في الثانية عشر ليلًا بعد منتصف الحب، في ليلةٍ كألف ليلةٍ وليلة من ليالي تشرين الحالمة، حمل عمرها النابض على قِصَره نسمةً باردةً لغرفتي، فمسّت قلبي مسًا شافيًا لكل ندوبي الغافية على جدران الذاكرة، فنهضتُ أرفع عن عقلي غطاء الأرق، وأنزع نُدبةَ العجز التي وخزها الشقاء والعناء بقلبي حين آثر النوى والتخلي لحظتها على المواجهة والتحدي، فسقط في بئر العذاب بفراقها دون نجاة.
أجلس على كرسيٍ بائسٍ، مسنودٍ بالعجز، مسكونٍ خشبُه العاجي بأرواحٍ خاويةٍ من الضمير، رافضةٍ وجودي؛ لأن صانعه سكب فيه خلاصةَ صبره، وعصارةَ عمره، وزلالَ عزمه، وبقيةً من صدقٍ وإصرارٍ يعزفُ عن وجه الجانحين إلى اليأس والقنوط، الذين تخلَّوا عن دروبهم وأحلامهم في المنتصف المميت مثلما فعلتُ أنا تمامًا، أسند رأسي المحشو بالضجيج إليه، أقبض بذراعيّ المنهكَيْن بالوجع على بقاياه التي أصابتها معاولُ السنين بالهِرم، بعمق احتياجي للسند، ولمن ينتشلني من جُب ذاكرتي تلك الليلة المزدحمة بكل شيءٍ ونقيضه، حتى طيفها الذي يلاحقني كل ليلة إلا أنه الأبِيّ المتعالي الآن. أشعر بعاصفةٍ عتيِّة تجثم على صدري فتكتم أنفاسه، وتُطبِق على شفاهي فينعقد لساني، ويسقط فكري مغشيًا عليه هو الآخر، ولا أجد مُعينًا ولا مرافقًا وفيًا لي تلك الليلة إلا الصمت. إذن، سأدعه هو يتولى عني وعنها الحديث، بعدما باءت كل محاولاتي مع جوارحي بالفشل، فكانت الغَلبة له هو، والبقاء لصوته الذي لا يمل أبدًا.
تتثاقل على شفاهي بسمةٌ عرجاء باهتة، أُرْدِفها بضحكاتٍ متقهقرةٍ ساخرة، تترنح على ملامحي الثكلى كما السكارى، فيتبعُها أنينُ نبضي المذبوح، ورفاتُ تعابير وجهي الممتقِع هاذيًا:
- تفضَّل يا صديقي العزيز، اليوم أمنحك فرصة تُنفِّس فيها عن خرسك الذي أنقض ظهرك، فتنقل عني، وتُسطِّر عمر حكايتي الموؤد في المنتصف. هيا، تفضل.
تنهَّد الصمت بعدما زفر زفرةً عميقةً أخرجت كل ما في جعبته من أنينٍ ونار، ثم قال:
- كان يومًا بهيًّا ليس كمثله يوم، ولا يضاهيه العمر في رونقه وجلاله، منذ أن بزغت شمسُه الساطعة، بهيَّة الطلَّة حين أتت ترفل كحوريةٍ من الجنة، بردائها المغزول بالنور والموشَّى بالتِبْر، تصافح بضوئها الأرض، فتكسو ثراها بوشاح الكَد وتاج السعي، وتلوِّن غرسها بسنابل الجمال الخضراء اليانعة، وأخرى بلون الذهب حين يحين أوان قِطافها، بينما هو تأهَّب باكرًا بروحٍ زاكية مُفعمةٍ بالنشاط، مشرِقةٍ بالأمل، لن يسمح بتسرُّب اليأس داخلها ليأتي بعددٍ متنوِّعٍ من باقات الزهور الساحرة، ذات الألوان الزاهية، والعطور الفوَّاحة، تنطق بكل ترانيم الحب من الفل، والياسمين، والزنابق، والنرجس، وعصفور الجنة، والبنفسج، والعنبر وغيرها مما يبث البهجة في الروح والحياة، أعدَّهم في نسقٍ ممتعٍ لعلمه بحبها الشديد للورود، كما أحضر مئات البالونات المنقوش عليها بخطٍ رائقٍ عبارات عدة منها " كل عام وأنتِ حبيبتي، عيد ميلاد سعيد" ولأنها شديدة الولع بالبالونات، كطفلةٍ بريئةٍ كلما لمح طرفها تمايُل البالونات على خِصر الحائط، صدح فيها بضحكاتٍ طفوليةٍ متتابعة، وهرولت كالطفلة تمرح بين ألوانها الزاهية وخِفَّتها العالقة بنسمات الهواء، وكأنها أحرزت نصيبها من الفرح. وما أغربه هو في هذا اليوم! كان نهِمًا، أحضر الكثير الكثير من كل شيء، وكأن ذلك اليوم هو آخر عهده بالحياة، ومع علمه الشديد أنها لا تميل إلى الكثرة، ويُربكها الزحام، إلا أن في داخله صوتًا يحثه على ذلك، ولا أدري لماذا؟!
