في تاريخنا الإسلامي لم تخل حياة إمام من أئمتنا المؤسسين للمذاهب الفقهية أو الفكرية ، أو العلماء المجددين بشكل عام من صدام بينهم وبين السلاطين الحاكمين، فالسلطان دائما يستشعر القلق على سلطانه واستقرار حكمه في وجود هؤلاء الأئمة ، لكونهم في نظره وبما لهم من مكانة لدى العامة والخاصة ينازعونه سلطته التشريعية أو على الأقل يهددون استقرارها و بالحب والقلم ، لابالسوط والسيف .
وهذا مايفسر لنا سر العنت الذي عاينه كبار الأئمة من قبل السلاطين ، لاسيما مع أولائك الذين آثروا المجابهة المعلنة ، كما هو الحال مع الإمامين أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى .
أما الشافعي فقد آثر مجابهة السلطان بدءا بالرشيد وانتهاء بالمأمون بمنطق حسن التخلص والحيلة المشروعة .
لأجل ذلك اختلفت الآراء في ماوراء تصنيفه لرسالته ، والمسطر في كتب الأصول أن الهدف كان علميا بحتا ، استجابة إلى طلب عبد الرحمن بن مهدي حافظ العراق ، بهدف ضبط أحكام الفقه والاجتهاد بمنهج يجمع بين مدرستي أهل الحديث والرأي ، نظرا لاحتدام الخلاف بينهما كما هو معلوم في تلك الفترة ، وهذا ماأرجحه وأطمئن إليه لتوافر النقل في ذلك .
ولكن المنطق لايمنع في ضوء الواقع الذي عايشه الشافعي والأئمة قبله مع السلاطين المستبدين ، أن يكون وراء هذا الهدف العلمي المعلن هدف آخر مستكن مستتر وهو الهدف السياسي ، إلا أن هذا الهدف السياسي -إن سلمنا بوجوده - لايعقل أن يكون توطيدا لسلطات السلطان بتمكينه من رقاب من تصورهم ينازعونه سلطانه التشريعي وهم الفقهاء- كما سبق وأن توجه إليه د حسن حنفي - ولايعقل كذلك أن يكمن في محاولة التأسيس لسلطة العلماء في إدارة الشأن السياسي للبلاد -كما ذهب د عبد المجيد الصغير ومن نحا نحوه - وكيف ؟ وهم الذين آثروا السوط والسجن تأثما من أن يزج بهم في هذا الشأن .
ولعل الأقرب إلى المنطق والعقل - وأكرر إن سلمنا بوجود دافع سياسي مستكن وراء تصنيف الشافعي لرسالته - أن يكون الهدف هو تقويض سلطان السلطان أو الحد من تغول السياسي على التشريعي والديني ، بكف يده عن سن التشريعات التي تمكنه من التنكيل بمعارضيه ، تحت ستار من الدين .
فالمستبد دائما يسعى بكل قوته إلى تجميع السلطات كلها في يده ، ولايهنأ مادام هناك سلطان يوازي سلطانه في مملكته ، فهو ظل الله في الأرض ، المفوض عنه في سياسة الخلق وحكمهم كما يتوهم .
وفي ضوء ذلك الواقع الذي عايشه الشافعي يكون من المستساغ القول بأن الشافعي رحمه الله كان قد أدرك أن الاستبداد التشريعي من قبل السلطان مرده إلى الفقه غير المقنن ، وفوضى الاستدلال غير الممنهج ، والفتاوى السلطانية غير الواعية ، فلابد إذن من تقنين الفقه ووضع ضوابط تنقذه من سوء استغلال السلطة الحاكمة ، والفتاوى الموظفة غير المسئولة .
فالتقنين دائما يسعى إلى الضبط ، وماعلم أصول الفقه في حقيقته إلا تقنين وضبط مبكر للفقه والتشريع ولمناهج الاجتهاد فيهما .
وهذا أمر يعلمه كل دارس بعمق لهذا العلم ولايحتاج إلى إثبات علمي ، لأن المنطق يثبت أن التقنين ضبط وعكسه الفوضى والفراغ التشريعي .
وعلى كل حال يمكننا أن نقول واثقين : إن رسالة الشافعي لم تتخلق في أحضان السلطان ، ولكن من الثورة الهادئة غير المعلنة عليه ، هذا إن سلمنا بوجود بعد سياسي قد اكتنف تأليفها .
وقد قدم الشافعي برسالته في هذا عملا جليلا ، لأن الفكر العلمي الممنهج والإصلاحات التشريعية المدروسة والواعية تصنع مالا تصنعه الكثير من الثورات والمجابهات غير الواعية ، التي لاتخلف غير الدمار وتنحدر بالمجتمعات إلى مراحل ماقبل التاريخ .
وقد يشهد لهذا التفسير ماأ رساه الشافعي في رسالته من قواعد ضابطة للاجتهاد من شأنها أن تقلص كثيرا من سوء استغلال السلاطين للدين في تغولهم التشريعي ، ولايتسع المقام هنا للحديث عنها أو بعضها ، ويكفيني هنا أن أشير إلى أمر مهم تجلى بوضوح في حرص الشافعي على ضبطه ألا وهو دليل الإجماع كمصدر تشريعي .
إذ من المعلوم أن الإجماع كان هو السيف البتار التي تسلطه السلطة على رقاب المعارضين والمناوئين ، فتهمة خرق الإجماع تعدل الكفر وتوجب القتل حدا للردة و الزندقة فرع عنها - كما هو معلوم - وتوجب كذلك مايوجبه خرق الإجماع .
ولكن كيف ضبط الشافعي مفهوم الإجماع ليحد من هذا التسلط والجور ؟
قرر الشافعي التضييق جدا من مفهومه حتى حصره في دائرة ضيقة جدا ، وهي المعلوم من الدين ضرورة ، حيث قال نصا " ولست أقول بالإجماع إلا لما لاتلقى عالما قط إلا قاله لك وحكاه عمن قبله كالظهر أربع وحرمة الخمر وأمثال هذا "
وعليه : فكل قضايا الخلاف والاتفاق التي لم تصل إلى حد المعلوم من الدين ضرورة المعلومة للجميع يكون لاإجماع فيها ، ولايسوغ التنكيل بالمخالف لأجلها ولا الحكم عليه بالردة والزندقة ، لأنها من المسائل التي تقبل الخلاف ولاتبيح الأذى بحال من الأحوال ، فكيف بالدم ؟
كما حرص الشافعي في سبيل تخليص مفهوم الإجماع من مفهوم الطائفية المشرعة التي لايرد لها قول كما خلصه من سوء استغلال السلطة السياسية : أن يشترط إجماع الكافة من المجتهدين على الحكم حتى يقر فيه بالإجماع ، رافضا في هذا ماأسس له شيخه مالك في قضية إجماع أهل المدينة ، فلا مزبة لأهل قطر على حساب آخر ، ولاقداسة لرأي طائفة معينة في التشريع دون غيرها ،
هذا بالإضافة إلى ضبطه لمفومي القياس والاستحسان ، وهذا الأخير كان مطية سهلة لتجاوز النص ، ومايحمل عليه بالقياس لمعان غير منضبطة ولامفهومة ، اللهم إلا التلذذ والتشهي في رأي الشافعي .
والحقيقة أن المجال هنا لايتسع لتحقيق هذا الكلام تحقيقا علميا وافيا ، وأخشى أن يفتح الإيجاز أبوابا للإلغاز ، ولعل العمر يتسع لإفراد هذه القضية الملبسة بكتاب مستقل ، وقد عزمت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .