ورد سؤال من إحدى المتابعات :
تقول : د زينب بصرف النظر عن أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل في الأموال ، لكني انزعجت لما علمت أن شهادتها لاتقبل في الحدود والجنايات ، وبالتالي حكم الفقهاء بأنها لاتصلح لتولي القضاء ، ولاأدري كيف يعطل نصف المجتمع عن الشهادة ، والمرأة في كل دول أوربا شهادتها كالرجل تماما ، بل وتقبل شهادة المرأة الواحدة كالرجل الواحد .
الجواب
أقول : الحقيقة أنني كنت أعتقد أن هذه القضية لطول ماتناولها عدد من المصلحين بالمناقشة والتصويب قد أصبحت قضية تاريخية ، وأنه قد بات من المستقر في أعماق المرأة المسلمة أن القول بأن شهادتها تعدل نصف شهادة الرجل -هكذا على الإطلاق- قول يعكس الفكر الفقهي في فترات زمانية سابقة ، ووضعيات للمرأة صنعتها الأعراف السائدة ، ولايعكس النص القرآني أو الآية رقم ٢٨٢ من سورة البقرة والتي تعرف بآية المداينة ، وذلك لعدة أسباب :
الأول : أن الآية لاتتحدث عن شهادة المرأة التي تثبت بها البينة أمام القاضي ، يعني حين تستدعى للشهادة أو حين تتطوع هي فتذهب كي تدلي بشهادتها في جريمة شهدتها مثلا ..
الآية لاتتحدث عن هذه الحالة، وإنما تتحدث عن حالة الإشهاد على الأموال في السفر لمزيد من الاستيثاق حفظا للحقوق .
وبعبارة أوضح أقول : آية المداينة التي يقول الله تعالى فيها " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " هذه الآية تتحدث عن حالة تعاقد بين دائن ومدين في سفر تستدعي التوثيق بالكتابة والإشهاد حفظا للحقوق ، وقد افترضت الآية أنه قد لايتوافر اثنان من الذكور للشهادة ، فأرشدت إلى أن تحل امرأتان محل الرجل الواحد الشاهد ، وعللت لذلك بتعليل واضح " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى "
لأن المرأة في تلك المجتمعات وفي ذلك الزمان لم تكن لها خبرة بالمعاملات ومداينات الأموال ، ومن ثم يفترض نسيانها وضعف تذكرها إذا تعرضت لتحمل الشهادة على معاملة تستدعي خبرات لم تمارسها ، فأرشدت الآية إلى أن تقوى شهادتها بشهادة امرأة أخرى تذكرها إذا نسيت .
الثاني : أن الأمر بالكتابة والإشهاد على الدين في الآية بشكل عام للإرشاد وليس للوجوب كما يظن .
هكذا قرر الأصوليون والفقهاء ، قالوا لأن هناك قرينة صرفت الأمر من دلالته على الوجوب الذي هو حكم الأصل في الأمر، إلى الإرشاد وهي قوله تعالى " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه "
يعني إذا أمن كل طرف على حقه فلا حرج في عدم كتابة الدين أو في عدم الإشهاد عليه ، وعلى كل طرف أن يلتزم بالأمانة مع الطرف الآخر .
وإذا كان الأصوليون قد قرروا أن الأمر بكتابة الدين في الآية يفيد الإرشاد لا الوجوب ، فكذلك الشأن بالنسبة للإشهاد عليه .
الأمر إذن لايعدو أن يكون نوعا من الإرشاد لمزيد من الاحتياط في سبيل ضمان الحقوق وفق ماكان عليه حال المرأة و قتها ، ولاعلاقة له مطلقا بذكورة ولاأنوثة ، ولا بتمييز جنس على جنس ، وإنما يتعلق بمدى الخبرة والممارسة ، فالناس جميعا يقوى تذكرهم في الأمور التي يمارسونها والعكس .
