حين تحدث المفسرون والبلاغيون على اختلاف توجهاتهم في قضية إعجاز القرآن الكريم تعددت مشاربهم ، ولكنهم اتفقوا في المجمل على أن معجزة القرآن الكريم التي تحدى الله بها العرب تكمن في بلاغته وبيانه ، بالإضافة إلى جوانب أخرى فصلوا فيها كالإعجاز التشريعي والإنساني والهدائي وماكشف عنه القرآن الكريم من أمور الغيب الخ ، وهذه الجوانب الإعجازية وغيرها من كل ماذكره العلماء أسلم به تسليما .
وكان للمعتزلة كالعادة وجهة أخرى تتمثل في القول بالإعجاز بالصرفة - بتشديد الصاد وفتحها - أي إن الله تعالى هو الذي صرف العرب عن الإتيان بمثل القرآن ، لأن القرآن الكريم في حقيقته مركب من أحرف يتكلمون بها ،وكلمات يتداولونها ،ومعاني ليست ببعيدة عما تجود به قرائحهم وشاعريتهم الفطرية .
وقد جوبه قول المعتزلة هذا بجبهة رفض قوية ، قالوا لأن هذا القول يذهب بقضية الإعجاز كلها .
وإمعانا في الهجوم على المعتزلة قضى الأصوليون والمفسرون بأن قولهم هذا مناقض للإجماع ، وأن أحدا لم يوافقهم عليه ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، فقد وافقهم ابن حزم الظاهري ،وقال كلاما في هذا قريبا من كلامهم .
وفي رأيي أن هذه ليست هي الموافقة الوحيدة من قبل ابن حزم رحمه الله
للمعتزلة ،فاعتماده القياس العقلي المنطقى ، وماأسماه بالدليل لهو منهج معتزلي صرف ، ولو أمعنا النظر في آرائه الفقهية التي اعتمدت هذا المنهج لرأيناها متكاثرة جدا، وإلى درجة يصح معها وصفه بابن حزم المعتزلي .
ولنعد إلى تقييم الفكرة السائدة في قضية إعجاز القرآن الكريم نفسها …
أقول : بداية أنا ممن يؤمن بقضية الإعجاز البياني للقران الكريم ، وأنه قد بلغ الغاية في ذلك ،وعلى نحو أعجز العرب وقت الخطاب ولايزال التحدي قائما ، وهذا أمر لايقبل المنازعة .
ولكن التركيز على هذا اللون من الإعجاز فقط يشعرنا بأن القرآن الكريم كتاب خاص بالعرب تنزل لأجلهم وحدهم ، وأن غيرهم لايمكنهم استشعار إعجازه وألوهية مصدره ، ولايبلغ في نفوسهم التأثير الذي يبلغه العربي بحال .
وأتساءل ، كيف يكلف غير العربي إذن بالإيمان بالقرآن بصفته كتاب الله المقدس المفارق ، وهو عاجز عن فهم لغته ؟ وبالضرورة عاجز عن التفاعل معه واستقبال هداياته بقلبه؟فبينه وبين سريان سره ونوره إلى هذا القلب حجب كثيفة من العجمة والغرابة ، وهذا أمر خارج عن إرادته واختياره بلا ريب ، مع ملاحظة أن المسلمين من غير العرب يشكلون أضعاف أضعاف العرب من حيث التعداد ، بل إن عجمة العرب بدت مشكلة مؤرقة للعربية ذاتها ، حيث غدت اللغة العربية لغة ثالثة ورابعة في بلادها و بين أهلها وقومها .
وحين راجعت القرآن الكريم والسنة المشرفة لم أجد أيا منهما مشغولا بقضية الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم على النحو الذي نتصوره .
نعم نطق القرآن الكريم بإعجاز العرب عن أن يأتوا بسورة من مثله ، ولأنهم عرب خلص - بتشديد اللام - اتجه التفسير كله إلى أن القرآن الكريم أعجزهم في لغتهم ، وتحداهم عن أن يأتوا بسورة من مثله ، من أقل مايمكن وصفه بالسورة .
ولكن بالتأمل في قوله تعالى " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أاعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء " يوقن بأن الإعجاز الحقيقي هنا في هذه الآية وتحديدا في قوله تعالى " هدى وشفاء.
بل إن القرآن الكريم ليؤكد على هذه الحقيقة ، حين أخبر عن نفر من العرب القرشيين ، وكيف أن عروبتهم وفصاحتهم لم يكن لها أي تأثير في هدايتهم ، فكانوا يصغون السمع إلى القرآن الكريم ،فإذا ماانقلبوا إلى بيوتهم انقلبوا فكهين يقولون في تهكم " ماذا قال آنفا" ويشخص القرآن الكريم داءهم بدقة "أولائك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم "
القضية إذن ليست قضية عجمة ولاعروبة ولالغة - على شريف قدر اللغة العربية بالقرآن الكريم قطعا - وإنما هي قضية استقبال المتلقي الروحي للقرآن الكريم ، حتى يكون له هدى وشفاء حقيقيين .
