بسم الله الرحمن الرحيم
(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد) (البقرة:253)
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾. (المائدة:110)
العجائب التي وهبها الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم- هي: آياته الفريدة في سور القرآن، فليست آيات محمد أعمالًا بل كلامًا، ويشهد القرآن للمسيح بكلمات محدودة، يبرِز أعماله العجيبة وشفاءاته المتعددة. لم يلعَن المسيح أعداءه، ولم يتصرَّف كجبار شقي، بل أظهر نفسه أنه ينبوع اللطف، ومصدر المحبة والرحمة، وعظُمت قوة الله فيه بآيات متعددة عجيب.
*********
"وَكَذَلِكَ الرُّوحُ أَيْضاً يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَلَكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا. وَلَكِنَّ الَّذِي يَفْحَصُ الْقُلُوبَ يَعْلَمُ مَا هُوَ اهْتِمَامُ الرُّوحِ، لأَنَّهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يَشْفَعُ فِي الْقِدِّيسِينَ". (رومية 8: 26، 27)
*******فذلكة تاريخية*******
هكذا
وعلى الرغم من أن ملك الموت، أو ما يسمى شرعًا في علم اللاهوت الجنائزي "قابض الأرواح" كان يرفرفُ بجَناحيه الأبيضين، ويدورُ في سقفِ الغرفةِ كالفراش، كان المَلك "هيرودوس أنتيباس" ذلك القابع في ركن الذاكرة الخربة، والمُحمَّل بالأوزارِ دائمًا يجلسُ على سريره الأخَّاذ؛ ذلك السرير المصنوع من الخشب الماهوجني، والمُطرَّز بالجواهر واليواقيت، وكانت تجلسُ إلى جواره تلك اللعوب "هيرديا" زوجة أخيه في انتظار ملك الموت. ولما كان الأطباء والكهنة، والعرافون يحيطون بهذا السرير من كل جانب، كالعاهرات في انتظار لحظة الوداع الأخيرة، كان الملك لا يرى إلا حلمًا واحدًا، وهو أن ملك اليهود القادم الذي تنبَّأ به من قبل "ميخا النبي" سوف يسلب العرش، ويجلس عليه منفردًا، وأن السماء المُرصعة بالنجوم ستتحول في نهاية الأمر إلى جحيم، الأمر الذي أقلق "هيرودوس أنتيباس"، وجعل الفوضى تدبُ في جوانب القصر العتيد، الذي اكتظتْ ساحتهِ بالكفرة، والمشعوذين.
وبينا كان الجنود الرومان الحليقو الرؤوس، الذين يمسكون في أيديهم البلط والفئوس، والخناجر اللامعة المُدببة يدورون في شوارع الناصرة والجليل، وفي أزقة الرامة وأورشليم، كان "بيلاطس البنطي"، والغائب عن الأوسمة والنياشين الرسمية، وغير الرسمية، الذي كان يستمتع بالجنود الرومان وهم يدقون المسامير في الرسغين الأبيضين، ويكللون الرأس بالشوك، يغسلُ يديه ثلاث مرات بعد أن أعدَّ خريطة من الورق البردي، وخطَّ فيها بدم المسيح.
في حين الجمع الغفير من المجذومين، والبُرْص، والعميان يسحبون خلفهم أرديتهم البيضاء وحكاياتهم التي تشبهُ الأساطير؛ يشكلون جيشًا هائلًا في انتظار لحظة الخلاص.
آنذاك كانت "مريم المجدلية" تنظرُ إلى المسيح بضراعة وشفقة، وبعينين واثقتين وتقول: "لا تتركنا أيها المُعلم"، فظن الجميع أنها تخلصتْ من الأرواح الشريرة التي كانت تُطاردها. حينها كان قائد المئة يقف ينفض ثيابه التي ملأها الدم، ورئيس الكهنة يخرج، وكالعادة في أناقة لا مثيل لها، والعالم هو العالم لا يزال يجلس فوق فوة العدم، ينتظر كل يوم نبيًا آخر، ليُعلِّق عليه أخطاءه بعد أن تعرَّى هذا العالم من النعمة؛ تلك النعمة التي تعرى منها آدم من قبل، وحين اكتشف عُريه غطى جسمه بورق التين الخشن.
"لا تقل إن كل هذا خيال وضلال، فليس في العالم خيال بدون حقيقة..".
جلال الدين الرومي
الدِّيباجةُ
في سند الرواية
إن ظاهرة "تفكك الكائن الحي، وفساد انسجامة، وفرار الحركة منه"، التي أطلق عليها القدماء "الموت"، ظلّت لغزًا مستعصيًا منذ أن بدأ يفلسف معرفته للكون، لقد أدهشه تلك الكتل المادية التي تفرُ منها الحركة، وبات التساؤل؛ ما هو الشيء الذي فقدته حتى آلت تلك الكتلة إلى تلك الحال؟ فثمة مفاهيم كثيرة تداولتها الألسنة، وشاعت في العديد من المؤلفات وصفت المصائر التي تصير إليه الأرواح بعد مغادرتها الأبدان. وجاء الرد في كلمات خمسة تحتويهم كلمة واحدة، هي "التقمص".
إن كلمة "التقمص" وصف عام ينطبق على حالات التجسد كافة.
ففي كل حالة منها تتخذ الروح شكلًا ماديًا، كقميص لها.
فالتقمص من فعل "قمص"، ومن القميص الذي يُلبس، والقميص يؤنث، ويُذكَّر، وينقسم التقمص إلى مسابر خمسة هي:
النسخ، والمسخ، والفسخ، والوسخ، والرسخ.
في الأشكال الخمسة يكون قميص تلبسه الروح في مرحلة من مراحل الزمن، وهذه الخماسية ليست مما اتفقت عليه جميع الآراء، فثمة فئات قالت بها، وثمة فئات قالت ببعضها، وأخرى أنكرتها.
فالتقمص في الأصل هو تعبير عن وضع القميص، وقد احتوى الجسد واستبطنه، وقد استُعير في الدلالات العقائدية، ليرمز إلى الجسد الذي استبطن الروح، فالجسد بمنزلة القميص الذي ترتديه الروح، مثلما يرتدي الجسد قميصًا من النسيج!
أولئك الذين عكفوا على دراسة الحياة التي تلي الموت قد ضلوا طريقهم في المجهولة، وهذا العلم لم يقدم حتى الآن تعريفًا علميًا للموت، وما بعده، ففئة قالت: "إن الموت هو موت جسدي، أما الروح لا تموت بل تذهب إلى جسدٍ آخر، وتحل فيه!"، وآخرى قالت: "الموت هو مغادرة الحياة الدنيا، ويبقى الجسد بروحه، لكن في حياة ثانية"، وقد فصَّل الإسلام هذا الجدل بالاستدلال بآية: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (85:الإسراء).
*********مُقدمة*********
مريم المجدلية
وذلك بدلًا من التقديم
ها أنذا قد أعددتُ المائدة..
هل أتسللُ بين عساكركِ وأعضائكِ،
وأقفُ على بوابات جسمكِ،
حاملًا في يدي مشكاة؛
عساي أن أحيطَ بكِ.
سامح رشاد
الوثبة الأولى
""""الجوهر والعَرَض""""
"الجسد لفظ والروح معنى".
في الأول من شهر ديسمبر وعصافير الغيم تُلملمُ أذيال الصيف، والريح غير مواتية، وتسبقها رائحة الليمون المُخضر، والمطر الدفاق يهلُ ويغرقُ أجران الدفء النابت فوق تضاريس الزمن والجو مُلبَّد بالغيوم، والشمس خرجتْ محلولة الشعر، وعارية الأرداف، لكنها تختبئ وراء الثلوج المتناثرة، والبيوت مغطاة ببرودة الأمطار، وقد قضى الرهبان معظم نهارهم في جرف الثلوج المتراكمة على سطح الدير، فدخلوا إحدى غرف الدير، وأوقدوا فيها حطبًا، واستقبلوا النار بوجوههم يستدفئون ويتسامرون، وهم متسربلون بعباءات سوداء سميكة، وكان يعترض حديثهم صوت الرعد وتخبيط الأمطار، وهزيم الرياح، والعواصف. وها هي السماء الواطئة تلتفُ على أشجار الروح، مثل سرطانات هائلة ووجع أبيض يغطي سماء المخيلة بالأعشاب والطحالب الخضراء، وأنوار نحيلة تدخل من نوافذ ضيقة تبثُ أشعة البرق إلى الدير.
قال رئيسهم "يوحنا المنغوري":
- لقد سمعت في الشهر الماضي حديثًا أقلقني، ألم تسمعوا به؟ قد علمتُ أن اثنين من اللصوص تعرضا ل "أغناطيوس" بطريريك الأرثوذوكس وقتلاه، وترك البطريريك ابنته الوحيدة، وسمعت أن عمها "بطرس" هو من تولى رعايتها.
فقال أحدهم:
- نعم.. سمعنا، لقد تركها وحيدة تترجلُ أرضًا وعرة، وسماوات غريبة. وحدها تشتبكُ في قميص الرياح المتناثرة شظايا، وأشلاء، وسمعنا أيضًا أنها سافرت إلى القدس في زيارة دينية، وعند عودتها وضعها عمها "بطرس" في مستشفى الأمراض العقلية!
- مستشفى الأمراض العقلية؟!
- لِمَ فعل هذا؟! القس "بطرس" أعلم أنه رجل متدَّين!
- ما فعله عمها عين الصواب، لأن "أفراميا" كانت تعاني من اضطرابات عقلية جعلتها تتخّيل أشياء غير موجودة.
- لكن أنا أعلم أن ابنة البطريريك كانت دارسة اللاهوت، وهي أيضًا حاصلة على شهادة الدكتوراه!
- نعم.. نحن نعلم هذا، لأن والدها كان مُعلمًا لنا، لكن هذا ما حدث.
قال الرئيس "يوحنا" بعد ان استشاط غضبًا:
- سأذهب إلى القس "بطرس"، وأعلم منه الحقيقة، وربما يكون في حاجة إلى مساعدتنا.
*********************
دخل الرئيس إلى بيت القس "بطرس"، وقد كان الثاني شاردًا، ويبدو عليه العجز والحزن، ووجهه مملوء بالأسى لموت أخيه، فقال له "يوحنا":
- ألا تتذكرني؟ أنا "يوحنا" من أصدقاء أخيك "أغناطيوس".
هزَّ "بطرس" رأسه، ولم يُبدِ أي اهتمام لكلام "يوحنا"، وقام من على كرسيه، وأشعل غليونه ثم قال:
- يحملون كئوسًا من فضة، وأباريق من يواقيت، وأساور من ذهب، ولا يتبقى بها غير فروع ذابلة محتضرة، ودم متخثر موبوء!
استغرب "يوحنا" من كلام "بطرس"، وقال له:
- من أولئك الذين تذكرهم؟!
فقال "بطرس":
- هذه الحدائق مشغولة بالبنفسج في الصبح حين ينازعها الطل في الليل، وها هو جسدي يتطاوح كالنخل من فرط خضرته! إننا نحن البشر نتحرك كما تريد لنا الطبائع المركَّبة فينا، ولا نملك من مصائرنا شيئًا سوى ما يُخيَّل لنا أننا نملكه، منها: الحب، والكراهية، والأماني، والأوهام تدفعنا، وتأخذ بزمامنا قسرًا.