ومن هنا لفت الشيخ محمد عبده رحمه الله إلى أن المرأة إذا اشتغلت بالتجارة والمعاملات ، وأصبحت فيها ذات خبرة وممارسة وقوي تذكرها ، كانت شهادتها فيها كالرجل تماما ، ولكنه كعادته لم يصرح برأيه هذا رحمه الله ، واكتفي بالإلماح إليه فقط وبما يفهم من لازم الكلام ، ولكن صرح به تلميذه وابن مدرسته الشيخ شلتوت رحمه الله حيث قال نصا " والاية جاءت على ماكان مألوفا من شأن المرأة ، واذا كانت الآية ترشد إلى أكمل وجوه الاستيثاق ، وكان المتعاملون في بيئة يغلب فيها اشتغال النساء بالبياعات ، وحضور مجالس المداينات ، كان لهم الحق في الاستيثاق بالمرأة على نحو الاستيثاق بالرجل إذا اطمأنوا إلى تذكرها وعدم نسيانها .
قال : وقد قرر الفقهاء قديما أن هناك من القضايا ماتثبت بشهادة النساء وحدهن لعدم اطلاع الرجال عليها ، كالولادة والبكارة وعيوب النساء التي لايطلع عليها الرجال عادة .
ثم قال : ومابالنا نذهب بعيدا وقد نص القرآن الكريم على أن شهادة المرأة كالرجل سواء بسواء في شهادة اللعان .
هذا عن الشهادة على الأموال والمعاملات في آية الدين ، التي هي أقوى نص يستدل بظاهره على أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل مع تعميم الحكم .
وقد اتضح أن الآية تتحدث عن حالة تحمل المرأة للشهادة في المعاملات تحديدا توثيقا للحقوق ، وليس عن حالة أدائها للشهادة من باب البينة أمام القاضي ، كما اتضح أن الأمر في الآية كلها ليس للوجوب ، وإنما للإرشاد لأن الهدف هو الإرشاد إلى أوثق طرق حفظ الحقوق بين متعاملين في سفر وليس الإلزام .
———-—————————
أما بالنسبة لشهادة المرأة في الحدود والجنايات ، فليست كذلك على النصف من الرجل بشكل مطلق ، وهو ماسبق وأن قرره وحققه كل من ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله ، حين فرقا بين الشهادة التي هي من باب البينة وإثبات الحقوق أمام القاضي ، فهذه المرأة فيها كالرجل تماما سواء في الحدود أم في غيرها .
وقال ابن القيم في ذلك نصا " والمرأة العدل كالرجل العدل في الصدق والأمانة والديانة إلا أنه لما خيف عليها السهو والنسيان قويت بمثلها ،وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله.
ثم يقول : ولاريب أن الظن المستفاد من شهادة مثل أم الدرداء وأم عطية أقوى من الظن المستفاد من رجل واحد دونهما ودون أمثالهما "
أما في حال كتابة الحقوق وطلب الإشهاد للتوثيق وإثبات الحق حال المعاملات ، فقد وقف ابن تيمية وابن القيم على ظاهر النص كعادتهما ، وقررا أن شهادة المرأة فيها تحديدا على النصف من شهادة الرجل ، ولعل لهما عذرهما فالمرأة في بيأتيهما كانت لاتزال بمعزل عن المعاملات والمداينات ونحو ذلك .
ثم إنه لاعلاقة لكل ذلك بتولي المرأة القضاء كما جاء في واقعة السؤال ، لأن القضاء ليس من باب الشهادات ، ولكنه ولاية من الولايات ، وللأسف جمهور الفقهاء يمنعون المرأة القضاء لكونه ولاية ، والولايات يشترط فيها الذكورة عندهم ، وهو كلام لادليل عليه مطلقا لامن كتاب ولاسنة صحيحة ، بل إن الدليل على خلافه ، ويكفي هنا أن أذكر بقوله تعالى
" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض "
ولاأريد الخوض في تفصيل الكلام في هذه القضية ، فقد غدت قضية تاريخية ، لاسيما وقد بسطت الكلام فيها تفصيلا مع مناقشة سائر الآراء الواردة مع أدلتها في كتابي "عناية القرآن بحقوق الإنسان "، كما فصلت الكلام في شهادة المرأة على نحو أكثر تفصيلا وتدقيقا وعمقا في الكتاب نفسه .
والحمد لله الكتاب متداول ومتاح على شبكة المعلومات لمن يريد الاستزادة.