في ليلة ليلاء عارية من كل شئ إلا الخراب وخيمة أفكاري والظنون السوداء التي حطت ترحالها فوق رأسي، وأسدل الظلام ستائره الحالكة علينا بعدما انقطعت الكهرباء قهرًا بما كسبت أيدي الظالمين، وصارت الأرواح تتضور جوعًا للأمان والزاد، سقط صاروخ غادر؛ فصرخت هلعًا عليها، وثار بداخلي رماد أحزاني الراكدة، واشتعل داخل رئتي يخنقني بمسد الفقد..وتهت بحثًا في الوجوه عنها ولم أصل!
أسأل الجميع عليها
أين رهف؟!
أين رهف؟!
فلم يجبني أحد إلا أنين الأرض المذبوح على مقاصل الغدر والخسة.
ولدت رهف بين أحضان الثلج في ليلة شتوية شديدة الانتماء لطبعها القارس؛ فامتد قلبي ليحملها بين ثناياه ويدثرها بالدفء.
أختي رهف جميلة.. متفردة..
كم كانت ملامحها العنيدة تخادع لون الموت بطلتها، وتضم قلبي حين تقفز براءتها في عمق عيوني وكأنها ولدت داخلها!
كبرت على عيني، وصنعت لسعادتها استراحات شاسعة من الأمان داخل قلبي تخفق بأحلامها الملونة على ضفافه دون تخبط أو وجل..
كنت أمانها، وهي لا تدري أني أستمد طاقتي من قبضة يديها على يدي حين يجمعنا الطريق وأنا آخذ بأحلامها إلى المدرسة لتسقى من رحيق العلم!
تتهادى أمامي كالفراشة التي خرجت من الشرنقة، فرأتني النور الذي يهديها الحياة، ويرشدها إلى مسارها المستقيم،
تجري، وتلهو، وتملأ الدنيا مرح؛ فتسقط لفرحتها سدرة همومي وآلامي العتيقة، وكأن سر الحياة ولد بين ثغري طفولتها الضاحكة!
أتجول بعيني في ملهى الذاكرة المسكون بالضجيج، والمعمور بالصخب والزحام والخواء والدمار، ولحظات الفرح التي عاشت تتهدج داخل أعيننا، وصباحات الأهل المحفورة في جوانحنا بالدفء، وضمة الأم، وروائح الألفة والونس، واستراق آذان الشوارع لخفق خطانا على الطرقات؛ فتثبتها باليقين، وطلة الشرفات علينا وهي تودع مرورنا بالدعوات، وتحرس أحلامنا التي اقتسمناها معها حتى نعود لحضنها ونجواها في لقاء أثير!
وأظل أرشف من فم الذكرى حتى ترتوي روحي ولا أكتفي؛ فألثم وجه السماء بنظرة ثرثارة مخنوقة بالصمت عجزًا؛ فتسكب الدموع في قلبي جبرًا هامسًا:
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } آل عمران