علم "يوحنا" أن "بطرس" مُجهَد عقلي، فحاول أن يستأذن منه حتى لا يطيل عليه التعب، لكن حين قال "بطرس":
- سأصلي صلاة الشياطين، ولا حول لي ولا قوة.
قرر "يوحنا" أن يبقى معه، حتى لا يُجن أو يرتد عن دينه، فقال له:
- إياك -يا رجل- أن تكون غضبت من ربك لموت أخيك!
فنطق "بطرس":
- لا.. أنا لا أغضب أبدًا من الرب، فالرب أعطى والرب أخذ.
واشتدت جدًا عليه وطأة الشعور بالدين لله، فكان وقتها يحفرُ قلبه، لينبش خطاياه، ويقيس بشاعتها بمراحم الله، ويستغفر.
فقال "يوحنا":
- لماذا قلت هذا الكلام من قبل؟ وماذا تقصد بصلاة الشياطين؟
- لا شيء.. أنا لا أقصد شيئًا، لكني مُتعب، وأشعر بالوحدة، كأيامي الأولى!
- ماذا تقصد بأيامك الأولى؟!
- أيامي الأولى التي كنتُ أعيش بها لوحدي قبل أن تأتي ابنة أخي "أفراميا" التي آنستني في الأيام القليلة التي قضتهم معي.
- هذا -يا بطرس- ما أتى بي إليك؛ ابنة أخيك، قد سمعتُ أنها نزيلة مستشفى الأمراض العقلية، أهو صحيح؟!
- صحيح.
- ولماذا دخلت المستشفى؟! أنا أعلم أنها إنسانة مُتزنة!
نظر "بطرس" إليه بعد أن رفع يديه إلى الأعلى، فأوشك بروحه أن ينطلق إلى السماء، وأحنا رأسه، وأكبّ على وجهه، وقال:
- لقد ذهبنا إلى طبيب للأمراض النفسية بعد أن بدأت "أفراميا" تتفوه بكلام غريب غير مفهوم، عند عودتها من القدس.
كانت تقول:
"أنا لي عند الرب غرف بحجم السماوات والأرض، لايدخلها إلا الفقراء، وأبناء السبيل، وغير العصاة من كل فج، والتائهون في ملكوت أجسادهم النقية، الذين يطلبون الماء، فلا يجدونه إلا في السماء، ولا يلمسون سوى رعشة الهواء، حيث يرقدُ الأزل في بحر الهيولي، حيث كل شيء كأن لم يكن، حيث الكاف خارجة من غياهب الظلمات، ومُتوَّجة بالإرادة، والنون شجرة زاكية، وتنقبض في نقطة الدائرة.
أنا أميرة من سبط بنيامين الملكي، وابنة الناصريين، أنا الطاهرة، المُطهرة، سأشرق بنور شمسي على بحيرة العالم الخضراء، وأفكُ مغاليقه، وطلاسمه.
لقد كتبوا كثيرًا عنّي، لكنهم لا يعرفونَ حقيقتي، أنا الخارجة من فضاء الفاصلة إلى النقطة، ومن النقطة إلى زمن الفاصلة.
أنا أول من جاء إلى قبر المسيح عند فجر أول أسبوع، ومن قبل اتبعتُ المسيح بعد أن أَخرج من جسدي الشياطين السبعة، أنا أول من حملَ حنوطًا لدهان جسد المسيح، أنا أول من ظهر لي المسيح بعد موته، أنا مريم المجدلية!
أنا كل شيء، حيث كل شيء فارغ إلا من معناه، سأخترقُ تخوم الماضي، وأنزعُ عن الأرض قشرة الحياة، والموت....".
وكلام كثير عن إنها القديسة المُنتظرة!، وأحيانًا ترددُ أذان المسلمين!!
زَارَها من الأطبَّة والمداوين، والمكشوف عنهم والمكشوف لهم، والسّحرة لكن دون فائدة.
ذهبنا إلى أماكن الزاهدين، والرُّحل للاستشفاءِ والتَّورع والتبرُّك، ولا جديد.
تعجَّب "يوحنا" من كلام "بطرس" عن ابنة أخيه "أفراميا"، وطلب منه أن يزورها في المستشفى.
خرج "يوحنا" من عند "بطرس" مودعه بحفاوة، متفقًا معه على زيارة "أفراميا" بالغد، في حين كان "بطرس" يجلسُ على مكتبه، وقد سمع أنفاس "أفراميا" قادمةً من الغرفةً المجاورة إلى مكتبه، فأخذ يتصنتُ عساها أن تكون أنفاسًا حقيقية، ظل على هذا الحال حتى منتصف الليل، فاتكأ على صليبه، وأخذ يجفف العرق عن جبينه، اختنقت أنفاسه في حنجرته، وهو يضحك ويهذي كالمجانين، وبدأ يلهث، وشعر لبُرهة أن الدنيا تدور من حوله، لكن سرعان ما سكنت، ثم تذرع بحركاته وسكناته، فذهب إلى سريره لينام، وانعقدت أطراف الموت الحمراء بين ترَاقيه، وترائبه، ورأى أنه يموت، فتعرَّت الذاكرة عن حجارة الوقت، وضوضاء الروح، ووعثاء الصعود والهبوط، وعناء الوحدة، ومكابدة الجسد للجسد، وكأن النهار تكوَّم خائرًا، مثل قنفذ على زجاج نافذته.
في اليوم التالي، وبعد أن تقابل "بطرس" مع "يوحنا"، وذهبا إلى المستشفى، كان الدكتور "أمجد" هو من تولى علاج "أفراميا"، حين سألوه عن حالة ابنتهما، أسف الدكتور لهما عن حالتها التي تتدهور كل يوم، الأمر الذي فزع منه "بطرس"، وحاول مقابلة "أفراميا"، لكن منعه الدكتور، فتوسل إليه أن يرى ابنة أخيه، لكن الأمر ازداد صعوبة حين جاءت الممرضة إلى الدكتور "أمجد"، وأخبرته أن "أفراميا" جاءتها نوبة صرع جعلتها تفقد وعيها، فخرج الدكتور من مكتبه، واتجه إلى غرفة "أفراميا"، ليطمئن عليها، وبعد فترة رجع إلى مكتبه، وواصل حديثه مع عمها وصديقه..
اندهش "بطرس" حين سمع من الدكتور ما قالته "أفراميا" له:
كانت "أفراميا" بين الحجاج الآتين من مشارق الأرض ومغاربها، كان ذلك في أواخر الفصل الخريفي، ومن قبل قد عبرت من الممر الإلزامي لمدينة القدس القديمة "إسرائيل"، وهي تمسك بيدها كتيبًا صغيرًا، اشترته من إحدى الجمعيات المسيحية، وكان يحوي تفاصيل طريق الآلام كاملة، وخرائط تُظهر مواقع المراحل الأربعة عشرة التي مر بها المسيح.
كانت الرياح تهبُ على الحجاج من جهة الشرق ممزوجة بروائح الزيتون، والبخور والزيوت العطرية العابقة في الأسواق القديمة، وكانت من قبل تتتبَّع حفيف أوراق الشّجر التي تتساقط عند الخريف، وأسراب الطيور التي تحلق في السماء.
وقد تزاحم البائعون والمستنفعون حول الحجاج، الأمر الذي دفع "أفراميا" أن تدفع عنها تلك الجوالين. كانت "أفراميا" حريصة على أدق التفاصيل التي قد قرأت عنها قبل حجها، حيث زارت كنيسة "الآباء الفرنسيسكان" التي بُنيت منذ ٨٠٠ سنة، وأثار هذا المكان الذي تحمّل فيها المسيح الضرب بالسياط، الإحساس بالرهبة لديها، وكان هذا رد فعل طبيعي، لأنها أتت لأمر ديني، وزارت دير "أخوات صهيون" قبل الانتقال إلى كنيسة "الحُكم المجاورة"، وهي مُقامة في المكان الشهير الذي أعطى فيه المسيح صليبه بعد إصدار "بيلاطيس البنطي" الحكم بصلبه، ورأت المنحوتات الضخمة على الجدران بالحجم الطبيعي الذي ينبض بأحداث ذلك اليوم الأليم منذ ألفي سنة، ووقفت "أفراميا" مشدوهة أمام صورة إنسانية؛ أحد تلاميذ المسيح يحاول أن يحجب نظر أم المسيح "مريم"، لئلا ترى ابنها حاملًا صليبه، تسمرت الدموع في عينها، وهي تتأمل تلك الصورة، واشتعلت نفسها بفصوص الآلام الحزينة، وعناقيد الصرع المحتدمة، وصارت رأسها مشدودة شطر السماء على الدوام، كأن خيوطًا خفيفة تسحبها إلى أعلى، نظراتها أصبحت شاخصة؛ تحملُ من الأسى قدْر الاستغراب، استجمعتْ نفسها بسرعة.
فتحت "أفراميا" الكُتيب من المنتصفُ، فقرأت فيه المرحلة الثامنة من الطريق الصليبي، ومعه فقرة من الإنجيل:
"وتبعه جمهور كثير من الشعب والنساء اللواتي كُنَّ يلطمن، وينحبن عليه، فالتفت إليهن "يسوع"، وقال: يا بنات أورشليم، لا تبكُنَّ عليَّ، بل ابكِنَّ على أنفسكن وعلى أولادكن".
فما أسرع ما تلاشى من وجهها الفرح وهيئته، وجاءت دموع الحزن وتهيأت بها، وأجالتْ بنظرها في جميع الاتجاهات، فرأت نفسها على رابية من رُبى غابة صنوبر واسعة، فأطلقت صوتًا يهتف: "سبحانك ربي..."، ورأت نفسها عاجزة عن العودة إلى الفندق قبل أن تتجول في الأسواق العابقة التي يملؤها رائحة الزيتون، والزعتر.
وحدثت نفسها: "كيف يستطيع المرء أن يشاهد هذه المناظر الخلابة، فيبقى مقبوض الذهن؟ كيف نضيع الوقت في هموم الطعام والشراب واللباس دون الالتفات إلى عظمة البارئ العظيم؟ أليس هو الذي صنع كل هذه المناظر الخلابة، كي نعرف أنه هو الجمال المُطلق؟
وقفتْ "أفراميا" تتكئ على حائط بجوار أحد المتاجر، فخرج لها صاحبه؛ رجل مُشرق الوجه مسلم يُدعى "أحمد"، فدعاها إلى حانوته المليء بالتحف والأثريات، وقال لها:
- تفضلي يا سيدتي، إني أراكِ ضللتِ الطريق؟
فإذا وجهها القمري الأزهر قد شرق لونه، وظهر فيه من الحياء ما يظهر مثله على وجه العذراء إذا أنت مسّتها بريبة، ولوّحتْ بالكتيب الذي في يديها قائلة:
- أبحثُ عن موقع المرحلة الثامنة لصلب المسيح.
تبسم "أحمد"، وقال:
- المرحلة الثامنة حيث التقى المسيح بنساء أورشليم الصديقات، ليست ببعيدة، هناك خلف تلك الزاوية، وأشار بيديه، وقال: تجدين صليبًا فوق الحائط الحجري.
فانتبهت "أفراميا" لإشارة "أحمد"، وقالت:
- فهمت.. فهمت.
واستدارت وشكرته وودعته، لكن استوقفها شيء على أحد رفوف المتجر، استرعى انتباهها قطعة فضية "قلادة"، فقالت:
- إنها رائعة.
