في منهجية الإمام أحمد بن حنبل في الفتوى : الإمام الموسوم ظلما بالتشدد :
الحديث عن زهد الإمام أحمد رضي الله عنه وتورعه ومحنته في سبيل صدعه بالحق -لاسيما في فتنة خلق القرآن يطول - ولكنه معلوم وتزدحم به كتب التراجم لمن أراد .
الذي أود التركيز عليه هنا هو تميزه رحمه الله - من الناحية المنهجية - في الفتوى بأمرين ، هما من صميم تورعه رضي الله عنه وتيسيره على الناس :
الأول : الأقوال المتعددة في المسألة الواحدة ، وهذه في رأيي صورة من صور تيسيره رضي الله عنه ، لأن إلزام الناس برأي واحد مع اتساع الدليل لما هو أكثر من ذلك من التضييق عليهم ، وهذا مناف لمقصد الشريعة في رفع الحرج عن المكلفين ، فكأن الإمام رضي الله عنه كان يحب أن يخرج من التبعة ، فيكثر من تقليب النظر في المسألة- وهذا من صميم تورعه وتيسيره ، ثم يطرح على الناس ماانتهى إليه فهمه في النص من وجهات متعددة ، لايكتم عنهم شيئا ، ولايلزم أحدا منهم برأي .
الثاني : توقفه رضي الله عنه عن الفتوى في العديد من المسائل :
فقد كان رحمه الله من أكثر الأئمة توقفا عن الفتوى فيما يعرض عليه من مسائل ، بما في ذلك : المسائل التي يكثر وقوعها في الناس فيكثر السؤال عنها .
من ذلك مثلا : مسألة القصر في السفر هل هو واجب أم رخصة ؟ والمسألة فيها خلاف طويل بين العلماء معلوم وموجود في جميع كتب المذاهب ، وأوجز ه هنا فأقول : الإمام أبو حنيفة على وجوب القصر في السفر ، حتى إن شيخه حمادا رحمه الله كان يرى أن من صلى الرباعية أربعا في السفر يعيد الصلاة ، وذلك لما ثبت عنده من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة في جميع أسفاره ، أما باقي الفقهاء فيرون القصر رخصة ، فمن شاء أتم ومن شاء قصر ، لقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل مابالنا نقصر الصلاة وقد أمنا فقال " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " ………..
وقبل ذلك يستدلون بقوله تعالى " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاه " ونفي الجناح لايدل على العزيمة ولكن على الرخصة ،
وأكثر الأئمة على أن الأفضل هو القصر ، ونص عليه الإمام النووي فقال " مذهبنا القصر والإتمام جائزان والقصر أفضل "
وعلى كل : فالمناقشات بين العلماء في هذه المسألة مطولة ، ولكنها حقيقة عبارة عن مساجلات وحوارات عقلية ماتعة ، توقف من يتأملها على سبل الاستدلال والفهم من الأدلة بما قد يصل إلى حد الإبهار ، وبما يشهد لفقهنا بالتنوع والثراء ، و بأن هؤلاء الأئمة المؤسسين لم يعرفوا قط الجدل لأجل الجدل ، أو الجدل لأجل التعالي على المخالف وإظهار البراعة العلمية ونحو ذلك ، وإنما هو الحوار المؤسس على منهجيات علمية رائدة .
.
أما عن رأي الإمام أحمد رضي الله عنه في هذه المسألة ؛ فالمشهور عنه أن المسافر مخير ان شاء أتم وان شاء قصر .
وفي رواية أخرى أنه توقف وقال هذه الجملة التي تكتب بماء الذهب :
( أنا أحب العافية من هذه المسألة )
الله الله الله .
ماهذه الثقافة ؟
سلمت أيها الإمام الورع المهذب المتواضع المحتاط لدينك ، وفي رأيي أن هذه العبارة يجب أن تتصدر كل مكان يجلس فيه طلاب العلوم الشرعية وأساتذتها للدرس والتدريس والإفتاء .
وللإمام رضي الله عنه الكثير من العبارات النظيرة المتورعة :
فهو صاحب عبارة :
" أجبن عن أن أقول في هذه المسألة برأيي"
وعبارة :
" . لاأعلم فيه مخالفا " تحرجا وتأثما من المسارعة إلى الحكم بالإجماع في مسألة ما ، فيحجر على الناس واسعا ، أويصادر حريتهم في اختيار مايناسب حالهم من الآراء الكثيرة الرحبة برحابة شريعتنا الغراء .
وبعد ،
فهذا قليل من كثير وغيض من فيض مايمكن أن يقال في حق هذا الإمام الورع الميسر المتحوط : أحمد بن حنبل ، ولكن و مما يؤسف له أن يصبح هو وفقهه وجهة لكل متنطع متطرف ، حتى باتت كلمة حنبلي من الكلمات المستهجنة ، التي تتداولها ألسنة العامة وتستدعيها في مواقف التشدد والتعنت ، بل والتطرف .
وهكذا نحن : نعشق تزييف الحقائق والرموز ، ثم نعيش داخل هذا التزييف نتجرع منه حتى الثمالة .