الأستاذ الدكتور حسن حنفي ورؤيته لعلم أصول فقه الشيعة مقابل السنة :
أوضحت في المنشور السابق كيف كان الشيخ أبو زهرة رحمه الله موضوعيا إلى حد كبير في دراسته لأصول فقه الشيعة الجعفرية ، قياسا بغيره من علماء السنة ، وكيف ترك المعتدلين منهم يردون على المغالين ، إمعانا في الموضوعية والتزاما بالمنهج العلمي الذي اختطه لنفسه منذ بداية دراسته .
والآن نحن أمام توجه آخر مختلف لمفكر كبير وفليسوف أكاديمي بارز ، وهو الأستاذ الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة رحمه الله .
ولن أطيل في الحديث عن سيادته ومشاريعه العلمية الكبيرة التي قدمها في تخصصه ومايتصل به ، فهذا أمر لايخفى على متخصص أو مثقف .
ودعوني أوجز لكم وجهة نظر الدكتور حنفي التي ضمنها كتابه " من النص إلى الواقع محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه "
وقد أعجبني أن يقر الدكتور حنفي ابتداء بأسبقية الإمام الشافعي إلى وضع علم أصول الفقه السني منهجيا في رسالته ، على حين تأخر الشيعة إلى القرن الخامس الهجري ، هذا القرن الذي كاد فيه علم أصول الفقه السني - في رأي د حنفي - أن يقترب من القمة في المستصفى للغزالي ، وأصول الجصاص والكرخي وغيرهما ، وفيه ظهر كذلك أول مصنف كامل للشيعة و هو " التذكرة بأصول الفقه " للشيخ المفيد ، وهو الكتاب الذي يعادل رسالة الشافعي عند السنة كما يرى د حنفي ، ثم الذريعة إلى أصول الشريعة للشريف المرتضي ، ثم من بعدهما .
ولكن الدكتور حنفي رحمه الله عاد فقرر أن علم أصول الفقه السني انتهى -من حيث الازدهار العلمي - بالموافقات للشاطبي ، لتبدأ بعد ذلك حقبة التراجع العلمي بالعكوف على الشروح والتلخيصات ، و التي لم يفق منها علم أصول الفقه السني بعد -حسب رأيه -
على حين مضى علم أصول الفقه الشيعي طوال تلك الفترة المظلمة عند السنة في ازدهاره ، لاسيما خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين .
ثم يخلص الى نتيجة مفادها ، أن علم أصول الفقه السني بدأ مبكرا في القرن الثاني الهجري ، وانتهى كذلك مبكرا مع نهاية القرن السابع الهجري ، على حين بدأ علم أصول الفقه الشيعي متأخرا في القرن الخامس ولكنه لم ينته بعد .
ثم يقول نصا : وكون أصل الفقه الشيعي قد تأخر قرنين من الزمان ، فهذا لايحتاج الى دفاع لارتباط أصول الفقه السني بالسلطان ، بينما ارتبط أصول الفقه الشيعي بالمعارضة - انظر من النص إلى الواقع ص ٣٠٢ -
ويلاحظ أن هذا الحكم الذي انتهي إليه د/حنفي وأوجزه في هذه الأسطر القليلة يتسم بقدر كبير من التحامل على علم أصول الفقه السني ، بل ويتضمن في نظري اتهاما غير مقبول سواء بالنسبة لمنشيء هذا العلم وهو الإمام الشافعي ،أو للمدرسة الأصولية السنية الأثرية بشكل عام ، ولاشك أن مثل هذا الحكم لايمكن قبوله هكذا -بمنطق العلم- حتى يثبت إثباتا علميا مجردا ، وهو بهذه الصياغة في نظري عبارة عن مجرد رأي يرتكن على أخبار تاريخية تفتقد إلى التوثيق التاريخي المعتمد للحدث التاريخي ، فلا وثائق تشهد بذلك ولاآثار ولاتدوينات ولاشيء من ذلك .
والواقع يثبت أنه كم من علماء عبر تاريخنا القديم والحديث تجردوا تماما للحقيقة العلمية ، ولم تفلح عصا السلطان ولا عصاباته المدججة بالأسلحة أو المزينة بزينة الحياة الدنيا في أن تجتذبهم ، فضلا عن أن تشتري ضمائرهم ، فكيف بإمام في حجم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى !!
وقد تصفحت كتاب د حنفي بأكمله ، ولم أجد في الحقيقة دليلا علميا منطقيا يبرهن على صحة حكمه فيما يتصل بالإمام الشافعي تحديدا ، وماأراه إلا منحازا لغيره من أصحاب الوجهة الحداثية ، ممن رأوا في الإمام الشافعي أداة من الأدوات التي أحسنت السلطة القائمة توظيفها لشرعنة ماتمارسه من تصرفات استبدادية ، وهو المنحى الذي اتجه عبد المجيد الصغير إلى إثبات عكسه ، في كتابه " الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام " حيث رأى في رسالة الشافعي وتصنيفات المؤسسين لعلم الأصول السني عموما مايؤسس لسلطة العلماء في إدارة الشأن السياسي ، بل والتعبير عن أشواقهم وتطلعاتهم في أن يكون لهم سلطان نافذ في توجيه حركة الاجتماع البشري ، تقليصا لنفوذ أهل الاستبداد من السلاطين الذين مافتئوا يوظفون نصوص الشريعة فيما يخدم أغراضهم السياسية الاستبدادية .
ولاأدري تحديدا ماعلاقة ماأصل له الشافعي في الرسالة من موضوعات علم أصول الفقه المعروفة ( البيان - الناسخ والمنسوخ - العام والخاص - مبحث الأدلة ... الخ ) بمسألة التمكين لسطوة الخلفاء واستبدادهم الجائر ، أو حتى التمكين للنفوذ السياسي للعلماء ، اللهم إلا من باب تحميل الكلام العلمي الدقيق مالا يحتمله من إلماحات وتفسيرات بعيدة جدا عن غرض المؤلف الذي هو الشافعي رحمه الله ، اعتمادا لنظرية موت المؤلف عند رولان بارت مثلا ، أو نظرية النص وليس المؤلف التي اعتمدها. د /حنفي - انظر من النص إلى الواقع ص ٣٧
كما لاأرى أي منطق علمي يدعو د/ حنفي إلى هذا التحيز لعلم أصول الفقه عند الشيعة ، ووصفه له بالعقلانية في أكثر من موضع من مؤلفه السابق الذكر ،في مقابل وصفه للأصوليين السنة إلماحا وتصريحا بالجمود وتقديس النصوص والأشخاص ، بل ومغازلة السلاطين والأمراء المستبدين .
وأتساءل ، كيف هذا والشيعة عموما هم الأساتذة الذين لايضاهون في التكريس للأفكار الاستبداية ، والوصاية جزء من تكوينهم المعرفي والثقافي ؟ ويكفي أن من أصولهم المقررة أن خبر الواحد حين يروى عن إمام من أئمتهم أفاد العلم اليقيني ، وأن للإمام ماللنبي من العصمة والتشريع بيد أنه لايوحى إليه ، ولايعتد بإجماع إلا إذا كان فيه المعصوم ، ولابتفسير نص إلا إذا ورد عن طريقه ، وحينئذ يكون هذا التفسير قطعيا لايقبل الرد ، لأن الأئمة وحدهم هم من استودعوا علم تفسير النصوص المقدسة ، ولاتقبل رواية ولاتصحح إلا إذا رويت من طريقهم…
أي حرية علمية إذن وأي إبداع !!!
يتبع ان شاء الله.