سأل جلال الدين الرومي شيخه شمس الدين التبريزي:
أيها الشيخ ؟ كيف تبرد نار النفس ؟
قال : بالاستغناء، استغنِ يا ولدي، فمن ترك ملكْ.
نعم ، هذه حقيقة "من ترك ملك "
وهذا المعنى العرفاني مستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم " ومن يستغن يغنه الله"
ولايراد بالترك الذي هو سبيل الاستغناء : ترك الاستعانة بالناس في مهمات الحياة التي وزعها الله تعالى فيما بينهم بحيث يتكاملون فيها ويتراحمون ، فهذه فروض كفائية يجب على الجميع التعاون في سبيل إقامتها ،ومن يقصر في أداء ماافترض عليه منها يكون آثما .
الترك المراد هنا معنى قلبي حقيقته الزهادة فيما في أيدي الناس ،وهو ماأكده قوله صلى الله عليه وسلم " وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس "
فالرضى بما قسم الله هو الذي يكسب العبد عزا وغنى فلا يخشى إلا ربه ولايستجدي غيره ، ولايحني هامته إلا له ،لأنه يرى المخلوقين جميعا مثله لايملكون لأنفسهم نفعا ولاضرا .
فكل الذي فوق التراب تراب .
وحين يستقر هذا اليقين في قلب عبد يكون هو والملوك سواء ، فهو وإياهم عبيد لله وفي قبضته وهو المانع وهو المعطي ، وقد يكون عطاؤه منعا ،ومنعه عين العطاء،
وهو ماجسده قول ابن عطا الله:
ربما أعطاك فمنعك ،وربما منعك فأعطاك.
أما الذي لايفقه هذه الحقيقة فإنه يكون في نظر أهل العرفان به خصلة من النفاق ، وعليه أن يتعهد قلبه بالتربية وتعميق معنى المراقبة لله فيه .
فالمنافق مانافق إلا عن احتياج مذل للخلق ، فهو أبدا مشغول القلب بهم حتى يكله الله تعالى إليهم ، ومن يكله الله تعالى إلى خلقه يكون قد قضى عليه بالذل لهم فلا يرتفع عنه هذا الذل أبدا ، ثم إنه يظل على هذه الحال حتى يختم الله على قلبه فلا يفقه الحقيقة ولن يفقهها :
" ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لايفقهون "