ورفعت القلادة في الضوء، فانبثقت منها أشعة ملونة، فطلبت من "أحمد" أن تبتاعها، ونظرت إلى اليمين فكان ثمة قنديل زيت مكتوب عليه صُنِع منذ ألفي سنة، فقالت لأحمد:
- هل هو فعلًا منذ ألفي سنة؟!
- نعم.. يا سيدتي، هو بالفعل.
هزت رأسها، وقالت:
- ألا ينبغي أن تكون هذه القطع في المتاحف؟
ضحك "أحمد"، وعلق قائلًا:
- القُدس كلها متحف يا سيدتي، ادخلي أي منزل وأي متجر ستجدين فيه قطعًا أثرية كثيرة.
انتقلت "أفراميا" إلى رف آخر، فشد انتباهها خاتم يحمل قرصًا بحجم قطعة النقود، ونظر "أحمد" إليها، وأخذ الخاتم من على الرف، وقال لها:
- هذا بيزنطي الصنع.
تمعنت "أفراميا" في النمط الذي يشكله الخاتم في الضوء، وكان يرسم تسع دوائر، وفي المنتصف بقعة ضوء شديدة، فقالت له:
- هذا الخاتم يذكرني بالشمس، وحولها تدور الكواكب!
ثم قالت له: كم ثمن الخاتم؟
فقال لها:
- هذا الخاتم أمانة عندي لحين وصول صاحبه، وها الحين قد وصل من يستحق اقتناء هذة التحفة..
تمتمت "أفراميا"، وقالت:
- أنا لا أفهمك؟ أنت تعني أن هذا الخاتم ملك أحد؟
- نعم.. يا سيدتي، هو ملك من يستحقه، وأنتِ من تستحقينه.
- نعم -يا أحمد- أنا سأشتريه.
- لكن سيدتي، هذا الخاتم ليس للبيع!
- ليس للبيع!! فكيف أستحقه؟!
- لا بأس -سيدتي- هذا الخاتم مِلك لكِ من الآن!
- أتعني أنني مالكة الخاتم دون أن أدفع ثمنه؟
- نعم.. فهو هدية منّي لكِ.
تبسمت "أفراميا" بوجهها وعينيها معًا وشكرته، وعرضت عليه بعض النقود، لكنه رفض، وطلبت منه أن تخرج، لتستكمل جولتها في شوارع القدس، فودعها، وهي خارجة إلى الباب قائلًا لها:
- مع السلامة.. يا مجدلية.
فاستدارت، وقالت له:
- ماذا قلت؟!
فقال لها:
- أقصد مع السلامة يا سيدتي.
عادت "أفراميا" إلى طريق الآلام، ووجدت المرحلة الثامنة حسبما أشار لها "أحمد"، لكنها كانت مضطربة، وعاجزة عن التركيز، وقد أحست بدوار جعلها تجلس فوق صخرة بالقرب منها، وكانت السماء فوقها تتفتق كالسراويل، وتنخلع عن الأرض كالبرانس، ونظرت نحو قرص الشمس، وكانت أشعتها ملتهبة وحارقة، كانت ثمة أوحال وغيمات كثيرة منتشرة، مما جعلها مشوشة الأفكار، وفجأة وجدت نفسها وسط حشد من الناس، وكانوا مِن حولها مضطربين وصاخبين، ويرتدون أثوابًا خشنة مصنوعة باليد، وبعضهم ينتعل صنادل بدائية، وكان معظمهم رجالًا ملتحين يقفون صفوفًا صفوفًا، ويشتعلون بالبكاء والنحيب، وبعضهم يهللُ بالتراتيل، والحجارة تحتهم تطقطق طقطقات موَّارة، يتطايرون في كافة الأنحاء كأنهم الجراد المنتشر، ولا أحد يبالي! وبعض منهم يقف يقدم النذور لآلهتهم الورقية، ويقدم القرابين لأولياء نعمهم، وبعض منهم تراهم كالخُشب المُسندة يتكئون على الفراغ الباهت، ولا يتساندون إلا على الجُثث المُتقيحة.
وسمعتْ صراخ النسوة في المُقدمة، ومن خلفهن كان الرجال الغاضبون اللاهثون، شعثي الشعر، ومُتسخي الأجساد، خناجرهم مُخبّأة عميقًا داخل قمصانهم، وبعدهم كان العجائز، وأبعد منهم تبع العُرج والعمي، والمشوهون، وبعدهم يساقط الأطفال صرعى كأنهم أعجازِ نخل، وأخذوا يطاوحونهم فرادى وجماعات على الجُثث المنثورة.
تفتت الأرض تحت أقدام الناس، وبدأ الحشد أمامها يشقُ طريقه بلا هوادة، ووسط هذا الحشد رأت "أفراميا" امرأة، أول مرة ترى مثلها، كانت أشبه بموجة ساكنة وسط بحر هائج، كانت مشية تلك المرأة توحي بأنها ملكة، على الرغم من الوحل الذي يُغطي أرجلها، كان شعرها أشبه بخيوط الفجر الناعسة، فأخذت "أفراميا" تتسابق مع الحشد لتصل إلى تلك المرأة، فتقدمت وصدارة ثوبها محلولة! تقدمت غير هيابة، ولما اقتربت من تلك المرأة شُدهت لجمال ذلك الوجه الحزين، الذي لم تستطع الوصول إليه لتلمسه، كانت نحيلة، رقيقة الملامح، ذات عينين واسعتين، براقتين، لونهما متموج بين الكهرماني، والأخضر، وفمها المُغلق بشكل ينمُ على المرارة، وراحت تتقدم وحدها، وهي تتعثر بالصخور، تسرع إلى الاختباء، وإلى الاختفاء داخل الحشد، والأرض تحتها تتمرغ كأمرأة عجوز في وحل الحيض، وحمى النفاس الأسود!
وقعت عين هذه المرأة على "أفراميا"، وعبر عينيها خرج رجاء مملوء باليأس، وكأنها تقول: "ساعديني.. ساعديني"، فعرفت "أفراميا" أن هذا الرجاء موجه إليها، وتكحلت بينهن بشارة الصمت الأسود.
أومضت "أفراميا" بعينيها، ثم أغلقتهما بضع ثوانٍ، وهزت رأسها لتزيح عنها تلك الرؤيا، وهي ذاهلة عن مكانها وزمانها، وقد استيقظتْ على صوت طائر يطير، ويرفرفُ بجناحيه البُنيين، ويضرب في الفراغ بريشه الأخاذ المراوغ، يعلو ويهبط.
وعندما وقع نظرها على بنطلونها الجينز، تأكدت أنها في القرن العشرين، ونظرت نحو الناس وجدتهم يرتدون ملابس عصرية! فأمالتْ رأسها، وقالت لنفسها: "أهذه رؤيا أم حقيقة؟!".
استفاقت، ولم تزل حائرًة كما لو جيء بها من مدارٍ لمدار، ومن بعث لبعث، محمولة على الأثير، شعرت أنها قبضت بين خلجات روحها على الحدود الفاصلة بين الوجود، واللاوجود، والأيْس، والليْس.
وهبَّت نسمة لطيفة أصدرت حفيفًا في أوراق الشجر، وسمعت صفيرًا، فالتفتت حولها إلا أنها لم تجد للصوت مصدرًا.
وتعثرت بالشتاتِ في طرقات الحنين، وضلتْ حدة نظرها وبصيرتها، ولاح في السماء ملاك؛ جناحاه يفرشان المدى بالضوء، لم تقدر أن تصف جماله الإنساني الدافئ، ونعومة الزغب الجعد على وجنتيه، وفوق شفته العليا، وعيناه مملوءتان عنفوان، يغطي ساقيه زغب أسود مائل للزُرقة، حوله ملائكة صغار كانوا يرتلّون في صوت متناغم: "والذي صعد، والذي لم، نبيٌّ يقوم.. نبيٌّ يؤم، بعثٌ لخلقٍ لم تُدَم"، فأشارت إليه بيديها، فاستدار لها، وكان النور يشع من هالته إلى المحيط، وقال لها بصوت هادئ: "أنتِ المباركة"، فوجدت نفسها في براثن الحلم، وبراثن الفضاء مخلوعة من دنياها، ففزعت إلى أن رُد إليها وعيها.
واصلت "أفراميا" السير حتى بدا لها حصن العدو يشمخ في قلب القُدس؛ مربع الشكل، حصينًا، بأربع زوايا، وأربعة أبراج، تعلوها أربعة نسور ضخمة، وكان الشيطان يسكن كل متر من هذه الثكنات، وفوق كل هذا تعلو أعمدة رومانية، تحملُ نسرًا ذا لونين؛ أصفر وأسود، وتحتها يقف "روفوس" قائد المئة الناصري المُتعطش للدماء....
كانت "أفراميا" تعلم من خلال تفحصها أن مراحل الصليب المتبقية موجودة في "كاتدرائية القيامة"، وتمتدُ الكنيسة على مساحة شاسعة، دخلت الكنيسة الضخمة، وعلى مدخلها سمعت أحدهم يقول: "سترون داخل هذا المكان الذي قدَّم فيه المسيح تضحيته الكبرى، وسُمِّر على الصليب بعد أن جُرد من ملابسه، ستدخلون هذا القبر المُقدس، وبعدها ستتغير حياتكم حتمًا".
فاحت رائحة البخور العطرة أجواء المكان، وانكشفت أسرار وسراديب لمدائن من زمن بعيد، وانفتحت حُجب ودهاليز كانت خافية.
ورأت "أفراميا" أن الحجاج من جميع الطوائف المسيحية يعبرون الممرات الفسيحة للكنيسة، فإذا برجل نحيل أبيض متوسط القامة اقترب منها، وقال لها:
- أنتِ "أفراميا"، صحيح؟
فنظرت إليه، وقالت في صوت خائف:
- نعم.. أنا "أفراميا"، كيف عرفت اسمي؟!
قال لها الرجل:
- لا يهم، نحن ننتظركِ منذ زمن، تعالي معي.
أخذ الرجل "أفراميا"، ودخلا ممرًا ضيقًا وطويلًا، وفي آخر الممر أشار الرجل إلى صورة زيتية لامرأة ترتدي ثوبًا أحمر، وجانبها لآلئ ونوارس تنتقل فوق شطوط الماء الرائق، وغلمان يغتسلون بضوء صافٍ، ويمرون خفافًا ممسكين أكوابًا من فضة، وقوارير من ذهب خلاب للأبصار.
ويظهر أن البخور والزيت، وعوامل الجو قد محت جزءًا كبيرًا من الصورة، وتحت الصورة مكتوب "كان في هذا المكان مريم المجدلية، أول من رأى المسيح عند قيامته"، وأسفل الصورة يوجد فتحة كبيرة بين الجدران السميكة مكتوب عليها باللغة العربية "ينهضُ عالم سُفلي آخر لا يشي به العالم الفوقي البادي للناظرين، والعابرين، عالم مغلق، لم يدخل إليه إلا الخاصة، وبعض الذين رماهم القدَر هنا لسبب أو لآخر".
استدارت "أفراميا" لتسأل الرجل النحيل عن الصورة، لكن لم تجده، فالتفتت حول نفسها، وصرخت بصوت عالٍ:
- يا رجل.. يا رجل، لكن لا مُجيب.
نظرت مجددًا إلى الصورة وتفحصتها، فإذا بخاتم في يد تلك المرأة التي بالصورة، هذا الخاتم يشع منه تسع دوائر، فقرّبت يدها اليمنى التي بها الخاتم من الصورة، فوجدت تشابهًا تامًا بين الخاتمين!