ولكم أهدى القرآن أناسا من ضلال و شفا من عي ، وهم من العوام وأهل لهجات بعيدة عن الفصحى التي جاء بها القرآن الكريم ، بل وأهل عجمة ولسان غير عربي وغير مبين .
سر القرآن الكريم إذن أكبر من قضية إعجازه اللغوي على تسليمنا بذلك ، والقضية أعمق بكثير من الأحرف والكلمات والعجمة والعروبة .
وفي رأيي أن خير مايمثل حقيقة وماهية القرآن الكريم هو قوله تعالى "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا "
فالقرآن الكريم بإيجاز شديد "روح ومن أمر ربي"
يؤكد ذلك أن الذين خدموا العربية والقرآن الكريم تفسيرا وفقها ، بل وتلاوة وإقراءا كان منهم كثير من غير العرب -ويكفى أن نذكر هنا بأن إمام العربية سيبويه لم يكن عربي الأصل - وماذلك إلا لأن نور القرآن الكريم سرت في أوصالهم فكان النور وكان العلم وكانت الهداية .
القرآن الكريم إذن كلماته أرواح وأنوار وليست أحرفا صماء جوفاء ، فإذا ما أصغيت إليه بروحك سرى إليك النور والشفاء ،وجللتك الهداية وحلقت في الملأ الأعلى.
أما هذا الذي يقتصر في تلقيه للقرآن الكريم على الإصغاء لجرس الكلمات ، فلربما بدت له من جنس مايتحدث به الانسان العربي ويتداولها في حياته ، لاسيما تلك الحوارات التي يقصها القرآن الكريم على لسان المعاندين والمستكبرين ، مثل قوله تعالى " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا "
فهذه الكلمات : الأرض - الينبوع - تفجر - كلمات يستعملها كافة الناس: القروي والبدوي والعالم والأمي ، ولكنها في داخل النسق القرآني صارت لها أجنحة نورانية محلقة مفارقة .
وهذا تقريبا مااقترب من تقريره الشيخ عبد القاهر الجرجاني في نظريته النظم ،حين قرر أن إدراك سر الإعجاز في القرآن الكريم يتوقف على التربية الفنية ، تربية الذوق والوجدان والشعور ، ولكنه لم يتقدم خطوة عن ذلك ليتحدث عن الروح العلوية ، التي جللت هذه الكلمات العادية فأكسبتها النور " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين " بحيث إذا سمعها غير العربي بل غير المؤمن
بالقرآن ،وسرت طاقة النور هذه في بدنه لخشع ، وربما انهمر الدمع من عينيه أرسالا ودون انكفاف ، وهذا ماحدث كثيرا للعربي وغير العربي حتى قبل إسلامهما .
وفي الوقت نفسه قد يصغي إلى هذه الآيات نفسها اللغوي المدقق ، ولكن ينتفي عنه هذا التاثير .
وأعود فأؤكد على أنني هنا لاأنفي حقيقة الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم ، ولاأنفي كذلك دور اللغة العربية العظيم والجليل في الوقوف على المعاني الصحيحة لكتاب الله تعالى ، والتوصل إلى صحيح أحكامه وفقهه ، ولكنني فقط أقول: إعجاز القرآن الكريم لاينحصر في لغته وبلاغته ، لأن أحرفه ليست ألفاظا ،ولكنها أرواح ومن أمر ربي.
يقول أهل المعرفة " كل كلام يخرج من فم صاحبه وعليه كسوة القلب الذي منه خرج "
فياترى أية كسوة هذه تلك اكتست بها كلمات القرآن الكريم بوصفها روحا ومن أمر ربي !!
ونحن بني البشر أرواح بسر النفخة الإلهية العلوية التي هي من روح ربنا ، والتي لأجلها كرم جنس الإنسان بأسره ، إذ لولا هذه النفخة العلوية لكنا قوالب مصمته من صلصال من حمأ مسنون،و من ثم فنحن لاينعشنا إلا حديث الروح ولايطربنا إلا تحليقها في الآفاق العليا ، والأسقف والجدران تخنقنا وإن اكتست بالعسجد والزبرجد.
وسوف يظل الإنسان شقيا حتى يجد مايداعب روحه وينعشها بقوة حتى تتجاوز كل الحجب ،فالسماوي يختنق كلما هبط درجة إلى الأرض ،فما بالنا إذا أخلد إليها!!!.
وأختم بجملة نورانية لمولانا جلال الدين الرومي، لعلها تعبر عما عجزت عن التعبير عنه في منشوري المطول هذا ، يقول :
إذا نظرت إلى القرآن الكريم بعينك ، سترى الكلمات ، وإذا نظرت إليه مع عقلك سترى المعرفة ، فإذا ما نظرت إليه مع قلبك سترى الحب ، ولكن إذا نظرت اليه بكل روحك ، سترى الله تعالى .
#اد_زينب_أبو الفضل