أنا ابن الشقاء ربيب (الزريبة والمصطبة)
وفي قريتي كلهم أشقياء.. وفي قريتي عمدة كالإله.. يحيط بأعناقنا كالقدر.. بأرزاقنا.. بما تحتنا من حقول حبالى
يلدنا الحياة
تتجهم الحياة أحيانا لأصحاب العقول والأفهام, وتحرق قلوبهم, وتلقي ببعضهم خلف قضبان السجون, أو المستشفيات, تلقي بهم لأنهم في واقع الأمر, لا يعرفون خداعا, ولا نفاقا, إنما هي الحقيقة, وحب الخير والجمال, هو الهدف المقصود, إنهم في سبيل نشره, يلقون بأيديهم إلى التهلكة.
إن الحياة ليست جمهورية أفلاطون الفاضلة, والتي يحكمها الفلاسفة والحكماء, والتي هي خيال, ولن تتجاوز يوما الخيال, إلى عالم الواقع, فلولا أن أغلب الناس تلجمهم القوانين والشريعة, لصارت غابات متطاحنة, يتصارع فيها الإنسان كما يتصارع الحيوان في الغابات, الطبيعي إن يغلب الحب الكره, في الإنسان, لأنه نقي, ثم تدنسه المواقف السيئة التي تقابله, كان نجيب سرور ذا نفس شديدة الحساسية يستقبل الحياة بكل فؤاده, فإذا هي تصفعه على وجهه, الإنهيار والبكاء والشعور بالعجز الشديد, كان يفتح ذراعيه ليحتضن الحياة بكل حب وشوق, وإذا بها تتلاقاه بضربة قوية فوق رأسه, كانت قصيدة الحذاء من أوائل ما كتب الشاعر, وأول ما نشر من شعره, وكانت صفعة شديدة على خديه الناشيء, أنفجر من موقف, لامس فيه خياله السماء فخرا وتيها وكبرياء, فإذا به يتحطم كالزجاج, وتجرح قلبه الصغير آثاره, يعود مذهولا متسآلا ولا إجابة مقنعة من أحد, إنما هو الطغيان, متمثل في العمدة وأمثاله, فكفر بالطغيان وبصوره, كفر بكل رب من هذه الأرباب التي يقدم لها الفقراء فروض المذلة والمسكنة والضعف, تنهال فوق صورة أبيه التي كانت تطال السماء, هذا الجبل الشامخ, ينهال عليه بالحذاء ضربا وركلا, كأنما ليس بالرجل, حشرة يدهسها قدميه, إنها المفارقة العجيبة, لدى الشاعر الموتور, لدى الصغير حين ينهار المثل الأعلى للإنسان, الذي طالما نظر إليه, ويتمنى يوما أن يصل إليه, أن يضاهيه في الرفعة والعلو ..خرج إلى الحياة يملؤه الأمل في الحياة, بأنه يستطيع أن يصنع شيئا, أن يكون له بصمة في عالم الحياة, بل في عالم الجمال, كان شاعرا عاشقا للمسرح, أبدع فيه تأليفا وإخراجا وتمثيلا, حارب من خلاله الظلم والطغيان والقمع والتشريد, ولكن سرعان ما تحطمت أماله الكبرى تحت وطأة الظلم وطاردته حتى في بلاد الحرية, أو هكذا كان يظن, ليس في العالم في الأرض التي يحيا فوقها, ركن خالي من وطأة العبودية, من مطاردة الحرية, من قمعها, كانت رحلة حياته شاقة نالته من مصائبها الكثير, حتى ألقوا به في مستشفي العباسية, أرادوا له الموت في بطيء, أرادوا عذابه, حين يتهم بالجنون لأنه أراد أن يطالب بالحرية للإنسان, والعدالة بين البشر, وكيف يقر للمظالم والطغيان. إن مقاييس الإنسان عجيبة حين يعطى, ويقود سفاكين الدماء والجلادين زمام الحياة, ويلقى أصحاب الفكر وأنصار العدالة في غياهب السجون, والمستشفيات ..إن قراءة دواوين الشاعر تطفح بالألم والضيق من معاملة الحياة, التي تبدو على النقيض من كرامة الإنسان وفكره, لتجعله صنم بلا روح أو مشاعر..