جلست "أفراميا" على المقعد، بعد أن أحسّت بدوار، فظنت أن هذا الدوار نتيجة التعب والإرهاق، فمسحت وجهها بيديها، ونظرت صوب النافذة، فوجدت سيلًا من الأشعة متموجة الأشكال والألوان، انعكست على المذبح فأنارت صليبًا كبيرًا!
أخذت "أفراميا" تغمض عينها، وتفتحها بسرعة، وانفرجت عيناها عن بريقٍ لامعٍ صافٍ، فتراءى لها أن الصليب يكبر ثم يتلاشى، أمسكت برأسها، وقد استبد بها الدوار، فأغلقت عينها، فظهرت تلك المرأة التي رأتها من قبل، لكن هذه المرة كانت ترتدي ثوبًا أحمر، فمدت تلك المرأة إحدى يديها، ومسحت على رأس "أفراميا"، وقالت لها:
- ساعديني.. ساعديني!
وأُسدلت فوق الجدران أشعة شمس من قلبٍ متوهجٍ.
استغربت، وخرجت إلى الشارع، وهي في حالة ذهول، وعند وصولها إلى جبل الزيتون بعد مسافة قرابة نصف ساعة، وصلت إلى قبر السيدة "مريم المجدلية"، وبعدها شعرت بأنها ليس باسطتاعتها تكملة السير، فوقفت مكانها، وانفلتت أنهار الغيم بعيدًا.
وكأن الأقدار هي من آتت بها إلى هذا المكان، ظلتْ تنظرُ إلى القبر الذي كان مكتوبًا عليه:
"قريبًا ستُطوى الأرض، وتمتد الممرات الوعرة، لتصبح مُنبسطة، وتنمو الورود على الجانبين، وتتسع الدروب، وتصدح التراتيل، وتهدأ النفوس، وتبتسم الشفاه الحزينة، وعن قريب ستأتيكم كلمة الله".
تعمقت في الكلام المكتوب، وهي تغوص في الأفكار، فرأت أنها ترتدي جلبابًا أبيض متسعًا، ووشاحًا أحمر قانيًا، وكانت تجلسُ بجوار "مريم الأم"، و"عيسي" يجلس أمامهم ينظر إلى كوة الغرفة، وعيناه يملؤهم الحزن البراق، وفجأة بينما هم جالسون هكذا، وقع اقتراب الليل، بدأت قلوبهم جميعًا يستولي عيها الحزن أكثر فأكثر، ثم انقضَّ طائر "سنونو" عبر الكوة كضربة سيف، ودار فوق رؤوسهم ثلاث مرات، وزقزق بمرح ثم يمَّم وجهه شطر السماء، وغادر المكان كالسهم المُندفع، وكأن تلك كانت الإشارة الغامضة التي كان ينتظرها "عيسى"، فنهض واقفًا ثم قال: "قد حان الوقت".
ألقى نظرة مترثية فيما حوله على موقد النار وأدوات العمل، ثم ألقى نظرة نحونا (أنا وأمه)، فقالت له "مريم الأم":
- لا تنظر إلينا هكذا يا ولدي، وكأنك تودعنا!
كرر "عيسى" القول:
- وداعًا.
ثم اقترب منا، وأومأ برأسه، ونظر نظرة مودعًا أمه.
خرج "عيسى" إلى الفناء، وهناك تبعه التلاميذ، على وشيع الفناء فوق البئر، وأزهرت شجيرة "صرعة الجدي"، التي أخذت تنشر ضوعها الآن بعد هبوط الليل، مد "عيسى" يده، وقطف زهرة، ووضعها بين أسنانه، ودعا في قلبه قائلًا:
"رب امنحني القوة، لأحتفظ بهذه الزهرة الرقيقة بين أسناني خلال آلام الصَلْب".
توقف على عتبة الباب الخارجي مرة أخرى، ورفع يده وهتف بصوت عميق: "وداعًا أيتها النسوة".
لم يرد عليه أحد، وكان نواحهن يتردد صداه في أرجاء الفناء.
سار "عيسى" في المقدمة، وانطلقت المجموعة على الطريق المؤدية إلى أورشليم، طلع القمر بدءًا من خلف الجبال "موآب"، وغربت الشمس خلف جبال "يهودية"، أومأ "عيسى" إلى "يهوذا"، فاقترب وسار إلى جواره.
لا بد أن هناك أسرارًا يتبادلانها! فقد كانا يتحدثان بصوت خافت، وأحيانًا كان "عيسى" يخفض رأسه، وتارة "يهوذا"، وكل منهم يزن كلماته بعناية قبل أن يجيب الآخر، وكانت كل كلمة قطعة من الذهب.
قال "عيسى":
- أنا آسف يا يهوذا، يا أخي، لكن الأمر ملحاح.
فقال "يهوذا":
- لقد سبق، وسألتك -يا مُعلم- أمَا من سبيل آخر؟
- لا يا يهوذا، يا أخي، أنا أيضًا كنتُ أتمنى وجود آخر، كنتُ آمل بوجود سبيل آخر، لقد حلت نهاية العالم، مملكة الشيطان هذه ستزول، وتحل مكانها مملكة السماء، وأنا سأجلبها.
- كيف؟
- بموتي، ولا سبيل آخر.
- أنت تقول ذلك لي لتواسيني، ولتفسح لي المجال لخيانتك دون أن يمزق قلبي. تقول إن لدي طاقة على التحمل، تقول ذلك لتمنحني القوة! كلما اقتربنا أكثر من اللحظة الرهيبة..
- لا.. يا مُعلم، لا طاقة لي على التحمل.. لن أخونك.
- بل ستتحمل -يا يهوذا- سوف يهبك الرب القدرة على هذا، وأعلم أن العقائد وحدها لا تُجدِ نفعًا إن لم تتجسد وصايا الله في حياتك، وسلوكك، حتى المعمودية لا تفعل فيك فعلها الأصيل إن لم يتجلَّ الله في حياتك.
أمسك "عيسى" بيد "يهوذا" ثم قال:
- ألم تتحدث إلى الكاهن الأكبر "قيافا"؟ أليس عبيد الهيكل الذين سيقبضون عليَّ مستعدين ومسلحين؟ ألن يحدث كل شيء كما خططنا؟
حينها ارتفع القمر، وفاض بضيائه على الأرض يمسح على الحجارة، والأشجار والناس، وامتدت على الأرض ظلال زرقاء قاتمة.. آنذاك استفاقت "أفراميا" من رحلتها.
وبعد فترة قصيرة بدأت الرياح تعصفُ مُحملة بالتراب، وبعض الأمطار، فأتاها رجل طليق اللحية، أبيض الوجه، سلَّم عليها، وقال بصوت هامس بعد أن أشار إلى القبر:
- هنا ترقد الطاهرة "مريم المجدلية".
ثم اختفى هذا الرجل، فنظرت إلى القبر، وقد بدا لها كبقعة ضوء، وخرجت منه سيدة ترتدي جلبابًا أحمر، وعلى وجهها ابتسامة عريضة، واقتربت من "أفراميا"، وقالت لها:
- ساعديني.. ساعديني!
استغربت "أفراميا"، وشعرت بشيء غريب يفوق تحملها وطاقتها، فأسرعت ورجعت إلى الفندق ذاهلة، متوترة. دخلت غرفتها، وألقت جسدها المُتعب فوق الكرسي؛ تنظر إلى المرآة، لكنها لا تعلم أي وجه يبادلها النظرات، لم ترَ شيئًا إلا انكسارات الضوء الخفيفة التي كانت تأتي من نافذة الفندق، وفي غضب صامت بدأت تتحسس بيديها حدود وجهها، وأخرجت من شنطتها تمثالًا للسيدة العذراء، ووضعته فوق الخوان، ثم تمددت أسفل قاعدة التمثال، أيقظتها أشعة الشمس المتسربة من إحدى نوافذ الغرفة، تحققت بلا دهشة من ملامحها، وكان وجهها شاحبًا، الأمر الذي دعاها للذهاب إلى الكنيسة المجاورة للفندق.
دخلت الكنيسة لتصلي، وأثناء القداس الإلهي، وكان ذلك عند قراءة فصل من رسالة القديس "بولس" إلى أهل تسالونيكي، وفيه يقول الرسول: "صلوا بلا انقطاع"، صارت هذه العبارة في أعماقها، وتساءلت: "كيف يمكن أن نصلي بلا انقطاع، فعلى كل منا أن يؤدي أعمالًا عديدة ليتدارك احتياجات يومه؟!".
وبعد أن خرجتْ من صمتها الذي عاشته أثناء الصلاة استقبلتْ الباب وخرجت. البلدة كلها نائمة في سلام تام، كما لوكان الليل قد دخلها. هذه البلدة صغيرة في بيوتها على الرغم من كبر مساحتها، وعلى أطرافها بساتين صغيرة، وأشجار كثيفة من شجر الزيتون.
سارت "أفراميا" في الطرقات، وهي تقرأ في الكتاب المقدس، وتسأل الناس عن مُعلم روحاني حكيم، حتى دلّها الناس على السيد "راجي" يعيش في قرية قريبة، وفي بيته كنيسة، لا يكاد يخرج من بيته أبدًا.
فأسرعتْ للوصول إلى هذا الرجل، وعندما دخلت بيته، قالت له:
- أنت رجل حكيم.. أريدك أن تساعدني.
فقال لها:
- تفضلي يا ابنتي.
- أستحلفك بالله أن تقول لي ماذا كان يقصد الرسول حين قال: "صلاة بلا انقطاع"؟
نظر إليها الرجل، وقال:
- إن الصلاة الداخلية الدائمة هي جهد الروح المستمر للتوصل إلى الله، فإن أرادنا أن نفلح في مسعانا، نصلي كثيرًا، نصلي باندفاع.
تُفهِمك الصلاة -من تلقاء نفسها- أن قول الرسول "صلاة بلا انقطاع": أي ينبغي أن نصلي صلاة فكرية، فالفكر دائم؛ لا ينقطع...
وبعد أن علمت "أفراميا" جواب سؤالها من المُعلم "راجي"، وقد أعطاها كتابًا يسمى "الفيلوكاليا"، هذا الذي يتحدث عن الصفاء الروحي، والجمال النفسي، وأخذت تتصفحه وهي مُنتشية الروح، وسرعان ما غمر قلبها دفء مستطاب، وملأ جوانحها، مما ساقها إلى التمعن في قراءته، فأضاف إلى قلبها النعمة الإلهية.
تركت الرجل ورجعت إلى الفندق، وعند دخولها الغرفة وجدت التمثال الذي وضعته على الخوان ساقطًا على الأرض، فحملته إلى فوق مجددًا، لكن هذه المرة كان قد كُسر، الأمر الذي أقلقها، وقالت في نفسها: "ألم يرضَ عنّي الرب؟!"، لكن سرعان ما تراجعت، وأخذت تصلي إلا أن لسانها تعلثم بها! فلم يكن لها إلا رغبة واحدة؛ أن تتلو صلاة المسيح، وما إن باشرت بها حتى شعرت بالغبطة، وكانت شفتاها تتحركان من تلقاء ذاتهما دون أي جهد، وقضيت يومها مبتهجة، كانت وكأنها اعتزلت كل شيء، خلت نفسها في عالم آخر، وأخذت تقرأ في كتاب "الفيلوكاليا" مع غروب الشمس، ما كان أشد من فرحها وهي تفتحه! باشرت بقراءة "ثيولبت أسقف فيلادلفيا" في القسم الثاني من الكتاب، وأدهشها ما قرأته بأنه يوصي بالقيام بثلاثة أنواع من الأعمال في نفس الوقت، هما: حين تجلس إلى مائدة الطعام، اعط جسدك قوته، وروحك القراءة، وقلبك الصلاة. فتحت عينها بتكاسل بعد أن فرغت من القراءة، نظرت إلى الساعة الحائطية الذهبية المُعلقة في نفس المكان منذ قرن على الأقل كما رُوِي لها، وشدَّها أن هذه الساعة منقوش عليها باللغة الإنجليزية أول ثلاثة أحرف من اسمهاAFR" "، وسرعان ما قالت في نفسها: هذه صدفة؟!
