"نحن قوم نعرف كيف نختصم دون أن تفسد الخصومة رأي واحد منا في صاحبه" كان يغرد بها طه حسين في موقف نادته فيه العزة والشرف!
في مجلس زاده الأدب، يتسلل خلسةً من ثغرة الخلاف، ويسدل عباءة الغيبة المهترئة في حضرة الخصوم؛ ليعكر صفو اللقاء المنعقد ويهدم وقاره، فيمتطي هواه عالقًا به كسرابٍ بقيعة يظنه المحترق لهثًا وراء هوى نفسه وانتصاره لها ريًا، حتى إذا غاص في أعماق فكره وشطحات خياله، ووصل إلى ذروة مطمعه، لم يجد إلا ظنونًا عمياء محبوسة في وجه فكرة رمادية ملونة ظلت تتنادم معه وتقرع كؤوس الغفلة على نهم، فسقته المُهل غبنًا وإسفاف.
حين دخل د. عبد الرحمن بدوي على د. طه حسين وهو في برفقة تلاميذ العقاد المقربين، وأخذ ينبش ناصية الغياب، ويوقظ الرماد من غفوته، فيضرم نار الغضب على العقاد قائلًا:
إنهم تلاميذ العقاد!.
روحه التي تسري داخلهم، وأدبه الذي يعيش فيهم، وهو من هو في خيلائه، أنفه مرفوعًا في عزةٍ وإباء وكأنه يناطح السحاب غرورًا وكبرياء وما هو بفارس، كثير الادعاء، بعيد عن السواء النفسي، سلط عليه اللسان فتحاشاه الناس، صالونه مأوى لليأس والتيه من يتردد عليه مرة واحدة يفر هاربًا خشية ابتلاعه!
لا يفقه شيئًا عن أصوله لا في الدين ولا دنيا الفلسفة، عبقرياته مليئة بالسفسطة
قصف الألم رؤوس التلاميذ بصداعٍ مرير، وشق صدورهم، وأحزن نفوسهم ما قاله عن أستاذهم وقدوتهم.
تركهم الضيق والألم ثم ذهب ليستقر على ملامح د. طه حسين، واضطجع إلى كرسيه المصغي إليهم جميعًا ثم انحنى للأمام في حزم وهو يطاوعه ثم تنهد وأطلق زفرة حررت معها كتلًا من الهموم المكظومة داخله ثم قال:
لا.. لا يا عبد الرحمن، إنك تظلم الرجل، وتعطي لتلامذتك نموذجًا سيئًا للنقد أو للحكم على الرجال، إن العقاد يا سيدي رغم ما بيننا أكثر الناس علمًا بعلوم القرآن واللغة، وأقدر مفكرينا على خوض بحار اللغة والنجاة منها، ثم العودة إلينا بصيد ثمين، لقد ظلمته يا عبد الرحمن إن العقاد قاس في أحكامه، ولكنه يأخذ نفسه أيضًا بهذه القسوة تمامًا كما يأخذ غيره، وهو لا ينقل شيئًا إلا إذا كان متأكدًا منه، وهي خصلة أحترمها كما أنه لا يدعي رأيًا لنفسه، وإذا عرض رأيًا فإنه ينسبه لصاحبه، أما أنه جاهل فإني أخالفك تمامًا، وأما أن رواده قليلون، أو إذا زاروه مرة واحدة لم يعودوا إليه، فذلك مالم أعرفه عنه!
لا تروق لي المعارك الأدبية وإن كانت قد أثرت اللغة كما قال البعض، لكني لا أستسيغ ألفاظها، ولا أطيق مصافحتها بالعين، أو مرور القلب من خلالها حزنًا على أدبائها ومعاركهم، لكني يأسرني نبلهم الذي يتجلي في شيمهم وأخلاقهم حال الخصومة، وانقطاع بيانهم إلا من الذكر الحسن والثناء الجميل إذا حل الموت بأحدهم.
#زينات_مطاوع