كانت الليلة ساكنة، والسماء قد لبست وشاحًا من الغيوم الرمادية. كان "عادل" يسير في الحارة الضيقة، خطواته بطيئة، رأسه مثقل بالهموم، وعيناه تبحثان عن شيء لا يعرف كنهه. خذلته الحياة مرارًا، العمل لم يَسِر كما كان يتمنى، والديون تتراكم، والقلق يقضم قلبه كما تقضم النار حطبًا جافًا.
مرَّ بجانب جدران الحارة القديمة، تلك التي كانت شاهدة على لعبه حين كان طفلًا، وعلى ضحكاته وهو يركض خلف الكرة أو يشتري الحلوى من دكان الحاج "رُشدي". توقف لحظة، وشهق شهقة خفيفة حين رأى نورًا دافئًا ينبعث من محل صغير على ناصية الزقاق، تمامًا كما كان دكان الحاج رُشدي قديمًا.
اقترب عادل من باب المحل، فوجد رفوفًا بسيطة تحمل علب الجبن القديمة، والمربى، وحبات الطماطم في صناديق خشبية، ورائحة الصابون البلدي تختلط برائحة الزمن. كان صاحب المحل رجلًا خمسينيًا، بوجه طيب، وابتسامة هادئة.
قال عادل بتردد:
ــ "ممكن أجلس شوية؟ محتاج أرتاح..."
ابتسم الرجل وأشار إلى كرسي خشبي موضوع بجوار الباب:
ــ "تفضل يا ابني... المحل محلك."
جلس عادل، ووضع رأسه بين كفيه، ولم يدرِ كيف انفجرت الكلمات من صدره. حكى عن خيباته، عن ضيق الحال، عن القلق الذي لا ينام، عن شعوره بالعجز، وكأن الحياة كلها تتآمر عليه.
كان الرجل يستمع بصبر، لا يقاطعه، يكتفي أحيانًا بهز رأسه، أو بكلمة هادئة:
ــ "ربنا كبير..."
ــ "كل حاجة بتعدي يا ابني..."
ــ "أصعب الليالي بييجي بعدها الفجر..."
ولما انتهى عادل من حديثه، شعر أن شيئًا من الهم قد انزاح عن صدره، كأن الكلمات التي خرجت قد حملت بعضًا من ثقله. التفت ليشكر صاحب المحل، فلاحظ شيئًا لم يكن قد رآه: كان الرجل يجلس على كرسي متحرّك.
تجمدت الكلمات في حلقه، وشعر بخجل لم يعرفه من قبل. كل تلك الشكاوى، وكل ذلك التذمر، أمام رجل لا يستطيع السير، لكنه يُضيء المكان بابتسامته، ويستقبل الليل والبشر بنفس راضية.
قال عادل بصوت خافت:
ــ "أنا آسف... ما كنتش أعرف..."
ضحك الرجل ضحكة دافئة، وقال:
ــ "مالكش دعوة بحالي، كل واحد فينا شايل حمله. بس دايمًا بننسى نبص حوالينا. ساعات الحزن بيعمينا عن نِعم كتير عندنا."
وقف عادل ببطء، شعر بأن قلبه صار أخف، وأن الظلام الذي كان يسكنه بدأ ينقشع. مدّ يده للرجل وصافحه بحرارة، ثم قال قبل أن يرحل:
ــ "شكراً... حضرتك نورتني من جوّا، زي نور محلك اللي شدني."
ابتسم الرجل وقال:
ــ "وإنت كمان... ما تنساش، النور الحقيقي جوانا، مش حوالينا."
سار عادل مبتعدًا، لكن الحارة لم تعد كما كانت. بدا له أن الجدران أوسع، وأن الهواء أنقى، وأن السماء رغم غيومها... ما زالت قادرة أن تمطر خيرًا.