كان المساء قد حلّ، وهي تُعلق عينها، ما بين باب الغرفة والسقف تحاول أن تسترجع شيئًا مما فات، لكن خلدت إلى النوم، وعندما أغمضت عينها ظهرت امرأة، وقالت لها:
- سأساعدكِ، سأعلمكِ معنى صلاة بلا انقطاع؛ أن تذكري ربكِ في كل شهيق، وفي كل خطوة، وفي كل حركة، لكن عليكِ بعْد مساعدتي.
فقالت "أفراميا":
- وكيف أساعدكِ أنا؟!
فقالت تلك المرأة:
- بلغي عنّي في كل مجلس، وقولي: "لم تكن "مريم المجدلية" خاطئة.
فزعت "أفراميا" من نومها، ونظرت حولها؛ لا يوجد أي أحد، ولا أي شيء غير طبيعي، فقالت في عقلها: ما الأمر؟ ما أمر تلك التي تُدعى "مريم المجدلية"؟!، هذا لم يكن تهيؤًا، ولم تكن رؤيا، ولم تكن حقيقة، يبدو أنني مُجهدة! ونظرتْ ناحية التمثال الذي قد كُسِر من قبل، فلم تجد أي آثار للكسر، مما جعلها تقوم وتتحسسُ التمثال بيديها، فلا أثر لأي كسر!
دق جرس الغرفة، فكان أحد عاملين الفندق يريد إدخال الطعام لها، فطلبت منه "أفراميا" أن يشتري لها كتابًا يتحدث عن "مريم المجدلية"، وبعد أن أحضر لها العامل ما طلبت، وقد استغرقت في قراءة هذا الكتاب أكثر من ساعتين، وكانت إحدى فقراته تتحدث عن خروج الشياطين من جسمها: أي جسم المجدلية على يد "عيسى":
"كانت عجائز القرية أول من اشتم رائحته، وسرعان ما ركض بعض الأولاد ليزفوا النبأ: "إنه قادم.. إنه قادم"، وكان أهالي قرية "مجدل" يستاءلون بعد أن شرَّعوا أبوابهم: "من يا أولاد، النبي الجديد؟!".
امتلأت عتبات الدور بالنسوة الصبايا والعجائز، وترك الرجال أعمالهم، وقفز المرضى مرحًا واستعدادًا للزحف إليه، ولمْسه، وكان عندئذ قد اكتسب سمعة عظيمة في المنطقة، المجاورة لبحيرة "جنيسارت" كانت قدراته ينتشر خبرها من قرية إلى قرية، على لسان المصابين، والعميان، والمشلولين الذين كان قد شفاهم:
"لقد لمس عينيَّ الكفيفتين، فرأيت النور!"
"حالما أمرني أن أترك عكازيّ، أصبحتُ أسيرُ، بل بدأت أجري!".
"كانت حشود من الشياطين تنهش أحشائي، فرفع يده وأمرهم قائلًا: اخرجوا وحلوا في الخنازير، وعلى الفور قفزوا خارجين من أحشائي، يرفسون، وحلوا في الخنازير التي كانت ترعى بالقرب من الشاطئ، وجُن جنون هذه الحيوانات، وأخذ كل واحد منهم يعتلي الآخر، ثم اندفعت قافزة إلى الماء وغرقت!".
حين سمعت "المجدلية" الأخبار الطيبة هذه خرجتْ من كوخها، ولم تكن قد ظهرت على باب بيتها منذ أن أمرها "عيسى" بالعودة إلى بيتها، وعدم الخروج منه.
وولدت "المجدلية" من جديد؛ وفي الأيام القليلة الأولى كانت تضرب رأسها على الأرض وتعول، لكن مع مرور الوقت هدأت وخفَّ ألمها، والكوابيس التي كانت تراها اختفت، والآن في كل ليلة تحلم أن المسيح قد أتى وفتح الباب، وكأنه صاحب الدار، ويجلس تحت شجرة الرمان المزهرة.
كان قد قطع مسافة كبيرة، وقد هدَّه التعب، فكانت "المجدلية" في كل مساء تسخن له الماء، وتغسل له قدميه الطاهرتين، ثم تفترشُ شعرها وتجفف به، وبعدها رجع "عيسى" إلى قريته، وباتت "المجدلية" حزينة، تنتظر قدومه مُجددًا.
والآن بعد أن سمعت الأولاد يهتفون بقدومه، قفزت واقفة، وأرخت منديلها حتى غطى كامل وجهها، فيما عدا عينيها الكبيرتين، اللتين يحيط بهما السواد، ورفعت مزلاج الباب، وخرجت لتستقبله، وكانت السحب تغطي عين الشمس، وأُسدِل على وجه الأرض خمار رقيق من الظلمة، وبدأت تهطل خيوط رقيقة من المطر، واصلة الأرض بالسماء، فرفعتْ "المجدلية" عينها إلى نافذة بيتها، فرأت السماء تكفهر، فغمغمت: "الشتاء حلَّ بنا، ويجب أن أعطيه العباءة الصوفية -أي لعيسى-، ليرتديها ليدرأ بها عنه البرد"، ونظرت نحو حديقتها في الفناء، وكانت شجيرات الرمان قد ازدهرت واستوت، ومن قبل كانت ندرتْ كل ثمار الرمان إلى "عيسى"، وحين اقترب من بيتها أسرعت "المجدلية"، وقد نست أن تضع المنيدل على وجهها، وكان شعرها مسترسلًا على كتفيها، فاجتازت الفناء، وظهرت على عتبة البيت، ثم رأته، فأطلقت صرخة الفرح، وخرَّت عند قدميه، وهمست:
- يا معلم.. يا معلم، أهلًا بك.
فأمسك "عيسى" يدها، وأنهضها، فارتعشت "المجدلية"، واحمرَّت خجلًا، وأرسلت شعرها على صدرها لتستره، ونظر الجميع داهشين: "كم نحلتْ وشحب لونها، وكانت تحيط بعينيها حلقتان أرجوانيتان، وذبلت شفتاها الصارمتان...!".
والآن بدأت لأفراميا الحياة مختلفة، فسرعان ما ارتدت ملابسها وخرجت من الغرفة، وذهبت إلى كنيسة "مريم المجدلية" مجددًا، فإذا بالرجل القصير الذي قابلته في كنيسة القيامة يقف على باب الكنيسة، ويقول لها: "لقد أتيتِ في وقتكِ، ثم اختفى".
بدأ عقل "أفراميا" يتوقف عن التفكير، وجسدها يرتعش من القلق، فقررت الرجوع إلى مصر بلدها، حتى تعرض نفسها على طبيب نفسي، لأنها ظنت أنها في حالة غير طبيعية، ونظرت نحو يديها فإذا بالخاتم الذي أهداه لها ذلك الشاب صاحب متجر التحف، يبرق ويلمع، فقالت في نفسها: "قبل أن أغادر القدس يجب عليَّ أن أذهب وأودعه (أي أحمد)".
كان صباح اليوم التالي، وقد ودعت "آفراميا" كوابيس الليلة الماضية، وتركت روحها المصنوعة من صلصالٍ كالفخار على جدران الفندق، وذهبت في فرح وسرور إلى "أحمد" في متجره، كان يجلس إلى جوار حانوته، وينظر إلى الشمس بنصف عين، وقبل أن ينظر إليها قال في همسٍ مسموعٍ: "المجدلية!".
فتبسمت "أفراميا"، وقبل أن تمد يدها لتسلم عليه قالت له:
- أظن أني سمعتك صحيحًا هذه المرة! أنت قلتَ "المجدلية"!
فقام "أحمد"، ونظر نحوها وتبسم، ومد يديه ليسلم عليها ثم قال:
- أنا لم أقل شيئًا -يا سيدتي- غير كلمة "أهلًا".
فأستغربت "أفراميا"، وقد سحب لها كرسيًا لتجلس جواره، فقالت له:
- أنا غدًا سأرجع بلادي، وكان من الواجب أن أجيء إليك، وأشكرك للمرة الثانية على هذه الهدية القيمة "الخاتم".
- لا تشكريني، بل أنا من المفترض أن أشكركِ، لأنكِ جئتِ تودعينني قبل سفركِ.
- أيمكنني أن ألتقط معك ومع حانوتك صورة تذكارية؟
- أكيد.. هذا شرف لي ولمتجري، لكن لو تسمحين بعد التقاط الصورة أن أقدم لكِ فنجانًا من القهوة؟
- بالطبع، فأنا أحب القهوة جدًا.
بعد أن شربوا القهوة، وقد كانت الشمس تتعامد فوق رؤوسهم، وفي ابتسامة هادئة منها قالت له:
- القدس مليئة بالآثار الدينية، سواء للمسيحي أو المسلم، لقد قرأت كثيرًا عن هذا..
- نعم.. سيدتي، القدس مزار ديني للمسلم والمسيحي، فكلنا أخوة، وهي أيضًا مزار لليهود؛ ففيها كنيسة القيامة التي قد زرتِها يوم مقابلتكِ، فهي تقع داخل سور مدينة القدس، التي بنتها القديسة "هيلانا" والدة الإمبراطور "قسطنطين" كما تعلمين، وهي من أقدم ثلاث كنائس في العالم، وتتميز بأنها رمز الوجود المسيحي العربي والشرقي، أو ما يسمى "بالأرثوذوكس"، وتعتبر هذه الكنيسة مشتركة بين ثلاث طوائف "الرومان والكاثوليك، والروم الأرثوذوكس، والأرمن الأرثوذوكس"، حيث وقعت الكثير من الخلافات والمشاكل حول من يحتفظ بمفتاح الكنيسة، حتى احتفظ بالمفتاح عائلة مقدسية مسلمة! إلى اليوم كما تعلمين. ويوجد أيضًا "حائط البراق"، وهو عبارة عن حائط يحيط بالجهة الغربية من مسجد الأقصى، وبذلك فهو يعدُ جزءًا أساسيًا من الحرم القدسي الشريف، ويسميه اليهود حائط المبكى، وذلك لاعتقادهم أنه يعود إلى بقايا هيكلهم الذي لم يُعثَر عليه حتى الآن، ويعود سبب تسميته بحائط البراق نسبةً إلى حادثة الإسراء والمعراج، حيث ركب رسولنا، رسول الإسلام محمد -صلى الله عليه وسلم- البراق في حادثة الإسراء والمعراج، وعند وصوله إلى باب المسجد الأقصى ربط دابته بالقرب من الحائط الغربي من الحرم القدسي.
وأكيد سمعتِ عن قبة الصخرة؟
- نعم.. لقد قرأتُ عنها، لكن ممكن أن تحكي عنها.
يسمى أيضًا مسجد قبة الصخرة، حيث يتميز بقبته الذهبية التي تلفت نظر الشخص القادم من بعيد، كان أول من بدأ بتشييد قبة الصخرة هو "عبد الملك بن مروان" في العصر الأموي، حيث أراد أن يجعلها مكانًا لإيواء المسلمين الفارين من البرد، وهذه القبة هي أقدم مزار إسلامي، في تاريخ العمارة الإسلامية، وهي تقع في الجهة الجنوبية للمسجد الأقصى في قلب الحرم القدسي الشريف، وقد شُيدت بكونها مشهدًا يلائم الطواف حول الصخرة المشَرفة التي عرج النبي -صلى الله عليه وسلم-إلى السماء.
ويوجد "سور القدس"، وهو سور يحيط بالمدينة القديمة، التي تسمى البلدة القديمة، ويوجد به عدة أبواب -على سبيل المثال-: باب العامود، وباب الخليل، وباب المغاربة، وباب الساهرة...
آنذاك قد سيطر على "أفراميا" التعب والإرهاق، فطلبت من "أحمد" أن ترجع إلى الفندق، لتعدُ نفسها للسفر والرجوع إلى مصر.
تركتْ المتجر، وانطلقت بسيارة أجرة إلى الفندق، وفي الطريق -وقبل أن تصل إلى الفندق وقد طلبت من السائق أن يتوقف-، ثمة جبل؛ رماله تميل إلى الصُفرة، وكان الجو ممتعًا ليجعلها تنظر إلى هذا الجبل، فانزوت بين الشجر الذي يسوّر الجبل تحتسي فنجانًا من القهوة، وأخذت تستمتع بجمال الطبيعة، وترنم بصوت منخفض، وتنظم أشعار روحية تأخذها إلى عالم من التخيلات.
بعد أن استمع "يوحنا" لكلام الدكتور "أمجد" طلب أن يدخل غرفتها، ليصلي لها عساها أن تُشفى.
قرع الباب بلطف ثم دخل، فوقفت "أفراميا" احترامًا لجلاله ووقاره، فقال لها:
- ما الذي حلَّ بكِ يا ابنتي؟ وما الذي أعياكِ؟
فقالت له بعد أن ركعتْ أمامه:
- ألتمس بركتك ورضوانك، صلِ من أجلي.
فرفع "يوحنا" يمينه، وتلا عليها هذه الصلاة: "الثالوث القدوس الذي صنعكِ على صورته، ومثاله، وافتداكِ بدم الابن الحبيب، وقدَّس ضميركِ برش الدم الطاهر، وجدد خِلقتكِ بالقيامة المجيدة، ليملأ كيانكِ بالنعمة الإلهية، وينصركِ على الأهواء والشهوات والرغبات الممقوتة، وكل القوى الشريرة، لتعيشي كل حياتكِ هيكلًا مقدسًا طاهرًا للثالوث المحيي".
بعد أن فرغ "يوحنا" من الصلاة مسح بيده فوق رأسها، وقال:
- اعلمي أن وجودكِ على الأرض مؤقت، فكّري في هذا بلا انقطاع، متذكرةً الموت، تعرفي أن كل مجد الدنيا زائل وباطل، وأن انسلاخ الإنسان عن الدنيويات هو بداية طريق شاق يوصِّل إلى النعيم الأبدي، فانفصلي عن الدنيويات، وضعي المسيح نصبَ عينكِ ليل ونهار في شوق الأم الحنون إلى رضيعها، ترثي الملكوت الأبدي.
تنهدت "أفراميا" بعد أن طابت نفسها لكلام "يوحنا"، وقالت له:
- سأحاول أن أعود كما كنت.
وقالت في نفسها، وهي مطمئنة:
"أيتها النفس المسيحية، شدي العزم ولا تكُفِّي عن تلاوة صلاتكِ، حتى ولو أتى نداؤكِ من قلب ما زال في حرب ضد نفسه، من قلب نصفه ملآن بحب العالم، لا تدعي مجالًا للصمت، ولا تضطربي؛ إن صلاتك ستظهر من ذاتها.. "إن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم" (يوحنا - ٤:٤).
وعادت واستكملت كلامها مع "يوحنا"، ومن قبل قد علمت أن الدكتور "أمجد" قال له (أي ليوحنا) ولعمِها ما سمعه منها، فركعت مُجددًا أمامه، وقالت له:
- ما سمعته أنت من الدكتور حدث معي بالفعل، ولم أكن مجنونة أو ممسوسة، ولم يكن هذا تهيؤًا، لكن حدث معي شيء آخر لم أحكِه، وهو أنني رأيتني أثناء وجودي في القدس -وكان هذا في آخر يوم لي هناك-أرتدي ثيابًا أبيض مائلًا إلى الزُرقة، ومعي بين يديَّ كتاب مكتوب على غلافه "الكتاب المُبين"، وداخله مجموعة من الكلمات أخذت أقرؤها، فتبين لي أن هذه الكلمات عن الدين الإسلامي!
سكت "يوحنا" عن الكلام بعد أن نظر إليها، وأغمض عينه.
"الوثبة الثانية"
**زوال المؤثر وبقاء الأثر**
"حيث كل شيء فارغ إلا من معناه".
في صباح اليوم التالي لأفراميا في المستشفى، وهي طيلة الليل تمد جسورها إلى سماء نازفة، وتداوم معراجها صوب مقامات الحال، وبعد أن خرج الفجر يتلصص من تحت سماء الإبطين، وتجول بحُرية في حديقة الغرفة، وظلال من الخوف، تتأمل جسدها فوق الأسرَّة البيضاء التي تحيط بها، يتناوب عليها ذوات الرداءات البيضاء في رتابة، والوجوه المُرتعشة، ورائحة الأدوية، والمراهم، والأنفاس المتقطعة.
استيقظتْ مذعورة، ومن قبل قد أجهشتْ بالبكاء، وهي تنزع الجسد إلى الوحدة، وتنزع الوحدة إلى مرايا الغرفة المُغلقة، ونظرت إلى ساعتها، لم تكد الساعة تبلغ الخامسة صباحًا، لكنها لم تشعر بالنعاس بعد، لذلك استوت في سريرها، حاولت أن تجمع أفكارها، لكنها لم تكن تصل إلى التركيز على فكرة حتى تنتقل إلى أخرى، تراءى لها ما يشبه الدخان يجوب أنحاء الغرفة، حتى استقر فوق الصليب الذي وضعته من قبل فوق أحد أعمدة السرير، وكان الدخان يرسم شكل بئر قديمة، يحرسها رجل غليظ، أصلع، ذو لحية بيضاء تكاد تُغطي صدره، وعلى مسافة بضعة أمتار جِئن بعض النسوة متسربلات بعباءات سوداء، وقدَّمن لهذا الرجل فتاة صغيرة لا تتجاوز العشر سنوات، فاقترب الرجل من هذه الفتاه، وانتزع فستانها الذي تمزق على الفور، وقبل أن تتمكن من ستر عريها بيديها، كان قد غرز الرجل إصبعين بعنف بين فخذيها، ثم رفعهما أمام النسوة، حتى رأين الدم يصبغ إصبعين الرجل، وحينما كان السائل القاني ينزلق على طول فخذي الفتاة، وهي تصرخ، وتحاول ستر عُريها، كانت تجلس على الطريق المُقابلة امرأة ترتدي ثوبًا أحمر، وبدأت تنكمش أسارير وجهها لغضبها مما حلَّ بالفتاة، فنهضت وصرخت في أوجه النسوة، وانتصبت كالنخلة في وجه الرجل، وألقت شالها الوردي فوق جسد الفتاة، واحتضنتها، وقالت لها: "لا تخافي يا أفراميا.. لا تخافي"، وأخذت الفتاة، وذهبت إلى قبر المسيح، وأخذت المرأة بعضًا من تراب القبر ووضعته فوق رأس الفتاة، فتكلمت الفتاة:
- أنا تسمي "آنجل"، وليس "أفراميا" كما دعيتِني!
فقالت لها المرأة بعد أن تبسمت:
- أنتِ الآن اسمكِ "أفراميا"، لكن لا تخبري أحدًا، الآن دعيني أتصبب فيكِ وأحل في جسدكِ، وأنطلق نحوكِ كفراشة الجسد المسكون بغواية الجسد، وأقطف غيمة برية، وأتشح بالضوء وبالإقامة، فلا تعبئي بي، ولا تنظري إليَّ، فهذه ساعة الإقامة في مدار الثبوت.
أخذت المرأة الطفلة، ودخلن دهليزًا يتلو دهليزًا، سردابًا يتلو سردابًا، وأجنحة لملائكة بيض ترقص وترف حولهن...
قالت المرأة:
- سأرسم وقْع خُطاكِ دمًا وشموسًا من الصلب، معروشة فوق قبة جسمي، والنجمة المستفيقة في الغيم نوارة لزمان مضى، وزمان يجيء!
فقالتْ لها الفتاة:
- الآن أنا أقفُ في مكمنٍ ضيقٍ حرجٍ، أراقب تفتح الجسد لصلب الجسد، وامتلاكه زهرة الشهوة الرابية، وتتويج الأنوثة المنفرط على طرقات الليل الصلبة، في سماء بعيدة لا تشرقُ فيها شمس، ولا التقى فيها بقمر إلا بمقدار، فلا تتقابل المسارات.
ذهبت المرأة بعدما غسلت "آنجل" بطهرها، فتفككت لديها عُرى الرؤى، فلم يتبقَ لها سوى الصحراء العريضة، وقبر المسيح، والجلجثة، فذهبت إلى الجلجثة، وصرخت حتى اهتز التراب من تحت قدميها، فاستندت على الصليب بجذعها، وقدمتْ القرابين؛ كأس من دموعها الطاهرة، ثم أخذت تطفقُ في الأرض، فلا تعرف أي طريق تسلكها؟ وأي الدروب تجدها مفتوحة لتفر إليها؟ وتقدمت نحو مجموعة من القوم وصدارة ثوبها ما تزال محلولة، فإذا بالقوم اختفوا، ولا أثر لهم.
غابت الشمس، وأشرق الليل بعباءته الفضفاضة، وكانت "آنجل" كشجرة فككتها السماء عروقًا من ذهبٍ المتوهج في الليل، فاستراحت بجانب صخرة، وهي مُتخفية عن عيون البصاصين من الطيور، والأنعام، ونظرت نحو السماء وجدت عراجين وشُهبًا وممرات وعرة، فقالت في قلبها: "تمت لك النعمة والمجد".
فإذا بالمرأة ذات الثوب الأحمر تأتيها، وفي يدها تحمل عطايا وقطوفًا، وقالت لها:
- أنا أنتِ وأنتِ أنا، وما بيني جسدي وجسدكِ أكبر مما بين السماواتِ والأرضِ، من تفاوت وكلام هو كلام البرازخ، ولكنكِ لا تعرفين، أي كلام هو لي، وأي كلام هو لكِ، فلا يفكُ رموزه إلا أصحاب الضحى والليل، ولا يقترب من شفرته إلا أولو العزم، ها هي أحوالي أتقلب فيها كما أشاء، ولي فيها من العذاب بقدر ما لكِ فيها من نعمة، فمن الآن ارتقي فيها درجكِ، فابحثي عنّي في زمان ليس للزمن بشيء، وبمكان حيث لا مكان، وأقيمي صلواتكِ وقدمي أدعيتك، واذبحي قرابينك، إلى أن تتشقق الأرض ويتفجر منها الماء، واجمعي الشمس والقمر حولكِ، ولا تنسي القداس الأكبر حين يجتمع الخمر والخبز فوق حنطة يدكِ!
