ورد لنا هذا السؤال :
هل صحيح أن الإسلام يبيح الاختلاط بين الجنسين والتعامل العادي بينهما خصوصا في سن الشباب ؟ أم إن العكس هو الصحيح سدا للذريعة ؟
أقول : حين يستفتى المفتي من قبل شباب وشابات في عمر الزهور في مسائل تعتري حياتهم بشكل طبيعى وفطري ، وخصوصا مايتصل منها بعلاقتهم بالجنس الآخر ، يجد نفسه أمام خيارين :
الخيار الأول : الأخذ بمبدأ سد الذريعة ، يعني سد السبيل الموصل إلى الحرام بتعبير الأصوليين ، وحينئذ سوف يلزم باب التحريم في أجوبته عما يوجه إليه من تساؤلات بهذا الخصوص ، حتى يغلق على هؤلاء الشباب والشابات الأبرياء باب الوقوع في الخطأ بمنع مقدماته ، وساعتها سوف يغلب على ظنهم أن دينهم هذا صعب أن يعاش ويمارس في هذه السن ، وأن كثيرا ممايمارسونه في حياتهم بشكل طبيعي وفطري حرام لكونه ذريعة إليه وفق فتوى المفتي ، كالمحادثات البريئة بينهما إناثا وذكورا ،والزمالة التي تفرضها طبيعة الدراسة، والتحيات المتبادلة بينهما ، واستعارة المحاضرات وتبادل المعلومات والنقاشات ، والرحلات المدرسية والجامعية ، والركوب معا في المواصلات ، والجلوس سويا في قاعات الدرس، فكل هذه الممارسات حرام لما قد تؤول إليه من الوقوع في العلاقات الآثمة.
ولكن مامردود هذا التحريم على الشباب ؟
الإجابة ببساطة: هي تسويد الحياة في أعين هذه البراعم الغضة ، لأن ممارسة شئون الحياة مع الفصل التام بين الجنسين أصبح غير ممكن بتاتا في هذا العصر ،فإما أن ينسحبوا من الحياة ويعيشوا في التاريخ السحيق لتمضي الحياة بأترابهم إلى حيث يشاءون ويحلمون ، وإما أن يضطروا اضطرارا إلى العيش داخل هذه الحياة مع شعور قاتل بالذنب والحرمانية - بضم الحاء - لأن مصيرهم المحتوم هو جهنم وبئس المصير ، وفق ما يفتى لهم .
وهذه الروح السوداوية حين تسيطر على أذهان الشباب والشابات في هذه السن كثيرا ماتوقعهم في الحرام فعلا ، فمادامت تصرفاتهم البريئة في حياتهم الطبيعية حراما ، فليعبوا إذن من كل متع الحياة ومباهجها ، المحظور منها قبل المباح ، وليبتهجوا كيفما يشاءون ،فقد رفعت الأقلام وجفت الصحف بمصيرهم المحتوم ،وهكذا تقام بينهم وبين دينهم وطاعة ربهم جدر صماء عازلة ، وربما يكون الوقوع في براثن الإدمان والإلحاد هما الملجأ الوحيد للهروب من الشعور الدفين بعدم الرضا عن أنفسهم ومصيرهم حين الرجوع إلى ربهم .
أماالخيار الثاني - وهذا لايتجه إليه غير المفتي البصير فقيه النفس والواقع -فهو الأخذ بالمبدأ المقابل ، وهو فتح الذرائع ، وهو مبدأ أصولي كذلك ، أصل له كثير من الأصوليين في مدوناتهم ، ويعنون به ببساطة : إجازة الوسائل التي قد تفضي إلى الوقوع في الحرام إذا تحققت المصلحة الراجحة، بما يعني إخراج الناس من حيز الضيق والمشقة والحرج إلى باب السعة والمرونة ، بتيسير الفتوى عليهم متى تحققت مصالح واقعهم المعيش .
فالفتوى بحرمة الاختلاط بين الجنسين مثلا في هذا العصر ، وإقامة جدر عازلة بينهما معناه : العودة بالإناث جميعا إلى قاع البيوت ، ولاتعليم ولاعمل ولاسفر ولانحو ذلك،
وهذا كلام لم يعد مقبولا قط ولامعقولا ،ولن أكون مبالغة إذا قلت بأن هذه الفتوى معناها شل الحياة وتدنيها في سلم الارتقاء ، وفوات المصالح المجتمعية والإنسانية إلى حد كبير ، فما يقترب من ثلث الأسر المصرية مثلا غدت تعولها النساء حسب الاحصائيات ، وباقي النسبة يعني الثلثين : للنساء فيها مشاركة ومشاركة كبيرة ، ولم يعد في مقدور الرجال وحدهم الإنفاق على أسرهم مع هذه الموجات الطاحنة من الغلاء ،التي ضربت العالم بأسره كما هو مشاهد .
