مقولة قالها بعض الفقهاء تحكمت بشكل كبير في نشر ثقافة دينية تميت أكثر مما تحيي. ….
أعني مقولة " يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال "
هذه المقولة كان القصد منها التحوط لدين الله خشية إهدار عدد كبير من المرويات التي حكم العلماء عليها بالضعف ، لعلة رأوها في سندها أو متنها ، ولكن هذه العلة في نظرهم لم تكن كافية لرفض هذه المرويات أو الحكم عليها بالوضع أو بالكذب ، ومن ثم رأى هؤلاء العلماء أن مثل هذه المرويات مادامت غير مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقينا ، فمن الجائز أن يعمل بها في فضائل الأعمال .
ولكن الذي حدث أن أهمل الناس العمل بكثير من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، خاصة تلك التي تتصل بإعمار الكون والحياة ، وتربية النفس وصياغة الضمير والسلوك .
فالأحاديث المنتشرة التي ترصد الأجر الجزيل وتعد بجنات الخلود لمجرد الذكر بصيغ بعينها أصبحت هي شغل المسلمين الشاغل ، وإن عاشوا على هامش الحياة مستهلكين لامنتجين ، يستحلون الرشوة والغش وبخس الحقوق والتلفظ بالسوء ، ومثلها الأحاديث التي ترغب في الفقر والمسكنة ، وتبشر بأن في الجنة منازل لايبلغها سوى الفقراء والمهمشين .
ويؤسفني أن أقول إن أكثر تلك المرويات التي تنتشر بين العامة و على وسائل التواصل تروج لكل ذلك مكذوبة موضوعة وليست ضعيفة فقط ، وكذا مايروج من مرويات تنشر التعصب البغيض لجنس على حساب جنس أو لطائفة على حساب أخرى ، أو في فضل إمام على إمام ، أو في فضل فقير على غني ، فقط لمجرد الغنى أو الفقر ، فهذه كلها ليست من دين الله في شيء .
ومحال أن يكون دين الله الخاتم بهذه السذاجة ..
وهل يعقل أن يتساوى عند الله رجل مكافح ذو دين وإحسان يتقى الله في نفسه وعمله وماله ووطنه والناس جميعا ، مع آخر خامل ذي مشية هزيلة يثير مظهره الخمول والكآبة بل والموت ؟
وماللدين وبذاذة الهيئة ورثاثة الثياب والرائحة المنفرة ، والمشية الهمجية !!!
فمما حفظناه من قيم ديننا " إن الله جميل يحب الجمال "
ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ارتدى أفاخر الثياب التي كانت تنسج في عصره ، القبطية واليمانية وغيرهما ، وكان يهدى إليه منها ويهديها هو لصحابته رضوان الله عليهم.
كما كان صلى الله عليه وسلم يعتني بترجيل شعره الشريف وتطييبه ، وكان يكثر من الطيب حتى يرى في مفرق رأسه وملابسه صلى الله عليه وسلم .
فكان صلى الله عليه وسلم بهي المنظر جميلا ، حتى وصفه سيدنا البراء بن عازب رضي الله عنه بقوله " مارأيت ذا لمة - شعره الشريف الذي يصل إلى المنكبين - في حلة حمراء أبهى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تأملوا : كان صلى الله عليه وسلم يرتدي هذه الحلة الحمراء مع بياض وجهه الشريف المشرب بحمرة ، فتخيلوا كم كان يبلغ جماله صلى الله عليه وسلم فيها وبهاء منظره مع توقد وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم ، وإلى درجة أن وصفه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه بقوله " مارأيت أبهى من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه " صلى الله عليه وسلم .
وقد تشبع الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الجمال ، فعشقوه في كل شيء ، وكرهوا البذاذة ومايسوء العين والقلب ، حتى ولو في طريقة المشي التي تنشر ثقافة الموت وتبعث على الكآبة وضعف الهمة ، حتى كان عمر رضي الله عنه إذا رأى أحدا يمشي على هذه الشاكلة ضربه بعصاه، وهو يقول له " ياهذا لاتمت علينا ديننا "
وقطعا لم يكن يوجد في مجتمع عمر رضي الله من على شاكلة هذا الرجل سوى بضعة رجال يعدون على أصابع اليد الواحدة ، أما في بلادنا الحزينة فنحن مبتلون في كل مكان بهؤلاء الذين يميتون علينا ديننا .
والمشكلة أن أكثرنا يتعاطف معهم باعتبارهم فقراء أو مساكين .
المشكلة ليست كذلك ، فالنظافة وحب الجمال سلوك وتربية !!!
وكم من فقراء يبدون ملوكا من التعفف ، وقد لفت القرآن الكريم إليهم مادحا عفتهم وكرامتهم وحفاظهم على آدميتهم والذوق الاجتماعي العام ، في قوله تعالى " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لايسألون الناس إلحافا "
أما أولائك الذين يجوبون طرقاتنا وهم في رثاثة وسوء مظهر ، فهم في الحقيقة فقراء في الهمة والكرامة والذوق الاجتماعي والإنساني .
وكل رواية توهمهم بأن الجنة لأمثالهم فهي رواية واهية ، والمتحدث بها إنسان يدعو إلى الموت وينشر ثقافته ، ويصر على أن يميت على الناس دينهم وحياتهم ، وحقه أن يؤدب على هذا الإفك الذي ينشره وينفى بعيدا عن هذه الحياة .
فلقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر كما استعاذ من الكفر ، بل وقرن بينهما في هذه الاستعاذة الشريفة " اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وأعوذ بك من عذاب القبر لاإله إلا أنت "