فزعت "أفراميا" لِما رأته حيال الدخان المُتجمع فوق الصليب، وأخذت تصرخ صرخات مجنونة، تجمع بعدها الأطباء، ودخلوا غرفتها، في حين كانت هي تضع كفيها على عينها لتسد بهما نظرها، كانوا الأطباء أعدوا لها مهدئًا لتنام.
كان الدكتور "أمجد" يتعجب لحالة "أفراميا"، ويقول: "يوجد قوى كبيرة تؤثر في عقلها، وهذه القوى تكمن في تجسيد شخصها في شخصية "مريم المجدلية"، وهذا الأمر يطول علاجه، ولا بد من محو شخصية المجدلية من عقلها!"، فأخذ يجمع معلومات عن "مريم المجدلية". الذي استُصعب عليه في بادي الأمر كونه مسلمًا، لكن مع الوقت قد كوّن "أمجد" إيضاحًا كاملًا عن شخصية المجدلية، وبدأ علاجه الفعلي لأفراميا.
عندما كانت "أفراميا" تحاول أن تقضي طيلة ليلها، وهي مستيقظة تمامًا، حتى تأتيها السيدة ذات الرداء الأحمر "المجدلية"، وكانت تنعم بالنوم طوال النهار، كان العم "بطرس"، وصديقه "يوحنا" يقيمان الصلاة من أجلها طيلة فترة العلاج، والدكتور "أمجد" ما زال يدرس هذه الحالة، وكانت "أفراميا" ترتاح للحديث مع "أمجد"، مما شجعه للحديث معها حول "المجدلية"!
كانت "أفراميا" تحتسي فنجان القهوة الذي اعتادته كل صباح، وكان "أمجد" يجلس بجوارها يقرأ في كتاب، ودون أن ينظر إليها قال لها:
- ماذا تعرفين عن "المجدلية"؟
سقط الفنجان من يدها، وتمتمت:
- أ أ أ أنا هي وهي أنا!
لم يبدِ أي أستغراب، وقال مُجددًا:
- ماذا تعرفين عن "المجدلية"؟
قفزت "أفراميا" بسرعة، وأخذت تدور في الغرفة، وأومأت برأسها ناحية الصليب، وقالت له:
- أنا هي وهي أنا!!
فنظر "أمجد" نحوها وتبسم، بعد أن قام واتجه ناحيتها وقال:
- إذًا أنتِ المجدلية؟
- نعم.. أنا المجدلية.
- أنتِ المجدلية! إذًا من تكون أفراميا؟
- أنا أيضًا أفراميا، وأيضًا آنجل!!
- من هذه التي تُدعى آنجل؟!
- الطفلة التي نال من شرفها ذلك الأصلع! أنا مريم، وأنا الطفلة، وأنا أفراميا، أنا من شاهدتُ قيامة المسيح، وأنا الطفلة التي تغسلت بطهر مريم، وأنا أفراميا التي حلَّ بجسدها جسد مريم..
- نبدأ الأول بمريم المجدلية، أنتِ رأيتِ المسيح؟
- لم أرَه يهبط، لكن رأيته يصعد، ومن قبل كنتُ رأيته في رؤيا، وقلتُ له: "يا رب، لقد رأيتك اليوم في رؤيا"، فقال لي الرب: "مباركة أنتِ، لأنكِ لم ترتعشي لرؤيتي، لأنه حيث يكون العقل يكون الكنز"، فقلت له: "كيف يرى الرؤيا من يراها، من خلال الروح أم من خلال النفس؟"، فأجاب المُخلص وقال: "لا تُرى من خلال الروح أو النفس، ولكن العقل الذي بين الاثنين هو الذي يرى الرؤيا".
فقال لها "أمجد":
- ما اسم أخيكِ؟
ضحكت بصوتٍ عالٍ استرعى انتباه "أمجد"، وقال لها:
- ما الذي يُضحككِ؟!
قالت له:
- تذكرت موقفًا حدث لي مع أخي "العازر"، وأنا صغيرة؛ أضيئت سماء مجدل بلون أبيض مائل للزُرقة، كانت بلدة مجدل هاجعة تحلم، وكوكب نجم الصُبح يقرع أجراس الوقت فوق مضاجعها، وأشجار الليمون والنخيل لا تزال مُلفعة بغلالة زرقاء وردية.. الصمت عميق لا يسمع حتى صياح الديك، وكان التراب ناعمًا ورطبًا بين أصابع قدمي، وكنت وقتها أعلم أن ساقيَّ عاريتان تمامًا، وملطختان بالطين، وكان شعري الأسود يتدلى على خصري النحيل، وكنتُ أرتدي فستانًا فضفاضًا، كنتُ قبل ذلك قد حاولت أن أنسل خفية من البيت، لكن اعترضتني زوجة أخي "لعازر"، وقالت لي: "إلى أين تريدين الذهاب بهذا المنظر؟ فضحكتُ وقلتُ لها: "إني خارجة إلى الحديقة، وهي مُسيجة كما تعلمين، فلن يراني أحد"، فقالت لي زوجة أخي: "لا يليق بامرأة مثلك أن تترك العنان إلى نفسها بهذا الشكل، وأخوكِ سيعود قبيل الغروب، ولو رآكِ بهذا الشكل سيغصب منكِ!". ذهبتُ إلى الحديقة، واستمتعتُ بهوائها، والنسمات العابقة فيها الممزوجة بنسيم بحيرة طبريا، وخلوتُ بنفسي، بين الزهور، وكم أنا أحبُ تلك اللحظات التي أختلي بها بنفسي، مع أشجار الزيتون! كان أخي قد عاد إلى جالمنزل، وسأل عليَّ، فكنتُ أنا أغوص وسط الزهور البرية ولا أعبأ بالوقت، الأمر الذي أدعاه للذهاب إلى الحديقة، فوجدني مستلقية على الأرض أحتضن الزهور، فاقترب منِّي وشدَّني من شعري، ولكمني في كتفي، وبعدها ضحك واحتضني، ورجعنا إلى بيتنا.
فقال لها "أمجد":
- وماذا عن قصة العشاء الأخير؟ ألا يكون بمقدورك أن تحكي عنه إن كنتِ أنت المجدلية؟
صمتت "أفراميا" لبرهة ثم استدارت، وأمسكت الصليب، وقالت له:
- كانت ليلة تهبُ فيها الرياح الدافئة تحمل معها أريج الأشجار المتبرعمة، وكانت النجوم عقودًا من اللؤلؤ تحيط بجيد الليل. ترك المسيح تلاميذه في تلك الليلة، ليشاورني في انفراد، ولما انتهى قال لي:
- لا تخافي مما سيحدث.
فتأملتُ وجهه، وكان المسيح عادة لا يكشفُ رؤياه لتلاميذه، لكنه لم يخفِ شيئًا عنِّي، فسألته بهدوء:
- ما الذي تراه يا عيسى؟
فقال:
- أرى أن الله الذي في السماء رسم لنا دربًا علينا اتباعه، حتى إتمام النبوءات، إذا كانت تلك مشيئته.
كنتُ أعلم أن المسيح سيقتله شعبه؛ فالنبوءات صريحة في هذا.
وخطر ببالي وقتها الحاكم "بيلاطس البنطي"، فسألت عنه "عيسى"، وقلت له:
- أنت شفيتَ ابنه، وقد رآك، فماذا عنه؟
فقال لي "عيسى":
- اصغي إليَّ جيدًا -يا مريم- ما سأقوله مهم جدًا، لفهم طريق الناصريين، الله يرسم خطته ويضع كل إنسان في مكانه، لكنه لا يجبر الناس على العمل، ومثل أي سيد صالح يوجه الرب عبيده، لكنه يمنحهم حرية الاختيار بأنفسهم.
فقلتُ له:
- أتؤمن أن الله وضع "بيلاطس البنطي" في هذا الموقع؟
فهز عيسى رأسه، وقال:
- أجل.. "بيلاطس" وزوجته الصالحة وابنهما.
- وماذا إذا كان "بيلاطس" سيختار مساعدتنا أم لا، فذلك ليس بأمر من الله؟
أومأ "عيسى" قائلًا:
- الرب لا يُملي علينا ما نفعل يا مريم، إنه يرشدنا فقط، وعلى كل شخص أن يختار سيّده، وذلك يعني الاختيار بين مشيئة الله والرغبات الدنيونية في آن واحد، فملكوت السماوات يأتي إلى الذين يختارون الله، ولا أستطيع أن أعرف أي سيد سيختار "بيلاطس البنطي" عندما يأتي ليختار..
فهمتُ وقتها كلام "عيسى" جيدًا، وتابع هو كلامه بقوله:
- رئيس الكهنة وأنصاره مصممون على القبض عليَّ، ونعلم أننا لا نستطيع تجنب ذلك، لكننا سنطلب أن يرسلوني إلى "بيلاطس"، وسأدافع عن قضيتي أمامه، وهو يقرر بناءً على إيمانه وضميره، فعلينا أن نكون مستعدين لتقبل أي قرار يتخذه، فمهما يكن القرار يجب أن نثبت بتصرفاتنا ما نعلم.
فقلتُ له:
- ألا يمكننا مغادرة أورشليم الليلة، والعودة إلى التبشير من خلال تلال جبل الجليل؟
فقال لي "عيسى":
- أنتِ تقولين هذا يا مريم؟! أنتِ أكثر من يعلم أن الناس ينظرون إلينا من كثب الآن، وعليَّ أن أكون قدوة لهم.
تفهمتُ الأمر جيداً من "عيسى"، فقلتُ له:
- ما العمل؟
- اسمعيني -يا مريم- ظهوري في الهيكل سيكون في غاية الخطورة، وسيُعرِّض الكثير من الأبرياء للأذى في حال حدوث شغب! وقال أيضًا: الليلة عشاء الفصح، والليلة سأعطي تعليماتي لكلٍ من تلاميذي حول دور الرسالة، وبعدها سأسلم نفسي لسلطات الهيكل..
- أنت يا عيسى ستسلمُ نفسك؟!
- لا، لا، لا.. لا يمكن أن أفعل هذا، ولو حدث الأمر كذلك سيفقد الناس إيمانهم، لكن يجب أن أحرص على أن يُلقَى القبض عليَّ بعيدًا عن المدينة، ومن دون إراقة دماء، سوف أجعل أحد أتباعي يخونني، ويذهب إلى جماعة الهيكل، ويدلُّهم على مكان وجودي، وسوف يأتي الحرس إلى "الجتسمانية"، حيث لا توجد حشود من الناس، ومن ثم لن يحدث شغب.
- من هو؟ مَنَ جماعتنا؟ من يجرؤ على فعل هذا؛ بطرس أم أندروس أم فيليبس، ولا برتلماوس؟
- بل يهوذا!
وبعد ظُهر اليوم اجتمعوا كما كان مُقررًا لعشاء العيد معًا، عيسى وتلاميذه المختارون الاثنا عشر، وأنا معهم.
بدأ "عيسى" اللقاء بطقس التكريس، وعلى طريقته الخاصة فقلب الأدوار، وقام هو يغسل أقدام كل من في الغرفة، وشرح لهم أنه فعل ذلك، ليثبتُ لكل منهم أنه كرسول ذي رسالة خاصة، هي التبشير بكلمة الملكوت:
"لقد جعلت من نفسي قدوة، لتصنعوا أنتم أيضًا ما صنعتُ لكم، ولتقروا بأن الآخرين مساوون في عيني الله، وأعطيكم الليلة وصيّة جديدة؛ أحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم، وإذا أحب بعضكم بعضًا عرف الناس جميعًا أنكم تلاميذي".