نسَّق الزهور في تناسقٍ أخَّاذٍ يخطف القلب ويأسر العين، وملأ المكان بزخمٍ هائلٍ من البالونات بألوانها الخلابة، كما أضاء عددًا هائلًا من الشموع التي بدأت رحلتها معهما منذ تلك اللحظة التي أشعل فيها فتيلها، لينعكس نورُها الدافئ على جدراني الصامتة، فيدفِّئ صقيعُها الذي تجمَّد بفعل خرسي وصمتي، بينما تكتظُ هي الأخرى بآلاف المعاني والكلمات المسكوبة على هيئة دموع تترى كلما تألَّق لهيبُها. وعلى طاولة النهاية، يتوسطها تورتة كبيرة جدًا مزدحمة بالشموع، وكأنه جمع فيها بداية العمر وآخره، وميلاد اللقاء ومنتهاه، والكثير الكثير من الحلوى الشرقية التي تحبها، زحامٌ كبيرٌ يجتاح المكان بأكمله، حتى أنه طلى الجدران، والمقاعد، والزوايا، والأركان، ونضح وجه الستائر والنوافذ، واستوطن الزمان والمكان. بينما هي أشرقت بفستانها الوردي الفضفاض، ينسدل شعرها الأسود المموج على كتفيها وكأنه ينافس دلال الموج، يتوسَّط جبينها قلبٌ صغيرٌ ورديٌ مطرزٌ بفصوصٍ بيضاء صغيرة تتلألأ كالدُّر، فصارت كأميرات الحب اللواتي نسمع عنهن في حَكَايا ألف ليلة وليلة، تزين وجهَهَا بسمةُ رائقةٌ، يتناثر منها الوَلَه، ويتوِّجُها الخجل، تتهادى في غنجٍ، وهي ترفع فستانَها البهيَّ بأطراف أصابعها برقَّةٍ بضع سنتيمترات عن الأرض، ثم تقف في عِزةٍ مكلَّلةً بالحياء، فيهرول إليها على خُطى الشوق وأطراف اللهفة، ويطوِّقُ خصرها بذراعيه، ويتمتم قائلًا:
- كلُّ عامٍ وأنتِ حبيبتي، كلُّ عامٍ وأنتِ السكن والأمان والمأوى لقلبي وروحي، كلُّ عامٍ وأنا بخير لأني معكِ.
فتبتسم ابتسامةً عريضة بملء الفرح والنشوى، وتهمس في خفوتٍ قائلة:
- كلُّ عامٍ وأنت بي، كلُّ عامٍ وأنت بقلبي نور يبعث في روحي الحياة، كلُّ عامٍ وأنت بحياتي جبرٌ يهدِّئ لوعتي، ويمحو شقائي، ويُقيل عثرتي.