وقد نص ابن القيم رحمه الله في هذا الباب على مايشبه القاعدة الضابطة حين قال " ماحرم سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة " وفي المعنى نفسه قال " باب سد الذرائع إذا فاتت به مصلحة راجحة لايلتفت إليه "
ترجيح مبدأ فتح الذريعة إذن في مثل هذه الحالة التي نحن بصددها ، لم يعد شأنا اختياريا لأنه سبيل لتحقيق المصالح المجتمعية الراجحة .
ولكن :
هل تفتح الذرائع هكذا بلا ضوابط ولاحدود ؟
قطعا : لا
لأن تعاليم شريعتنامن مبدئها وحتى منتهاها محاطة بالقواعد الخلقية الثابتة والضابطة، ومتى ماانهدمت قاعدة منها انهدم الدين ،وقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية من رسالته كلها في قوله " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "
الأخلاق إذن هي البنيان العاصم من كل الرذائل، والمتفلتون أخلاقيا لن يعوزهم اقتناص الفرصة لارتكاب مايشاءون ،ولو نقلوا إلى جزر معزولة حيث لابشر .
علينا إذن أن نتكاتف جميعا : آباء وأمهات وعلماء ومفتين ومصلحين واجتماعيين ، للأخذ بأيدي هؤلاء الشباب والشابات إلى مايمكنهم من ممارسة حياتهم الطبيعية دون تأثم مادام ذلك في إطار من مكارم الأخلاق ، وأن نبني بداخلهم قلاعا حصينة من العفة ومراقبة الله تعالى ،والالتزام بتعاليم ديننا الصحيحة المتناغمة تماما مع الفطرة الإنسانية، لاتصادمها ولاتصادرها ، وهذا هو ما يحفظ عليهم عفافهم وطهرهم ونقاءهم بلا أدنى ريب .
ولأن المجال هنا لايتسع لسوق الأدلة والحجج والبراهين ، أقول في جملة واحدة :
لم يكن مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم منعزلا ، ولا محاطا بالجدر العازلة بين الجنسين ، ولكنه كان مجتمعا مختلطا اختلاطا طبيعيا محترما ، تجلله المشاركات المجتمعية بين الجنسين في كل المجالات، في الصلوات والجمع والجماعات والحروب والغزوات الخ
وكانت المرأة تضيف الرجال في بيتها وتخدمهم بنفسها في حضرة زوجها ، وتعودهم إذا مرضوا ، وتستفتيهم وتفتيهم ،وتروي لهم وتروي عنهم .
وماسمعنا قط أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حوائط فاصلة أو جدرا عازلة تحجز النساء عن الرجال في تجمعاتهم ،أو أمر بذلك .
وأحيل هنا إلى الموسوعة الفريدة غير المسبوقة ، أعني كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" للأستاذ عبد الحليم أبو شقة رحمه الله ، فقد عالج هذه القضية في جزء كامل من كتابه هذا ذي الأجزاء الست ، والكتاب بشكل عام قلت فيه لغة التفسير والتعقيب والشرح ، على حين تكاثرت النصوص كثرة بالغة ، حيث تعمد المؤلف رحمه الله أن يترك المجال للأدلة الصحيحة الثابتة من القرآن الكريم والسنة الصحيحة لتتحدث هي ، فكفت ووفت وأغنت، وحققت للكاتب والكتاب تميزا عن سائر ماصنف في موضوعه .
وأتذكر أن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حين أهدي إليه هذا الكتاب قال بعد أن تصفحه " وددت لو خرج هذا الكتاب الى النور من عدة قرون " رحم الله الجميع .
وأستسمح حضراتكم في الرجوع لهذا الكتاب قبل إثارة أية اعتراضات بدافع من الموروثات العالقة بأذهاننا ، وأكثرها جاءنا من عصر الحريم لامن صحيح الدين ، ولاعلاقة لها في الحقيقة بصحيح المنقول ولابصريح المعقول .
وعلى من يريد أن يلزم باب سد الذرائع أن يلزمه في خاصة نفسه وأسرته ، ولكن من باب التورع وليس من باب التحريم ، فالقول بالتحريم شديد عند الله تعالى ، ولايقال إلا فيما هو مقطوع به ، وإلا عد افتراء على الله :
" ولاتقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لايفلحون "
أما التورع فهو مقام اختياري محمود ، ولكنه خارج دائرة الفتوى، اللهم إلا من باب الإرشاد والإرشاد فقط ، وفيما يعقل ويمكن واقعيا ، أما الإلزام به فلا .
ونسأل الله أن ييسر علينا وإياكم لزوم هذا المقام " التورع" حتى نترك تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام يارب العالمين .