لاأدري لماذا انتابني شعور بأننا كمتخصصين في الدرسات الإسلامية وتحديدا الفقهية والأصولية ، أفرغنا جهدنا اكثر من اللازم في تتبع أقوال الفقهاء وسجالات أرباب المذاهب وخلافاتهم التي لاتنتهي ، وكثير منها يغالب عليه الطابع التعصبي للمذهب وإمامه ، كما عنينا جدا بالمرويات والآثار حتى وإن لم تصح أو تثبت ، على حين ضعف اهتمامنا بالقرآن الكريم -الذي هو المصدر الأول للتشريع - في ساحة الاجتهاد الفقهي إلى حد كبير .
بدليل أنه لو رجع أحدنا إلى أي كتاب مذهبي - خاصة في عصور التقليد الفقهي- لوجد أن الاستدلال الفقهي يغلب عليه إما المرويات أو الآثار أو أقوال الفقهاء .
وحين يحدث حال البحث العلمي أو الإفتاء ونستدل بآية أو أكثر من القرآن الكريم نجد انفسنا نجتر أقوال من سبقونا في التفسير وكأننا عاجزون كل العجز عن استنطاق آي القرآن بفهم جديد .
إنها لكارثة حقيقية ، فكما يقول اللغويون : المعنى زئبقي الوجود " يعني قد يفتح المعنى المعجمي والدلالي للكلمة آفاقا لامتناهية من الفهم .
وهذا معناه أننا حين نحجر معنى اللفظة القرآنية عند فهم معين ، فكأننا بذلك نجرد القرآن الكريم عن أهم خصلتين تفرد بهما ، وهما الإعجاز والخلود .
إذ كيف يكون اللفظ القرآني معجزا مع تحجير معناه ؟ وكيف يكون القرآن الكريم خالدا ، وقد أوقف عطاؤه عند زمن معين أو فهم معين ؟
ولأضرب لذلك مثلا : حين رد القرآن الكريم نفقة الزوجات إلى المعروف ، والعشرة كذلك في قوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف" فماذا يعني المعروف هنا ؟
هو ببساطة ضد كل مايستنكر أو يستهجن عند ذوي الطباع السليمة ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
يعني حين أقرأ تفسيرا في زمان سابق يقول " المعروف" أن يعطي الزوج زوجته من النفقة قدر كذا - حفنة من القمح مثلا - ومن الكسوة قدر كذا ، فهذا يعني قطعا أن هذا تفسير غير ملزم بالنسبة لي ، لأن هذا القدر في عرف ذوي الطباع السليمة من عقلاء عصري وزمني لم يعد معروفا ، وإنما شح وبخس للحقوق .
وقد رد الله تعالى قدر النفقة ومقتضيات حسن العشرة إلى المعروف ، حتى يظل أمرهما فوق التحديد ، ويتسعا لكل مايوجبه هذا المعنى " المعروف " من معان عالية ورائقة .
فلا زوج يبخس حق زوجه ، ولازوجة تستغل زوجها ، أو تكلفه مالا يطيق .
وماأجمل أن يكون الحرص على أن يسعد كل من الزوجين نصفه المتمم له بتجاوز ما هو فوق الحق والعدل إلى الإحسان - إيثارا وتفضلا - هو الخلق السائد في أوساطنا الأسرية !!
وهذا هو المعنى الأعمق والفسيح لكلمة " المعروف " ، ودعونا من الجدل الفقهي الذي لاينتهي ولن ينتهي .