليدية وفقد بعض الرفقاء والعودة دونهم مقاومين الانحدار السريع بفعل الجاذبية؛ ويزيد من صعوبتها الإرهاق الشديد وفقدان الشغف بعد تحقق الهدف.
وصلا إلى بيت عصام. حيث ودعه فادي على وعد بلقاء آخر مع مغامرة جديدة وقتما تسمح لهما الظروف.
أسرة عصام تنتظره، الأبوين والزوجة وابنيه الصغيرين.
تعانق الجميع عانقا يناور الزمن ويناشده التوقف أو التمهل قليلا. نظراتهم وانفاسهم تلاحق عقارب الساعة. تعدو خلفها تريد الإمساك بها عن الدوران، لكن للأسف كلما طاردوا الوقت، زاد من سرعته.
قضوا ليلتهم قبل أن يغادروا في وقت متأخر من المساء ليدَعوه لزوجته ينعمان بفاصل من قرب ووصال في حياة متقطعة؛ ساعات اللقاء فيها كنبتة صبار تختزن الماء للبقاء حية في تلك الصحراء القاحلة.
في الصباح كان الطفلين يتقافزان على سرير الأب ويلهوان فوق صدره. وصوت ضحكاتهم يملأ المكان.
هما يعلمان أنها ساعات قليلة ويغادر. لكنها
عقلية الطفولة البريئة التي تأبى إلا الاستمتاع باللحظة.
انتهت الأجازة بسرعة كما كان متوقعا ومنها استعدادا للسفر مباشرة مع المجموعة.
كان فرحات سعيدا بهذه الفرصة التي ستقرب البعيد وتعجل من زواجه.
و الضابطين عصام ووائل سعيدان بهذا التغيير الذي يكسر روتين العمل.
وصلت القوات المصرية إلى البوسنة ضمن مجموعة متعددة الجنسيات تضم قوات من دول مختلفة بقيادة القوات الايطالية التي يحدد قائدها المهام الموكلة لكل مجموعة. وقد كلفت المجموعة المصرية بحماية المنطقة المحيطة بما فيها ذلك الجبل الشاهق الذي يخترق السحاب.
كانت المعسكرات متجاورة لايفصل بينها إلا مائة متر فقط.
لكن بينهم مئات الأميال من الود المقطوع والتجاهل؛ وتعالي كجبل الثلج المجاور.
تم الترحيب بالقوات المصرية من القوة الألمانية وتبادلوا مع القوات المصرية عزومات الغذاء.
كانت لأصابع الحلوى الطحينية المغلقة في تعيين الجيش المصري مفعول السحر في كسر قشرة الجمود الباردة بين القوات المصرية وباقي المعسكرات حيث ذاع صيتها لما تمدهم به من دفء في ذلك البرد القارص.
وظنوا أن تركيبها سرا عسكريا كما أوهمهم الضابط عصام حتى أسموها اللوح السحري "magic bar".فظلوا يطلبونه دائما.
جاء الأمر للقوات المصرية بمهمة تأمين مجموعة من الأفراد لتركيب أجهزة خاصة بالأقمار الصناعية فوق الجبل. تستغرق ثلاثة أيام.
أعد الضابط عصام الأفراد اللازمين للمهمة بمؤونة تكفي لأيام المهمة الثلاثة،
وذهبوا في سيارت تابعة لهذه المجموعة إلى نقطة مرتفعة على الجبل.
انتهت المهمة وأقفلوا عائدين بسياراتهم تاركين مجموعة التأمين المصرية خلفهم.
ومع الأسف لم يعودوا. فقد بدأت عاصفة ثلجية في الهبوب محولة الجبل إلى زمهرير مطبق لا مفر منه.
وانقطع الاتصال بالقيادة بعد أن لفظت بطارية اللاسلكي أنفاسها الأخيرة حيث خسروا الشاحن المركب في السيارات التي تركتهم.
حاول وائل التواصل معهم بشتى الطرق لكن دون جدوى. تحدث مع قائد القوات الايطالية ليعطي الأوامر لبدء عملية البحث عن المجموعة المصرية لإنقاذها في هذه العاصفة الثلجية التي جمدت كل شيء. فمزيد من الانتظار يقلل من فرص نجاتهم او بقائهم أحياء؛ وعلى أفضل الظروف سيصاب معظهم بقضمة الصقيع " frostbite " أو العمي الثلجي فيفقدوا اطرافهم أو بصرهم إن بقوا على قيد الحياة.
بعد مفاوضات حثيثة، أعطيت الأوامر بالبحث عنهم.
