يقول سفيان بن عيينة رحمه الله :
"لو كان الأمر بأيدينا لضربنا بالجريد كل محدث لايشتغل بالفقه ، وكل فقيه لايشتغل بالحديث "
يعني : يجب على المتصدر للفتيا أن يلم بعلم الحديث وعلم الفقه معا ، فالاقتصار على أحدهما نكبة ، وسبيل إما إلى الجمود والتسارع إلى التكفير ، أو إلى الزلل والتفريط .
-وكان الإمام القرافي يرى أن الفتوى محرمة على من لم يدر ماأصول الفقه ولم يمارسه .
ولنضع عشرة خطوط تحت كلمة " ولم يمارسه هذه "
فالممارسة لاتكون إلا نتيجة إحاطة شاملة بهذا العلم وسبر أغواره ، ثم التحول به من علم نظري قواعدي ، إلى علم تطبيقي فاعل في حياة الناس .
يعني ربط الفقه بأصوله ، بحيث يكون علم الفقه مشدودا بقواعده المؤسسة له وهو علم الأصول .
-أما ابن عاشور وقبله الإمام الشاطبي فيقرران : أن من شروط المفتي أن يكون على وعي تام بعلم مقاصد الشريعة ، لأن الجهل بها ينشأ عنه الجمود وضيق الأفق في الفتيا وكثرة الخلاف واتساع هوته .
يقول الشاطبي في شروط المجتهد " معرفة مقاصد الشريعة على كمالها ، ثم التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها "
ثم يقول في نص حاسم " فمن لم يعرف مقاصدهما - أي : الكتاب والسنة - لم يحل له أن يتكلم فيهما "
- وأما الإمام ابن القيم فيشترط في المفتي أن يكون على معرفة بالواقع حتى يحيط به علما ، ثم معرفة الواجب في الواقع ، ثم ينزل أحدهما على الآخر .
يعني فقه تنزيل النص على الواقع .
وعلم المفتي بالواقع حتى يحيط به علما لايتأتى في هذا العصر إلا بالاستعانة بالخبراء في التخصصات الإنسانية والعلمية إذا اقتضى المقام ذلك ، وهو ماتفعله حديثا المجامع الفقهية ، التي تضم إلى جانب المتخصصين الشرعيين : الأطباء والاقتصاديين ، وعلماء النفس والاجتماع وغيرهم كخبراء واستشاريين ، وهم أهل الذكر الذين أمرنا بسؤالهم ، فيما يتصل باختصاصاتهم قبل استصدار الفتوى .
وقبل كل ذلك : اشترط الأصوليون جميعا في المفتي أن يكون على علم بالكتاب والسنة ولغة العرب وسائر مايشترط في المجتهد .
-وأضاف المحققون منهم شرطا مهما ، وهو أن يكون المفتي فقيه النفس ، ويعنون بهذا امتلاكه الملكة الفقهية التي يجب أن تتوفر فيه فطرة ، قبل أن تكون اكتسابا.
الفتوى إذن شأنها عظيم، وقليل ماهم الذين تتوفر فيهم شروطها ، ودون ذلك يكون من باب الافتئات على هذه المهمة الجليلة، ويجب منعهم كما يمنع الطبيب المزور أو المنتحل لمهنة الطب ، فكما أن هذا يضر بأبدان الناس وصحتهم ، فإن ذلك المفتي الجاهل يضر بأديانهم وعقولهم ، ولذا فإن
ضرره أشد كما يقول ابن القيم رحمه الله"
يقول :
" فمن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عقولهم وعاداتهم وأزمنتهم وأماكنهم ، فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم ممن طبب الناس جميعا بما في كتب الطب على اختلاف أزمنتهم وعوائدهم وطبائعهم ، بل إن هذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم …"
وهؤلاء هم من تزدحم بهم الساحة الآن في الأكثر ، حقيقة نحن في نكبة .