إنه أنا، أنا الصمت، أقف على حافة العجز، أتفقَّد بعينيّ الذابلتين ذلك المكان الذي جمعهما بعد أن صار موحِشًا، مكسورًا، قصم ظهره الوجع، وهدمه الحزن، وكسَاهُ لون العتمة والدجنة بعدما أُطفِئت أنوار الحياة فيه بفراقهما، لم أعد أسمع صوتًا صدَّاحًا، بل أنينًا مبحوحًا يبكيهم بحُرقة، والزوايا، والأركان، والتفاصيل الدقيقة تواسيه، ونبضات الحروف والكتب تنعيه كالنائحات، وأنا لا حول لي ولا قوة إلا احتضان بؤسه ووجهه الحزين، ولا حيلة لي إلا وشْم تلك الأيام التي قضيتها فيه ومعهم على جدران قلبي، وحفْر المشهد ورسائله ونقشه في قلوب العابرين على مدن الحَكَايَا العامرة بالعِبر والعِظات؛ علَّهم يجدون فيها مأربًا صادقًا، وقبسًا من نجاة، أو حتى لطيفةً عابرة من نسمات الحياة.
قطعتُ مسافةً لا بأس بها من الصمت، أنظر إلى البيت بشغفٍ مُصطنع، أمرِّر راحتي على جدرانه المهترئة؛ علَّني أبرِّد وجعه، أو علَّني أنتزع من ثناياه الحزن، وأرد له عافيته بعدما سقط عرش كرامته صريعًا بفعل النزق والجحود الذي أصاب قاطنيه، أشرد حدَّ الغرق في تقاسيمه؛ حيطانه، أركانه، زواياه، أريد أن أشبع منه، أحتفظ بثناياه داخل روحي، أضم كل ذرةٍ فيه إلى حنايا قلبي، أختزن صورته داخلي، لتُقيم فيني، وتحيا معي فيما تبقى لي من صمت، أهيم في شروخه التي ضجَّت بهمسهم، وصخبهم، وزحامهم له دون مراعاة أي حقٍ له حين قررا ذبحه بسكين الفراق دون إحسان! أدفن وجهي الشاحب بين كفيَّ لبرهة علَّني أستريح قليلًا من عناء النظر إلى كل شيء يخصهما، ثم أنهض متفقدًا غيم السماء، لينتزعني من تفاصيل ذكراهم العتيقة المشتعلة بي، علَّه يهطل على عقلي البائس، فيطفئ جذوة الذاكرة، أو يركلني عبثًا إلى أقاصي الذَر قبل أن يولد الإنسان. صراعٌ قاتلٌ داخلي بين عجزي وخرسي وما أعانيه حزنًا لأجلهما دون جدوى، الألم يغزوني بنزقٍ غير آبه بما يعتريني، والعجز موتٌ يغرس أنيابه فيني دون رحمةٍ أو إحسان، الكل يعلن حربًا ضارية عليّ، وكأن قيامتي قد قامت الآن!