قام وائل بإرسال مدرعة لإحضار زملائه فلم تفلح في صعود الجبل الذي أصبح يغطيه الجليد الزلق. مر يوم كامل والمدرعة في محاولاتها اليائسة حتى تطوعت القوات الإيطالية بإرسال مروحية إنقاذ، لكن العاصفة كانت قد اشتدت كثيرا وصعبت رياحها الثلجية العاتية من مهمة المروحية التي لم تفلح أيضا في الطيران وعادت من حيث اتت.
كان معسكر المصريين في توتر وحزن أشبه بحالة الحداد فلا أحد يحرك ساكنا في انتظار العاصفة لتهدأ حتى لايفقدوا مزيدا من الجنود.
اجتمعت القيادة مع قادة المعسكرات وأجمعوا على تحميل المسؤولية للمجموعة التي عادت وتركت فريق التأمين المصري وأُعطيت الأوامر بإلزامهم بالصعود للبحث عنهم. ومن يتطوع في الصعود معهم.
بالطبع كان وائل أول المتطوعين بعد أن ترك قيادة المعسكر لأقدم جنوده، كما كان حلقة الوصل مع القوات المتعددة الجنسيات لإتقانه التحدث بلغاتهم جميعا بكل طلاقة..
تحركت ثلاث مدرعات تحمل جنود الحراسة، تجر خلفها ثلاثة مقطورات تحمل أطباء ومسعفين من المعسكرات الأربعة.
لاحظ وائل تزويد قافلة الإنقاذ بأكياس للموتى بعدد الجنود المصريين. مسح دموعا حارة انسابت من عينيه؛ لم تفلح برودة الجو في تجميدها. تذكر شغف عصام برياضة تسلق الجبال، لكنه لم يكن يتوقع أن نهايته ستكون فوق جبل ثلجي.
وجندي فرحات سعى للسفر ليتزوج لكنه دون أن يدري كان يسعى ليلقى حتفه بعيدا عن وطنه.
اقتربت القافلة من مقصدها عند النقطة التي تُرك المصريون عندها؛ ومع كل متر يتقدمونه يزداد قلب وائل توترا وخفقانا.
أوقفهم طارئ مفاجيء أثار في نفوسهم الرعب، وجعل القافلة تقرر التراجع في اللحظة الأخيرة.
سمعوا صوت إطلاق نار من الأحراش المتجمدة حولهم. وما أن هموا بالتراجع حتى أتاهم صوت لطلقات أخرى من الخلف. فعرفوا أنهم تعرضوا لكمين.
أمر قائد القافلة الجميع بالتزام السكون والصمت فيبدوا أن الصرب أحكموا سيطرتهم على الجبل فلا أمل نهائيا لنجاة المجموعة المصرية بعد هذه التطورات. لا مؤن ولا تدفئة ولا تواصل وعاصفة ثلجية لمدة خمسة أيام ثم الآن هذا الكمين.
سيكون عليهم المناورة للعودة والنجاة بأنفسهم. قبل التضحية بمزيد من قوات حفظ السلام.
بدأ قائد الكمين المهاجم المختبئ وراء الأشجار يطلب من كل من بالقافلة تسليم انفسهم فهم محاصرون من كل اتجاه.
وبالفعل رأوا أعينا تلمع من خلف الأشجار في أماكن عدة من الغابة المتجمدة.
تفاجأ الجميع بوائل يقفز بهستيريا ويردد اسم عصام.
سأله القائد عن الأمر، فأجابه إنه رائد عصام صديقي أنا أعرف صوته جيدا ولكنته الإنجليزية المتكسرة.
أراد الإذن بالتحرك السريع. لكن أشار إليه القائد بالهدوء والانتظار لعله فخ منصوب لهم. فقد يكون تم أسر صديقه من قبل الصرب وأجبر على الحديث معهم كنوع من المناورة. فعليه التحرك بحذر.
سار وائل ببطء في اتجاه الصوت وهو ينادي بصوت مرتجف فلا يريد أن يكون الطعم الذي تلتقطته القافلة ويكون سببا في إهلاكهم. كما إنه يتمنى من قلبه أن يكون حدثه صحيحا ويكون عصام ومجموعته بخير مع أن الظروف تبدو مستحيلة.
ظل ينادي: رائد عصام أنا وائل جئنا لننقذكم. أُخرج وتقدم ببطء بدون سلاح.
انتظر قليلا في منتصف الطريق وماهي إلا دقائق قليلة حتى سمعوا خشخشة وتحرك للأغصان المتجمدة وتناثرت منها كتل صغيرة من الثلج وظهر عصام الذي يبدو عليه الإعياء الشديد فكان شاحبا
مائلا للزرقة.