وعلى حين غفلةٍ من المكنونِ في طويَّته، تسرح عينيه لحظةً في صدى صوتها ونبض كلامها، فتغزوه طعنةٌ من الألم، ثم سرعان ما يستفيق من شروده ليتم فرحة ميلادها. مدَّ قلبه إليها قبل يده فغشيتها سَكرةُ الحب وأمانه، ثم أجلسها برفقٍ واشتياق على الكرسي أمامه، وبدأ يلقِّمها الحب دفئًا وحنانًا، قبل أن يُطعمها الزاد شبعًا واكتفاءً، ثم تناولا شراب الوَلَه قطرة قطرة حتى رشفاه عن آخره، فامتلأت قلوبهما بمَعِين الشوق الفيَّاض الذي لو وُزع على العالمين لكفاهم، ولكن قلوب المحبين لا تشبع ولا تكتفي من نهر الحب أبدًا، مرَّت الساعات أمام عينيه بسرعة البرق وهو يرمق عقاربها متوسلًا أن تكف عن الدوران أمام عينيه، والتلاعب بعقله، وتشتيت سكونه واتزانه، يتمنى أن يتوقف الزمن عند هذه الليلة، أو أن يسافر بها عبر آلة الزمن، فيؤخِّر ساعاته وأيامه أمام عينيها، ولكن كل هذا الفكر المتعارك داخله يصرخ دون جدوى، لكنها سُنة الحياة المعتادة، لا بد لليلِ من أفول، وللفجر من بزوغ، ولكلِ بدايةٍ من نهاية، ولكلِ شيءٍ من رحيلٍ بعدما يؤدي دوره المنسوب إليه على أكمل وجه. جفَّت مدامعُ الشموع بعد طول سهرٍ محبَّب إليها على أوتار السمر، تعزف معزوفة النهاية على تألُّق لهيبها ودفء مدامعها، حتى خفت ضوؤها، وفارقها فتيلها، وشحب وجه الورد بعد غروب عمره الذابل كعمر حبهما القصير الذي تُرك للعراء والإهمال دون التعهد بالرعاية والاهتمام، وكذا البالونات، ذهب رونقها وخفت بريق نضرتها، بينما هو نهض بكل ما في العالم من قسوةٍ قائلًا:
- آسف! حياتي صارت قبوًا مظلمًا، ومثوىً كئيبًا، وملجأً للحقائق القاصفة، تتلقفني البلايا، تلتهمني الرزايا، تحاوطني الدوائر السوداء من كل جانب، نفسي أضحت بيتًا مهجورًا تسكنه الأشباح، تعوي فيه الذئاب، وقلبي صار زادًا تلوكه المصائب، ثم تذدرده تافهًا معاقًا لا يروق ولا يُستساغ مذاقه لأحد، كيف لي أن أظل معك.. ولِمَ؟! كيف لي أن أطيق أن يمسَّك مسٌّ ولو بسيط من الألم وأنا واقف مكتوف الأيدي شاخص العينين لا يمكنني فعل شيء لإنقاذك مني، من مشاكلي، وهمومي، وتلك الآلام، والمآسي، والعثرات التي لطَّخت أيامي بالسواد بما كسبت يد الظلم والعناء، دعيني وشأني، فِرِّي بنفسك مني، لا أريد لكِ الشقاء، كفاكِ وجعًا، كفاكِ احتمالًا، كفاكِ صبرًا، فقد تبرَّأ الصبر منكِ، وآثر علقم الصبار عليكِ، كفاكِ براءة وعيشًا خارج حدود الدنيا، أما قرعت آذانك تلك الكلمات "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها".
نزلت كلماته على مسامعها وقلبها كالهزيم المُرتعد، ارتجَّ ثباتُها، وارتجف جسدًها، ارتعشت ملامحها، اعتراها الخرس، شُلَّ تفكيرها، لم تستطع استيعاب ما يحدث، كان بمثابة ريحٍ صرصرٍ عاتيةٍ ضربت جذوع علاقتهما الراسخة حتى اجتثتها من أوتادها، لكنها تشبثت بخيطِ أملٍ واهنٍ لاح لها وتلعثمت قائلة:
- أنت تمزح، أكيد تمزح، لكن ما بك؟ أجننت، أم اعتراك مسٌّ من المجاذيب، هل هكذا يكون الهراء؟ أيكون على تمزيق قلبي؟
قاطعها قائلًا: هذا ليس مزاحًا، تلك هي الحقيقة.
