«… كنت أظن أن قدرتي غير محدودة، ومكنتي لا مبتوتة ولا مقدورة، فإذا أنا من الأيام كل يوم في شأن جديد؛ تناولت القلم لأقدِّم إليك من روحي ما أنت به أعلم، فلم أجد من نفسي سوى الأفكل والقلب الأشل، واليد المرتعشة والفرائص المرتعدة، والفكر الذاهب والعقل الغائب، كأنك يا مولاي مَنَحْتَني نوع القدرة للدلالة على قوة سلطانك، فاستثنيت منه ما يتعلق بالخطاب معك والتقدم إلى مقامك الجليل.»
من الإمام (محمد عبده) لأستاذه (جمال الدين الأفغاني)
يظن أميون الوصل بالرسالة غُلوًا وتقديسًا وتعظيمًا!
وما هي إلا رسالة رسمها الحنين بريشة الوله في إمارة سيدها الفراق ولم يعد يحكم فيها سواه؛ فكانت الروح هي المتدفقة بين ثنايا الورق تزخ النبض بحمولة فائقة من المعاني ليس كمثلها في الحسن والجلال لفظ!
فحين صافحتها العيون، وقبلتها القلوب اشتبكوا في صراع بين الحيرة والإعجاز من أمر قلبٍ خرج عن النص!
وما كانت إلا رسالة سالت من دفق الروح.. لعلهم يفقهون!
فهما اثنان من الزمن النادر تلاقيا على صراط الجهاد، استخفا بالدنيا وكبريائها، وهانت عليهما رغبتها في أسر البشر، وإحياء مراسم الخضوع في معبدها، فلم يتهالكا عليها، ولم يسعيا في مناكبها على عجل لإشباع النفس وإرضاء الهوى، ولم يتسلل الوجل إلى قلوبهما ممن يملكونها، بل كانت مسبحة الحب تضيئ ليل السلاطين وظلام العالمين حين تتمتم بذكر رب البشر!
فقد كان جمال الدين يعبث بحبات سبحته في حضرة السلطان عبد الحميد، وينبهه رئيس الديوان إلى قواعد التشريفة، فيجيبه ساخرًا: «مه يا هذا … إن السلطان يلعب بحياة ثلاثين مليونًا من بني آدم، أفلا يلعب جمال الدين بثلاثين حبة من حبات الكهرمان.»
وكان الخديو عباس الثاني يشكو من مسلك محمد عبده في حضرته ويقول: إنه يدخل عليَّ كأنه فرعون! … ويستمع محمد عبده إلى هذه الشكوى فلا يزيد على أن يقول: وأينا فرعون؟
هما اثنان كانا على موعد مع الفناء في الخلق وتعليمهم وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم.
حين خرج الفتى الناشئ (محمد عبده) من جلباب أسرته المغزول بالرحمة والمودة والعطف، والموشّى بالصدق والوفاء، انطلق كالخيل الجامح إلى حضن الدنيا الممرد بالشوك، وسنتها الممهدة بالكبد والشقاء والتنازع على البقاء، ودربها المجدول بالأثرة والمفروش بالرياء؛ فكبا قلبه وصدمته الحياة، وظل يتقلب بين سماوات الطموح وكبوات الحياة إلى أن رست روحه على ضفاف أستاذه جمال الدين الأفغاني، الذي رد له طمأنينته، وأعاد له سجيته،
وكان يشكو هذا الحال إلى شيخه القروي من أخوال أبيه كما قال في ترجمته: «فذكرت له اشمئزازي من الناس وزهادتي في معاشرتهم وثقلهم على نفسي إذا لقيتهم، وبعدهم عن الحق ونفرتهم منه إذا عُرِض عليهم، فقال لي: هذا من أقوى الدواعي إلى ما حثثتك عليه، فلو كانوا جميعًا هداة مَهْدِيِّين لما كانوا في حاجة إليك. ثم أخذ يستصحبني في مجالس العامة ويفتح الكلام في الشئون المختلفة ويوجِّه إليَّ الخطاب لأتكلم، فيتكلم الحاضرون فأجيبهم، وأنطلق في القول على وجل في الأمر، وما زال بي حتى وجد عندي شيئًا من الألفة مع الناس والاستئناس بمكالمتهم، وفي شوال من تلك السنة ودَّعني وبكى بكاء شديدًا ومات في السنة الثانية"
وكأن الأستاذ حين التقت بصيرته بعينيّ تلميذه محمد عبده قد رأى فيهما روحه تجري بين ماء عينيه، تتخذ من الأهداب المصبوغة بالحمية والثقة ظلالًا تأوي آمال أمة، ونهضة تاريخ، وحلم ينتظر التأويل، والعديد من الحقائق المختبئة داخل طيات الجسد فضحتها مرايا الروح حين ضاقت بحملها العينان؛ فشرع يخلق في تلميذه ملكة كانت متأصلة فيه، وفي طبيعته العمليه، فرده إليها، وعزم على تعزيز تلك الثقة التي تمكن له النهوض إلى الغاية العظمى والمطلب البعيد
وكان يسأله مغتبطًا راضيًا: قل لي بالله، أي أبناء الملوك أنت؟