أعطى عصام إشارة بيدة فخرجت كل المجموعة المصرية كاملة العدد من أماكن متفرقة من خلف الاشجار.
أووووه...
صاحت القوات متعددة الجنسيات متعجبة من المشهد، كيف للمجموعة المصرية بكاملها النجاة في هذه الظروف؟! وكيف يستطيعون المناورة ونصب الأكمنة وكأنهم بكامل نشاطهم وقوتهم؟!!
وبينما وائل يتبادل معهم العناق،كان الاطباء والمسعفون يقومون بدورهم مع الاجساد المنهكة التي بدأت تتساقط الواحد تلو الآخر في استسلام للألم والإعياء.
راحوا في غيبوبة عميقة خلف الأغطية الدافئة ومحاليل التغذية الخاصة بهذه الحالات تتعلق بأذرعتهم.
تحدد يوم الاحتفال بعودة المجموعة المصرية وتكريمهم وسماع شهاداتهم وقصتهم الملهمة التي سردوها في تحقيقات استمرت أياما حتى تماثلوا جميعا للشفاء،
في طريقهم إلى قيادة المعسكر الإيطالي حيث مكان الإحتفال؛ مازح وائل صديقه عصام قائلا. لقد تحققت امنيتك وخضت مغامرة أهم واصعب من تسلق قمة إيفرست.
ابتسم وقال: سأطلب من القيادة السماح لفرحات بالعودة مع أول فوج ليتمم زواجه. أريد أن أطمئن أنه لازال يصلح للزواج.
ضحك الجميع وأخذوا يشدون على كتف فرحات.
في الاحتفال أذن لعصام بالحديث.. فتحرك وسط التصفيق المنظم للجالسين.
بدأ يسرد تفاصيل بطولتهم وسط انبهار الجميع وخزي المجموعة التي تركتهم وكانت سببا في كل ماحدث.
- عندما أدركنا أننا صرنا بمفردنا دون وسيلة اتصال. بدأت في تقييم الموقف مع جنودي.
المؤن لاتكفي إلا ليومين، ولا نعلم متى يعود الفريق المغادر فلم يخبرونا بشيء. بدأنا في تجميع كل ما معنا من مؤونة وأعدنا تقسيمها بما يناسب أقصى حالات الطوارئ حتى يكفينا لعدة أيام.فلم يكن مسموح لنا من القيادة بالحركة والبحث عن صيد أو ثمار حت لا نفصح عن موقعنا؛ خاصة وعاصفة ثلجية تنذر بالهبوب وسوف تتعذر معها فرص إرسال أي دعم لنا.
وضَعتُ خطة للحفاظ على أرواح جنودي في مواجهة العاصفة بالقليل المتاح معنا.
أولا: أمرت بإشعال النار داخل الخيمة وكل إثنين من الجنود لهما راحة ساعتين لتدفئة أجسامهم بجوار النار بعيدا عن العاصفة.
ثانيا: لن نغفل عن أداء مهمتنا في حراسة الأجهزة التي تم تركيبها. مع استحالة ذلك بسبب العاصفة التي نواجهها بلا أية إمكانيات للحماية.
فكانت خطتي لمجموعة الحراسة هي ألا يبقى جندي في موقعه إلا دقيقة واحدة وبعدها يبدل موقعه مع زميله ليحافظا على نشاط دورتهما الدموية وحماية انفسهما من التجمد ويعطوني التمام كل خمس دقائق ومن يتغيب نعلم أنه بدأ في التجمد ونقوم بمحاولة تدفئته وإسعافه.
وبعد ساعتين تبدل مجموعة الحراسة مع مجموعة الراحة داخل الخيمة وهكذا حتى أتيتم.
لم نفقد الأمل طيلة الأيام الخمسة وظلت معنوياتنا مرتفعة. ولم نكن لنستسلم أو نترك سلاحنا تحت أي ظرف.
ختم حديثه بقوله: لكن لا اخفيكم سرا بعد الخمسة أيام بدأت أتوقع مابين لحظة وأخرى أول حالة تجمد في صفوف جنودي البواسل الذين قاوموا ظروفا قاسية تستحيل معها النجاة.
بدأ القادة في التصفيق ثم الوقوف إجلالا وتقديرا للمجموعة المصرية وللمعسكر المصري كله. وتبعهم باقي الضباط والجنود متعددة الجنسيات وقام الجميع بإعطاء التحية لهم بعد أن عرفوا قيمتهم وقدرهم
عندها فقط
ذاب جبل الثلج.