تقول السائلة: سمعت بعض من يفتون يعظمون صيام هذه الأيام ويقولون بأن صومها كرمضان في الثواب ، بل يوجد من قال بأنها أفضل من العشر الأواخر من رمضان ، فهل هذا صحيح ؟ خاصة وأن كثيرا من الناس يعتقدون فرضيتها، ويؤثمون من يفطر فيها وكأنه أفطر في رمضان .
الجواب : صيام التسع من ذي الحجة ليس فرضا ، بل وتوجد رواية في صحيح مسلم رحمه الله عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : (لم يصم النبي صلى الله عليه وسلم العشر ).
وهناك رواية دونها في الصحة رواها أبو داوود عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخبرن أنه صلى الله عليه وسلم صام هذه الأيام التسع .
وقد حاول بعض العلماء الجمع بين الروايتين بكلام كثير ملخصه: أن السيدة عائشة رضي الله عنها أخبرت بما علمت أو شاهدت ، وهذا ليس معناه عدم صومه صلى الله عليه وسلم لهذه الأيام ، كما أن القاعدة تقول المثبت مقدم على النافي ، فتقدم الرواية الأخرى على رواية عائشة رضي الله عنها لأنها المثبتة ، قالوا ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صام هذه الأيام أو بعضها أحيانا وتركها أحيانا ،كعادته صلى الله عليه وسلم،فيما هو غير مفروض على أمته ، ولذا اختلف النقل عن زوجاته رضوان الله عليهن .
والعلماء حين جمعوا بين الروايتين على هذا النحو ، لم يؤثر عن أحد منهم قط أن قال
بفرضية صيام هذه الأيام ، أو أن صومها كصيام رمضان في الأجر ، ولكن الجميع على فضيلة الصيام فيها كسائر الأعمال الصالحات ،
وهذا هو الذي تؤكده الرواية الصحيحة " مامن أيام العمل الصالح فيها أفضل عند الله من العشر… " ولم تخص هذه الرواية الصيام بالذكر .
وبذا يتضح أنه من الخطأ البين اعتقاد فرضية صيام هذه الأيام ، وأن الفتيا بذلك ولو من باب التحفيز على العمل الصالح، لهي من التلبيس على الناس في الفتوى والتعسير عليهم كذلك ، وهذا في حد ذاته عمل محظور، نبه إليه المحققون من الفقهاء ، لما يترتب عليه من الخلط بين ماهو فرض وماهو نفل وإلزام الناس بما لايلزمهم شرعا ، لاسيما وأن هذا السلوك على خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين .
فقد كان صلى الله عليه وسلم يكره أن يعسر على الناس بفرض مالم يفرض عليهم ، بل ويتحاشى هذا الأمر جيدا بدليل أنه صلى الله عليه وسلم ترك المداومة على جمع الناس على صلاة التراويح في رمضان،خشية أن يعتقدوا فرضيتها، كما كان صلى الله عليه وسلم يسكت أحيانا إذا سئل ويقول " لو قلت نعم لوجبت "
وقد وعى الصحابة رضوان عليهم هذا المنهج عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يتعمدون ترك المداومة على بعض النوافل، حتى لايكون في ذلك تلبيس على الناس فيعتقدوا فرضيتها بمداومتهم عليها ، ومما أثر في هذا عن عمر رضي الله عنه " تركه المداومة على سجدة يوم الجمعة لما رأى الناس متهيئين للمواظبة عليها حتى لايعتقدوا فرضيتها ، قائلا للناس " على رسلكم ، إن الله لم يفرضها علينا إلا أن نشاء، ثم قرأ السجدة ولم يسجد ومنع الناس أن يسجدوا" يراجع الموطأ رقم ١٦
كما ترك عثمان رضي الله عنه قصر الصلاة الرباعية بمنى- في الحج- حتى لايظن الناس أن الصلاة الرباعية فد قصرت على الدوام وصارت ركعتين، خاصة وقد حضر معه جمع من الأعراب في هذا العام ، فأراد أن يرفع عنهم هذا الالتباس لعدم فقههم. ينظر المعرفة للبيهقي ، رقم : ١٥٩٧ وحسن إسناده .
وروي كذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لايضحيان يوم الأضحى حتى لايعتقد عوام الناس فرضية الأضحية . يراجع السنن الكبرى للبيهقي ١٩٠٣٤
وفي هذا الباب كذلك من فقه الإمام مالك رحمه الله أنه كره صيام الست من شوال إثر رمضان دون الفصل بينهما ، قال : لئلا يلحق أهل الجهالة برمضان ماليس منه إذا رأوا أهل العلم يفعلون ذلك . ينظر بداية المجتهد لابن رشد ٢ / ٨٥
والخلاصة : أن العمل الصالح كله مشروع ،ولكل إنسان بابه الذي يوصله إلى ربه وعبادته التي يفتح له بها ، بل قد يأثم إنسان بصيام هذه التسع إذا ترتب على صيامها تضييع حق لأحد هو قائم عليه ومكلف به ، كرعاية مريض تلزمه رعايته مثلا .
ولنترك كل إنسان يختار فيما بينه وبين ربه مما يقربه إليه ، ولانحقر من المعروف شيئا ،وقد يسبق التصدق بدرهم مع نية صادقة التصدق بألف درهم مع فساد في النية .
وعلى المفتين أن ينتقوا بعناية مايقدمونه للناس ، وأن يتحاشوا التلبيس عليهم ولو من باب الحض على فعل الخيرات ، فعمل المفتي لايتعدى البيان ، وعليه أن يكون أمينا في بيانه
ومايقدمه للناس .
فالفرض فرض والنفل نفل ، وقد خفف الله تعالى عن الناس ، فلم التعنيت عليهم وبأية صفة ؟
وختاما أقول : رفع مرتبة النافلة إلى مرتبة الفريضة تشريع لم يأذن الله تعالى به لأحد، وقد كرهه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتحاشاه الصحابة والتابعون بإحسان، بل وأسسوا لما يناقضه لأن التيسير على الناس مطلب شرعي في كل تفاصيل الشريعة ،ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " من أم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة ، وإذا صلى لنفسه فليطول ماشاء " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا ، ومن أراد مزيدا من التفصيل والتأصيل لفضية التلبيس على الناس في الفتوى فليراجع كتابنا في دراسة قاعدة " كل مباح يؤدي إلى التلبيس على العوام فهو مكروه وتطيبقاتها الفقهية " ط دار الكلمة والدار المغربية للنشر .