كلام مهم ودقيق
أقول : الشائع هو أن الخلاف لايكون إلا في المسائل الفقهية الظنية أو غير القطعية ،أما المسائل العقدية فلا خلاف فيها ، ولذا فهي لاتحتمل غير الكفر والإيمان ، هكذا يتصور كثير من عوام الناس وبعض خاصتهم ، بناء على تلقين وتوجيه من ذوي الاتجاه التكفيري الإقصائي ، هذا الاتجاه الذي يمشي في مناكب الأرض يتحسس مواضع العثرات ، أو حتى زلات اللسان أوالجهل بما لايجب علمه بالنسبة لعوام الناس للمسارعة بالحكم بتكفيرهم ، وكأن تكفير المسلمين الموحدين عبادة تقربهم إلى الله زلفى ،أو كأن جنة ربهم لاتتسع لهم ولغيرهم ، فهم يذبون عنها غيرهم ،حتى لاتكون إلا لهم .
والتحقيق : أن مسائل العقيدة منها ماهو قطعي ، وهو الثابت بطريق القطع واليقين نصا ودلالة ، وهذا محله أمهات المسائل العقدية ،التي لاخلاف فيها إطلاقا مما هو معلوم من الدين ضرورة ، كالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر والقدر خيره وشره والإيمان بالملائكة، ومن ذكر الله تعالى من الأنبياء ، وكون القرآن الكريم كلام الله ،والإيمان بالحساب والجنة والنار …الخ
فهذه المسائل ونحوها من الأصول العقدية لايجهلها مسلم ولايجوز إنكارها بحال .
وهناك مسائل أخرى عقدية ولكنها غير قطعية لكونها مبنية على أدلة ظنية، كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الاسراء ، وكثير من تفاصيل هذه الرحلة ، وصفة الصراط والميزان و الجنة والنار ، وقضية التوسل بالانبياء والصالحين ، والذكر باسم الله المفرد هل يجوز أم لا؟ وسماع الميت صوت الحي في قبره… الخ
وهذا ما قرره الإمام ابن تيمية رحمه الله ، وفصله في غير موضع من مجموع الفتاوى (ينظر المجموع ٤/ ١٦٦ و ١٢٢/١٩. و ٢٠/ ٣٣- ٣٦ ) فقال وهو يتحدث عن تنازع الصحابة رضوان الله عليهم في بعض مسائل العقيدة غير القطعية ( …. وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي ، وتعذيب الميت ببكاء أهله عليه ، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت … ثم قال : وهذه المسائل منها أحد القولين خطأ قطعا ومنها المصيب … وهل يقال مصيبون أم مخطئون فيه نزاع ، ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ، ومذهب أهل السنة والجماعة انه لاإثم على المجتهد وإن أخطأ .
ويقول كذلك : وكان نزاعهم في مسائل الدق أي الدقيقة، أما الاصول الكبار فهم متفقون عليها .
وبمثل قول ابن تيمية قال القاضي عياض رحمه الله في الشفا ص١٩٥ -٢٠٢
وبذا نخلص إلى أن هناك اختلافا في الفروع العقدية ، كما أن هناك اختلافا في الفروع الفقهية ، ومن مسائل العقيدة ماهو قطعي ومنها ماهو ظني ، و هذا الخلاف قائم على نوع الدليل الذي يستدل به على المسألة ، من حيث القطعية أو الظنية ، سواء كانت هذه المسألة فقهية أم عقدية .
ولكن مع ملاحظة أن الأكثر في مسائل الفقه هو الظنية والخلاف، فالخلاف في مسائل الفقه متسع وعريض ،أما المسائل العقدية فعلى العكس من ذلك ، يكثر فيها القطع ويقل فيها الظن والخلاف ، لأن الله تعالى جعل معظم الأدلة فيها صريحة الدلالة على المراد منها ؛ مما قلل أوضيق من مجال الاجتهاد فيها قياسا بمسائل الفقه .
ولكن المشكلة تكمن في رفع الظني إلى رتبة القطعي ، ثم يحكم بكفر أو بدعية من يختار رأيا معينا في قضية عقدية ظنية.
وهذا هو ماحدث في قضية التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالحين مثلا ، فهي قضية ظنية لاقطع فيها لظنية الأدلة ، ولكنها حين رفعت إلى مستوى القطع حكم بكفر المتوسلين ، أو على الأقل ببدعتهم ، وهذا حكم غير صحيح فقها ، لكونها من مسائل الظن لاالقطع ، وتسع الخلاف كأية مسألة فقهية خلافية .
وماكان كذلك يكون لامجال للحكم بالكفر فيه على أحد ، لأن مجال الحكم فيه لايخرج عن الخطأ والصواب ، وليس الكفر والايمان، وقس على ذلك كل مسائل الخلاف، فقهية كانت أم عقدية .
هذا مع تحفظنا على كل السلوكيات الخاطئة التي تمارس تحت دعوى التوسل بالصالحين من قبل الجهلاء مما لايقره شرع ولاعقل ، وأنكره المحققون من أهل العلم جميعا، فهؤلاء يجب تعليمهم وليس الحكم بتكفيرهم ، وكيف وهم يشهدون أن لاإله إلا الله محمد رسول الله .