نظرت في ذهولٍ إليه، ثم قبضت بيديها المرتجفتين بكل ما فيها من وجعٍ، وما اعتراها من رعشةٍ على ياقة قميصه، وصرخت بصوتها المخنوق ثائرة:
لِمَ؟ لِمَ تفعل بي هكذا؟ أين عمري، حبي، ميثاقنا الغليظ، تفاصيل عمرنا المحفورة في كل ذرَّةٍ فينا، ليالينا المغزولة بالحب، أين؟ هل صار عمرنا هباءً تذروه الحياة، أم صار حبنا سُدىً، أحلامًا من ورق، آمالًا من ثرى، وطنًا منزوع الهوية، فاقد الطوية؟
لا، لا تقل هذا، بربك ورب القلب، لا تُرِني أني استندتُ إلى هباء، أو اتخذتُ من الهواء متكأً، فأقبسني من الخذل صعقًا، وأُوردني من التيه نزقًا، فسُهمت في صرحٍ من دعاء، فوق مدن السماء، أعليته بمدادٍ من القلب، وبنزفٍ من الروح في محرابٍ من الصلوات، فتلوَّنت مرايا الثقة، وتكسَّرت مرآتي. قل لي لمن؟ لمن ستتركني؟! وأنا أول ما فتحت عيني على السعادة حين التقى غموضها بعينيك، وأول ما نبض قلبي حين مددتُ له طرْف المحبة، فبسط لك وجيبه لتخطو على رجيفه في اطمئنان وإلى الآن لم يرتد إليه طرفه، وأول ما انحلَّت عقدةُ لساني وفَرطْتُ عُقدَ الصمت حين التقيتك، فبعثرتُ كل ثرثرتي المائجة على شاطئيك دون تلعثمٍ، أو ارتباكٍ، أو حذرٍ، أو خوفٍ مع أني كنت مع الغير خرساء بكماء لا تفقه شيئًا عن ثقافة الاختلاط، أو إجادة فن البوح، وإن حاولت، تاه مني التعبير، وألقمتُ الكلم في قيد الصمت، كان الكون كله غريبًا بالنسبة لي إلاك، كنت أرى رفيقات عمري يسررن بالحكايا وصخب يومهن إلى أمهاتهن، بينما أنا كنت ماهرة في إخفاء كل ما يجول بخاطري، وأيامي، حتى أتيت أنت فبعثرت كل مكنوناتي الماضية والحاضرة والآتية على صدرك وبين أحضانك، وكأني الطفلة التي فقدت أباها منذ الذَر حتى جاد عليَّ الزمن بك فرأيت فيك كل شيء؛ الحصن، السند، المأوى، الأمان، الحياة، ونفسي التائهة بين جنبات الدنيا، والآن تقول لي بكل لا مبالاة دعيني وشأني؟! وكيف لي العيش وأنت كل شأني؟ أهكذا سوَّل لك فكرك، أهكذا تراني أستحق كل هذا العبث منك؟ ما أقسى الموت حين يأتيك من الجهة التي آمنت بها وأمِنت! ما أعتى الهلاك حين يكون على نفسِ ذات اليد التي تهبك كل شيء، وفي نفس اللحظة تقضي على كل شيء! يااااه! ما أهون النفس، وما أقسى الحياة حين نتقاسمها مع من يبخسون حقنا فيهم وقدرنا لديهم، ليجعلوا منها صالة عبورٍ نعبر من خلالها لساعات الفرح التي تجمعنا بهم، وكأن قلوبنا كانت ملتقىً للهو والمرح! أما عن كل مايخصنا ويعنينا من أمرهم،كان مطويًا عنا في غيابات الكتمان، إذن، فما قيمة وجودنا في حيواتهم إذا لم نكن المرفأ الذي تستقر عليه سفنهم بعد مشقةِ وعناءِ الحياة، إذا لم نكن الملجأ، والملاذ، والوِجهة الآمنة، والحاضن الأول لحزنهم قبل فرحهم؟! أيعقل بعد كل هذا العمر أننا كنا نُبحر في الاتجاه الخاطئ، أننا لم نلتقِ بالروح التي تشبهنا وتُكملنا بعد كل هذا السعي؟!
خبِّرني بربك، لمن أشكوك وأنا ما اعتدت الشكوى منك إلا إليك؟ كيف أُذهِب غيظ قلبي، وأُفرج عن غُصَّة صدري، وأزيح عنه جبال الهمِّ الجاثمة عليه، وكيف لي أن أُسْقطك من عين قلبي فأشكوك لسواه؟! خبِّرني، ماذا أفعل وأنت ساكنٌ فيني، سارٍ بكياني، كلما جاهدت قلبي أن يلفُظك طريدًا بلا مأوى، نازعتني فيك روحي أن رُدِّيه إليكِ؛ فأنتِ بدونه بلا روحٍ أو مأوى؟! ماذا أقول لمرآتي حين أقف أمامها أتحسس ملامحك التي كسَتْ وجهي، ووشمته بك حتى صرنا باكتمالنا روحًا واحدة لا ثانيَ لها؟! ماذا أفعل بروحك التي عبَّقتِ الأماكن، والزوايا، والأركان، والمقاعد، والستائر وكل كل شيء بدفء أنفاسك؟
أشاح بوجهه عنها، ومضى يجرجر حقيبته المُثقلة بالخيبات، تاركًا روحه عندها، آخذًا معه الوحْشة والخواء.
