نقد كتب التراث من داخل المنظومة المعرفية التراثية -بهدف البناء وليس الهدم-
في سابقة لكليتنا العريقة -كلية الآداب جامعة طنطا- تمت أول أمس مناقشة رسالة من أهم الرسائل العلمية التي أشرفت عليها لمنح درجة الماجستير في تخصص الفقه وأصوله إن لم تكن أهمها.
والرسالة من إعداد الباحث: محمد حاويل عضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف
وقد ناقش الباحث في رسالته عالمين جليلين من علماء الأزهر الشريف هما:
سعادة الأستاذ الدكتور/ علي عبده محمد أستاذ الفقه المقارن، ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالمنصورةـ.
والأستاذ الدكتور/ إسماعيل الشنديدي الأستاذ المساعد بقسم الفقه ورئيس القسم بكلية الشريعة والقانون بطنطا.
أعود فأقول: لماذا كانت هذه الرسالة كما قلت من أهم الرسائل العلمية التي أشرفت عليها والجواب: لكونها وكما يبدو من عنوانها تناولت بالدراسة العلمية قضية في غاية الأهمية، ألا وهي: كيف يتأثر الفقيه حال إنتاجه للرأي الفقهي ببيئته وظروف عصره وزمانه وإلى أي مدى؟
وقد طبق الباحث دراسته بشكل عملي على مرجع مهم متداول من كتب التراث وهو كتاب "المدخل" لابن الحاج المالكي المتوفى عام ٧٣٧ من الهجرة، والذي يعتبره فقهاء المالكية عمدة في مذهبهم.
وأزعم أنه لأول مرة تتم دراسة كتاب من كتب التراث بهذه المنهجية العلمية الناقدة، إذ المعهود دائما أنه حين يتناول باحث من الباحثين شخصية من الشخصيات أو مصنفا من المصنفات بالدراسة، هو أن يحاول وبكل ما أوتي من قوة إثبات أن العالم صاحب الكتاب على صواب دائم، وأن مصنفه هذا خال تماما من أي خطأ علمي أو فكري، وأنه قد غدا بمصنفه هذا فريد عصره وخاتمة المحققين في زمانه إلخ ما نرى ونسمع من قبل الباحثين.
أما هذه الدراسة فقد جاءت في ثوب نقدي علمي في المقام الأول، تدرس آراء المؤلف في حيدة تامة في ضوء نصوص القرآن الكريم والسنة والصحيحة -القولية والعملية- وقواعد الشريعة ومقاصدها لتثبت أن آراء المؤلف -محل الدراسة- التي جاءت مدفوعة تجاه الحكم بالمنع والحرمة والرمي بالبدعة حتي في باب التحسينيات والآداب، إنما كانت نتيجة لتأثره ببيئته وظروف عصره وزمانه.
فالمؤلف رحمه الله ولد ونشأ في بيئة محافظة من بلاد المغرب العربي تشبه أن تكون بدوية وقتها، ثم ارتحل عنها إلى مصر ففوجيء ببيئة مختلفة كثيرا عن بيئته التي درج فيها من حيث التمدن والحضارة وعادات وتقاليد أهلها.
وعلى الرغم من أن القرن بأكمله -القرن الثامن الهجري- كان يعتبر عصر تقليد وجمود واضطراب سياسي وفكري، إلا أن مصر واقعيا وقتها كانت على درجة كبيرة من التمدن والحضارة مقارنة بغيرها من البيئات الإسلامية الأخرى، خصوصا من حيث وضع المرأة في المجتمع المصري وكذا بالنسبة للتعامل التسامحي بين المسلمين وغير المسلمين، فالمرأة المصرية كانت حاضرة في المجتمع تبيع وتشتري وتتفاعل مع قضايا مجتمعها وتخرج لحوائجها وللتنزه الخ والمصريون يتصرفون جميعا كنسيج وطني واحد، لا فرق بين مسلم وغير مسلم، وكانت التعاملات الحياتية اليومية وتصرفات المصريين فيها مختلفة كثيرا عما درج عليه المصنف في بيئته، ومن ثم كان حكمه على أكثرها بالبدعة مستدلا بالكثير من المرويات الضعيفة نحو "باعدوا بين أنفاس الرجال وأنفاس النساء" ولا تخرج المرأة إلا إلى الزوج أو القبر، ومستدلا كذلك ببعض النصوص الصحيحة ولكن بقراءة متأثرة بثقافته وعادات قومه في بيئتهم وظروف حياتهم.
وقد ظهر ذلك جليا بعد قيام الباحث بعمل مقارنة بين آراء المؤلف في كل مسألة طرحها وبين نصوص القرآن والسنة الصحيحة -القولية والعملية- وماجرى عليه العمل في جيل الصحابة والتابعين، بل وبالمقارنة بين آراء المؤلف وغيره من أئمة الفقه المحققين، التي ازدحمت بها كتب التراث لاسيما في الفترات السابقة على عصر المؤلف.
لذا تعد هذه الدراسة التي نتحدث عنها نقدا للتراث من التراث وفق منهج علمي منضبط، مما يجعلها نموذجا يحتذي به في سبيل التجديد الفقهي المنشود، وإصلاح التراث من داخل المنظومة التراثية نفسها، وبما يحقق المواءمة بين الفقه التراثي وبين المعاصرة وروح التحديث.
وقد أثبتت الدراسة أن تراثنا غني حافل بما يحقق هذا الهدف، وأن عناصر التجديد النابعة من داخله ضاربة بجذورها في أعماقه، وأن نصوص الكتاب والسنة تتسع لقراءات جديدة، وكلها لا تخرج عن المنهجيات التي أسس لها العلماء المؤسسون، بل وتتواءم معها تمام المواءمة.
وهذا أمر أصبح من المهم إدراكه والوعي به وعيا تاما، وإلا بات الاغتراب وتجاوز هذا الفقه التراثي بأكمله واقعا معيشا في هذا العصر المتسارع الخطى نحو التطور والحداثة.
وقد أبدع الباحث في الجانب النظري من الرسالة كذلك، حين أعد بابا كاملا أوضح فيه حاجة المجتمع المسلم الآن إلى بث روح التجديد والمعاصرة في آراء الفقهاء التراثيين المرتبطة بزمان معين وظرفيات معينة، لأهمية ذلك في الحفاظ علي أمن المجتمع: الفكري والسياسي، والتكافلي، والتجاري، والصحي، والأسري، والمجتمعي، كما قام برصد المخاطر التي قد يتعرض لها المجتمع إذا أصر الفقيه المعاصر على الفتوى بالرأي الفقهى الذي نتج في تلك الظرفيات المغايرة لعصرنا، غاضا طرفه عن متغيرات هذا العصر وتطورات الزمان، ومن هذه المخاطر: التراجع الفكري والحضاري وتخلخل النظام العام وزعزعة الاستقرار الأسري والمجتمعي ونحو ذلك، وقد أكدت اللجنة بالإجماع على أهمية الرسالة العلمية من ناحية الموضوع والمنهج والمعالجة والمصادر، وأهمية ماتوصلت إليه من نتائج وتوصيات، وقررت منح الطالب درجة الماجستير بتقدير ممتاز.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.