تجذبه إليها بقوةٍ، وتصرخ فيه ثائرة:
- وإن كانت حياتك كما تظن، فأنا معك، استند بكل أثقالك وأوزارك، وأتراحك وآلامك على قلبي، وألقِ بين ثناياه ما شئت من وجع.
ينظر إليها في استجداء: لا، لن أضيع عمرك معي دون جدوى.
ترجوه قائلة: بالحب سنتجاوز كل محنة، ونجتاز كل ألم.
يلتفت عنها ويمضي دون رجوع، رغم علمه اليقيني أنه بتركِه لها بهذه الطريقة لم ولن تعود له مرة أخرى.
أما هي، فقلبت كل شيء رأسًا على عقب، وأطاحت بكل شيء، تلك الطاولة بما تحويه أسقطته أرضًا وهي تصرخ باكية، تطفئ لهيب الشموع المتبقية بيديها دون مراعاةٍ للألم، وكأن مُصابها أفقدها الشعور، مزَّقت كل شيء، حتى صارت الأرض مرتعًا حافلًا بالفوضى، واختلط الضحك بالبكاء، والأمل بالألم، والحب بالمَقت، وعانق الموت الحياة، ثم سقطت جاثية في حضن الأرض بعدما جفَّ نهر دمعها، ويبس جلدها، وتقرَّح جفناها، وفقدت القدرة على فعل أي شيء، فألقت برأسها على شظايا هداياه المتكسِّرة، فاقدة الرغبة في الحياة، حتى بزغ الفجر يحمل على أكُفِّه بصيصَ أملٍ جديدٍ، وميلادَ فرجٍ، وبعثَ حياةٍ يصدح معه صوت الشيخ نصر الدين طوبار وهو يرتل بصوته الشَّجي المُفعم بالسكينة والأمل:
حين يُهدي الصبحُ إشراقَ سناه
يسكبُ الطلَّ رحيقًا من نداه
مُوقِظًا بالنورِ أجفانَ الحياة
الضحى من نورِ مَنْ؟!
والندى من فيضِ مَنْ؟!
سبَّحت للهِ في العُشِّ الطيور
ترسل الأنغامَ عطرًا في الزهور
تصنع العُشَّ وتسعى في البكور
عيْشُها في رزقِ مَنْ؟!
وهي أيضًا صُنعُ مَنْ؟!
نزلت الكلمات على قلبها بردًا وسلامًا، تحاول جاهدةً استجماعَ ولملمةَ ما تبقى فيها من أشلاء ممزقة لا زالت على قيد الحياة، تلفَظ أنفاسها ببطءٍ شديدٍ، وروحٍ تنازع مِعوَل التعب والإنهاك، تستند على اللاشيء، فتسقط لقمةً سائغةً للوهن، وملجأً شاسعًا لليأس، كلما حاولت النهوض تشبث بها القهر، فأرداها إلى هاوية الضياع، لولا لطف الله الذي أقامها من بئر هلاكها العميقة، فنهضت تدلِف كعجوزٍ نال منها الدهر حتى صار هِرمُها عكازها الوحيد في هذه الأرض الخراب، إلا أنها رغم كل ما ألَمَّ بها اتخذت من رحمة الله متكأً، شرعت تصب على لهيبها ماء الوضوء، علّه يطفئ بعضًا من نار الحزن التي أضرمت داخلها، ولما أصبح فؤادها فارغًا من كل شيء إلا الحزن، حتى كادت أن تُبدي به، أتاها اليقين هامسًا: "الله أكبر، وحسبنا الله" فهمستْ في أذن الأرض قائلة: لمْلِمْي يا دموع السجود بُوحي، وانهضي لتُقيمي الحياة.
أما عنه، فقد حمل معه حقائب تخلِّيه وخذلانه، وفكره العقيم الذي خُيل له وأوهمه أنه على خُطى الصواب يمضي، لكنه كان يحبو على نزف دموعها وقلبها المفطور، ثم وحشته واغترابه، ولكنه لا يدري غير أن الأيام حين دارت، أوردته مورد الألم، وسقته سُقيا العذاب بقراره الخاطئ ورؤيته السقيمة. غريبة هي تلك القلوب الفارغة إلا من السَفه، تهرول إليها النِعم والمِنح من حيث لا تدري ولا تحتسب، لكنها حين تُوضع وإياها على مفارق الاختبار ونار الابتلاء، تتنصل هاربة دون أدنى يقين أو تحمُّل لأمانة المسؤولية، تجر وراءها ضيق أفقها، وفهمها القاصر لمدى بصرها. أما علمت أن قدر الله نافذ، وما شاء الله كائن، وما لم يشأ لم يكن؟! لِمَ نُوكِل أمرنا لأنفسنا حتى أهلكتنا ظنوننا، ورؤيتنا الحمقاء، وخيالنا الواهم؟ ولمَ جعلنا مواثيقنا الغليظة عُرضة لأي رياح غدرٍ قاصفة تقتلع العلاقة من جذورها، هل الأمانات هيِّنة إلى هذا الحد؟ ولِمَ جعلنا أجمل ما فينا من مبادئ وقيم راسخة كمحطةِ عبورٍ بائسة يحسبها الحيارى والقانطون استراحة نجاة، حتى إذا أتوها لم يجدوا شيئًا إلا وجه السراب مكشرًا عن أنيابه؟! ولِمَ نوقف القلوب الوفيَّة الأبيَّة موقف الهوان، ونُهلكها إلى هذا الحد، فنهين فيها النبض حين نسقط قدرَه، ونلقِي به في بئر التِيه، وكأنه حين أتانا خفقُه من باب الصدق وبراءة الفطرة أبينا إلا أن يكون نبضًا زهيدًا في مزاد القلوب، ليُباع عبدًا ذليلًا بثمنٍ بخس؟! وهل القلوب سلعة تباع وتشترى؟! لقد جُعلت القلوب حرمًا آمنًا، فإذا دخلتموها فأحسنوا السعي، وأكرموا الجِوار، ولا تُقيموا فيها على حرف، فتبخسوا الصِلة قدرها، وتُزهقوا حق الحياة!
القلوب ليست ملهىً للرقص على نزفها، والعبث فيها وقتما نحب وكيفما نشاء، والأنقياء هم صفوة الزمان، وتاج العِزة المُزدان على جبين الإنسانية، فإذا تهيأت النفوس الأمَّارة للنيْل من سكينتهم، وقرار قلوبهم، والاستهانة بقدر الطِيبة التي خلقهم الله عليها، فانضحوا وجوههم بحفنةِ نقاءٍ، وغيمةِ صفحٍ، ودعوة صدقٍ، وانشروا السلام حبًّا وفراقا، وكونوا على قدر الإنسانية التي نسبكم الله إليها، وكرَّمكم بها في كتابه بسورةٍ كاملة تحمل اسم (الإنسان).
يا كلَّ من أغدق الله عليه من فيض فضله حتى شبِعت روحُه، وتُخِمَتْ نفسُه بالترف فزهِد نِعَم الله عليه، إياك وجحود النعم؛ فإن لصبرها عِزة، ولوجودها كرامة، وكل ما فيها إحسان من الله إليك، فإذا أنكرت كل ذلك، زالت، وعشت تائهًا ضالًا تتلمس بقايا الفتات، أو رائحة الوجود، أو حتى زفرة فضلٍ تأتيك على جناح الوهم أو بساط الخيال.. ولن تأتي!
أما عنها، فكانت تلك الفاجعة بالنسبة لها الطامة الكبرى، والضربة القاضية التي انتشلتها من مَعِين براءتها، وعمر طيبتها الوردي، وعالمها الخارج عن حدود الدنيا إلى الدنيا، فصقُل قلبها، وقويت نفسها، ورأت الحياة كما يجب أن تراها.
أحيانا تستجدي منا الحياة صرخة، صرخة مدوِّية في وجه الظلم، ربما تكون سببًا لقمعه، أو درءًا لفاجعةٍ أكبر، أو نجاةً من هولٍ أعظم، نقطةً فاصلة في حيواتنا، تناشدنا أن نخلع عنا رداء المثالية المُفْرِطة، ونطلق سراح صمتنا الذي قيَّدْناه طيلة العمر بالخرس حرصًا على من نحب، وحفاظًا على عِزة قلوبهم وسلامهم، وليت قلوبنا لحظتها تنصت، أو نبضنا يغفو عن الاضطراب إليهم، أو نرفق بصوت العقل لمرَّة - مرة واحدة فقط- ولكن هيهات لقلوبٍ جُبلت على الرحمة، والطيبة الممزوجة بالسذاجة، والحُمق والتحليق خارج حدود الحياة وبعيدًا عن وجه الدنيا الزائف! نحن لسنا في المدينة الفاضلة، هنا دنيا الناس، ولله في كل نازلةٍ حكمةٌ ومددٌ، فكان على قدر النقاء الذي يعتمر بتلك القلوب أن تتجرع مرارة أفاعيل البشر قطرة قطرة كمن يلعق حنظل الصبَّار على مهلٍ حتى اعتاد مرارته فتساوى معه المذاقان الحلو والمر معًا، وكلاهما فيه الفضل والغَث، وعلى القلوب أن تُبصر وترى، وتخلع عنها غشاء العمى. كلنا في هذه الحياة خلقنا للسعي وللجهاد من أجل واقعٍ أفضل لنفْسٍ أبيِّة لا يرضيها العيش في الظل، أو التواكل على ما يُلقى إليها شذرًا وازدراءً من فتات كلِّ شيء.
كلنا محاربون، وليست الحرب بالسيف أو بالعنف، هناك من يحاربون بالحب والقلم، بالصبر والجِد، بالعزم والإصرار والمثابرة، بالتحدي واليقين الذي لا يُهزم، وإن كان القدر الموت من أجل فكرة، يكفي أن نلفَظ أنفاس النهاية على صدر العِزة والشرف، وما علينا إلا مساندتهم ومؤازرتهم لينهضوا بقوةٍ ويقينٍ ويعيشوا الحياة.
يا كِرام،
يا كل من ألبس الله قلوبهم لباس الرحمة، وآوى غربتهم ووحشتهم بالسكن والطمأنينة في معيته، وأنار عقولهم بنور الحكمة والفهم عنه،
دثِّروا بالنُبل المحاربين بالحب والقلم، القاهرين ناصية العُجْب والوهن، القاصمين ظهر المقت والمحن ببراءة الفطرة ورُضاب الآيات، شدُّوا أزرهم بآيات المعيَّة والسند، وطمئنوا سعيهم بكلمات الدفء والونس، وظلِّلوا قلوبهم بغيمات الرضا والفرج، خذوا من حيواتهم قبسًا من هدىً، ومشكاة نور يهتدي بها الحيارى والتائهين في عتمة وبعثرة الدروب.
وأخيرًا، تمنيت أن أكون شيئًا آخر غير (الصمت) حتى أُسْمِعْهم أنيني، وأصعقهم بصراخي، أو حتى يستشعروا حدود فهمي وإدراكي الحزين؛ علَّهم يفهمون عني ولو معنىً من كتائب ذكرياتهم المحفورة كالنقش على جدراني، فيدركون حجم عنائي بهم، وامتلائي بتفاصيل حيواتهم، لكن ما عاد يُجدي الآن، كل ما أتوق إليه أن يعود الفرح ليعلِّق أضواء زينته على مدائن قلوبهم، ويستوطنها فيحييها ويبعث فيها الحياة من جديد.
ماذا لو؟!
ماذا لو تعجّل الفجر مخاضه، فذهب الحزن أدراجه، وأشرقت شمس الروح بعد الأفول، وعُدنا نتهادى الفرح صمتًا في دعاءٍ وأمنيةٍ بعيدًا عن أعين الدنيا، وسفسطة الحياة؟! ماذا لو ألبسنا قلوبنا حُلل الطمأنينة لحظة ميلاد الفرح، وهرولته متلهفًا لضمةٍ دافئةٍ وقُبلةٍ حانيةٍ، وقلبٍ قرير النبض؟ أو ليس إكرام النِعم واجب؟! ماذا لو تركناه آمنًا في جوارنا، يحيا بكل تفاصيله، فأكرمْنا ضيافته وأحسنَّا استقباله؟! وماذا لو خلعنا عنا الرجفة، والعَبرة، والغُصَّة، وألقينا بكل تبِعَاتهم وراء قلوبنا، ومضينا على خطى الفرح نزفُ الأمل بشريات؟!