بعد أن غسل "عيسى" أقدام جميع أتباعه الموجودين في الغرفة قادهم إلى مائدة عشاء الفصح، وأخذ الخبز غير المُختمر، وباركه، ثم كسره، وقال:
خذوا فكلوا، هذا هو جسدي، وأخذ كأس خمر وشكر، وناولهم إياها قائلًا: "هذا هو دمي؛ دم العهد الجديد الذي يُراق من أجل كثيرين".
جلستُ وأنا صامتة، فأنا أعلم ما سيجري بعد، فعندما يُعطي "عيسى" العلامة ليهوذا، سيغادر "يهوذا" العشاء، ويذهب عند "يائيرس"، وسيأخذه "يائيرس" إلى "حنان وقيافا"، ويقدّمه لهما على أنه الخائن، وسيطلب "يهوذا" ثلاثين قطعة من الفضة، وفي مقابل ذلك سيقود الكهنة إلى مكان "عيسى"، حيث يمكن اعتقاله بسهولة بعيدًا عن شغب أبناء المدينة.
كان التوتر واضحًا على وجه "يهوذا" لمن يستطيع ملاحظة ذلك، ولم يُطلع "عيسى" بقية تلاميذه على تلك الخطة، لأنه لم يشأ المجازفة، فهو لم يُرد أن يناقشه أحد بأمرها، ولا أن يحاول أحد مقاومة اعتقاله.
وبعد ذلك سأتولى أنا إثبات براءة "يهوذا" أمام التلاميذ.
توجه "عيسى" إلى "يهوذا"، وناوله قطعة خبز مغمسة بالخمر، وأعطاه الإشارة المقررة بقوله: "افعل ما أنت فاعل، وعَجِّل".
فهبَّ نسيم قدسي تفتحت فوقه أبواب السماوات المزدهرة عن حشد كثيف من النجوم، وفي الأسفل، وعلى الأرض كانت الحجارة مُلتهبة، وتتبخر من بحر النهار القائظ، وشملت السماء والأرض عذوبة وسكينة.
فغاص قلبي ألمًا حين رأيت "يهوذا" يغادر الغرفة، ونظرتُ إلى "مريم" أمه العظيمة، كانت أيضًا تراقب "يهوذا"، وهو خارج من الباب، وبيديه مصير "عيسى".
أتى الحراس بعدد ضخم من الجنود، وفي آخر الليل ظهر "يهوذا" على التلة، ومعه جنود رئيس الكهنة، وحدث اختلاط واضطراب حين وصلت تلك العصابة المُسلَّحة لاعتقال "عيسى"، فذهب جميع النساء يرقبن الموقف بعد أن أشعلن النار إزاء التلة، إلا أنا كنت بجوار "عيسى".
هبّ "بطرس" -أحد تلاميذ عيسى- من مكانه، واستلَّ سيف أحد الجنود، وقال:
- سندافع عنك يا مُخَلِّص.
وضرب خادم رئيس الكهنة، وقطع له أذنه، ونزف الدم منه بغزارة.
نهض "عيسى" بسرعة، ومشى بهدوء نحو المجموعة، وقال "لبطرس" ولباقي التلاميذ:
- كفى يا إخوتي..
ثم توجه إلى رئيس العصابة المُسلحة بالقول:
- ضعوا سلاحكم جانبًا؛ لن يؤذيكم أحد.
توجه "عيسى" إلى الرجل المقطوعة أذنه (مَلخُس) الذي قد خرَّ على الأرض، وألصق رداءه بأذنه لامتصاص الدماء، فوضع "عيسى" راحته على أذن الرجل ورفعها، وقد شفيت أذن الرجل.
تقدم أحدهم، وكان يبدو من الشارات التي على لبسه أنه رئيس المجموعة، وسأل "عيسى" بالآرمية:
- هل أنت عيسى الناصري؟
فأجابه "عيسى" باليونانية:
- هو أنا.
توجه بعض الأتباع إلى "يهوذا " بالأسئلة والاتهامات، وكان "عيسى" قد أمره بعدم الرد إذا حدث ذلك.
ظل "يهوذا" صامتًا، لكنه دنا من "عيسى"، وقبَّله على خده آملًا أن يفهم التلاميذ من ذلك أنه مُكلف بفعل هذا.
كان الجو باردًا، وخدم قصر "قيافا" يتدفئون أمام نيران أشعلوها في الفناء، وكان اللاويون يفِدون من الداخل باستمرار، حاملين التقارير، لقد كان دليل إدانة "عيسى" كافيًا لجعل شعر الرأس يقف!
فهذا الذي نزلت عليه اللعنة الإلهية قد تلفظ بالتجديفات كذا، وكذا في حق رب إسرائيل، وفي حق ناموس إسرائيل، وقال: "إنه سيدمر الهيكل المُقدس".
تسلل "بطرس" متدثرًا بملابس ثقيلة بعد أن سمع تقارير إدانة "عيسى"، إلى الفناء، وجلس خافضًا رأسه، حتى لا يتعرف إليه القائد.
آنذاك انتاب الخوف من "بطرس"، فنظر إلى أحد الحراس وقال:
- أقسم بالله ما أعرفه!
ووجه رأسه إلى الجهة الأخرى وقال:
- أنا لا أعرفه!
ومرة آخرى أنكر معرفته بعيسى حين سأله أحد الخدم عن صلته بعيسى فأنكر، آنذاك صاح الديك، وتذكر "بطرس" كلام عيسى:
"قبل أن يصيح الديك ثلاث صيحات، سوف تنكرني ثلاث مرات".
فذهب "بطرس" إلى أول الطريق، ووضع رأسه في الأرض، وناح بالبكاء.
بدأ النهار ينبلج، وقد تحوَّل لون السماء أحمر دمويًا، فاندفع لاوي شاحب البشرة، خارجًا بسرعة من القصر صاخبًا، وقال:
- الكاهن الأعلى يمزق ملابسه، لأنه سمع أحدهم يقول "أنا المسيح"!
ثم ظهر لاوي مرة أخرى وقال:
- الذي يحق له إصدار أمر موت هذا الرجل هو "بيلاطس"!
فُتحت الأبواب، وخرج منها نبلاء بني إسرائيل، خرج أولًا وبخطى وئيدة الكاهن الأعلى "قيافا" بأناقته المفرطة، ومن خلفه كبار القوم بلحاهم الكثّة، وعيونهم الخبيثة المشوهة، وأفواههم الدرداء... كانوا جميعًا يترنحون من شدة الغضب، وخرج "عيسى" بعدهم هادئ الخُطا، لكنه حزين.
حينها ضج الفناء بصيحات الاستهزاء والضحك، وصب اللعنات على "عيسى"، ونادوا بأن يُقتل حتى لا تكبر الفتنة.
كان "بيلاطس" قد استيقظ من نومه، واغتسل ومسح نفسه بزيت "روما" نطيقي الرائحة، ثم أخذ يمشي بعصبية؛ كان يكره يوم الفصح، لأن اليهود كانوا فيه يسكرون، وتصيبهم حالة من الهذيان، ويتشاجرون مع الجنود الرومان، بالإضافة إلى أن العبرانيين يريدون صلب هذا الناصري.
شدَّ "بيلاطس" على قبضته، كانت تمتلكه رغبة في عدم صلب هذا الناصري.
سمع "بيلاطس" صوت جلبة عظيمة تدور حول نوافذ البرج، أطل من النافذة إلى الخارج، فرأى فناء قصره قد امتلأ باليهود، ورأى الحشود مسلحة بالعصي والمقاليع، ترفس "عيسى" وتصيح هازئة به، وكان الجنود الرومان يحرسونه، وهم يشقون طريقهم نحو الباب.
ولج "بيلاطس" إلى الداخل، وتربع على عرشه المنحوت بفظاظة ثم فتح الباب ودفع الحراس "عيسى" إلى الداخل، كانت ملابسه ملطخة بالدماء، لكنه كان يرفع رأسه إلى أعلى يلمع في عينيه بريق أخَّاذ.
ابتسم" بيلاطس" وقال:
- ها أنت تمثل أمامي مرة أخرى يا "عيسى"!
كان "عيسى" لا ينظر إليه، وكان رافعًا نظره، ومُوجِّهه إلى السماء.
غضب" بيلاطس"، وقال:
- دعك من السماء، وانظر إليَّ! أنت تعلم أن مصيرك بيدي، وأنا الوحيد الذي بإمكانه إطلاق سراحك..
أجاب " عيسى" بهدوء:
- ليس لك أي سلطة عليَّ، لا سلطة إلا للرب.
وفي الأسفل ضج المكان بالصراخ، والجلبة الهستيرية، فسأل "بيلاطس" عيسى:
- لماذا هؤلاء مسعورون على قتلك؟! ماذا فعلت لهم؟
فقال" عيسى":
- لقد أظهرتُ لهم الحق.
- أي حق يا "عيسى"؟
- أنت تعلم -يا بيلاطس- ما هو الحق!
نادى" بيلاطس" الحراس، وأمرهم بأن يجلدوا "عيسى"، وأن يتوجوه بإكليل من الشوك.
الحراس بعيسى، وربطوه إلى عمود، وأخذوا يسوطونه ويبصقون عليه، ثم ضفروا له إكليلًا من الشوك، وألبسوه إياه تاجًا على رأسه.
أخذ الناس يجأرون قائلين: "اصلبه.. اصلبه".
فقال "بيلاطس":
- أعطوه صليبه.
فألقوا صليبه على ظهره، وجروه إلى "الجلجثة"، حيث مكان صلبه....
كان الدكتور "أمجد" قد صغى جيدًا لأفراميا، واستمتع معها بالرحلة التي خاضتها في تجسيد "مريم المجدلية"، ويبدو أنه قد قرأ هذه الأحداث من قبل، لكن كانت "أفراميا" تقص الحكاية، كما لو كانت هي "المجدلية" فعلًا، فطلب من "أفراميا" أن يستكملا غدًا.
كانت "أفراميا" وقد دخل عليها الليل، وبعد أن طلبت من الدكتور "أمجد" بعض أقراص المنوم؛ كونها لا تريد السهر هذه الليلة. وهي جالسة على سريرها وقع شعاع من الأنوار الخارجية على المنضددة الصغيرة قرب السرير، فتناولت بعص أقراص المنوم، راحت تتقلب في الفراش، لقد جاءها الحلم قاسيًا رهيبًا، وبلا استئذان!
بدأ الحلم كعادته صاخبًا، وهي تتصبب عرقًا...
في يوم مُشرق هادئ على ضفاف بحيرة "طبريا"، كان ولد يعدو متقدمًا على أمه الجميلة، وعلى العكس من أخته الصغيرة، لم يكن يشبه أمه في عينيها العسليتين البراقتين، وشعرها الأسمر كان ذا هيئة مختلفة، داكن البشرة، شديد السمرة، أخذ يركض نحو الشاطئ، وتناول من الأرض حجرًا لفت نظره، وراح يرفعه ليلمع تحت الشمس، نادته أمه وحذرته من الاقتراب من الماء، لم تكن في ذلك اليوم ترتدي الخمار، فكان شعرها المرسَل الطويل يتطاير حول وجهها، وهي تمسك يد البنت، كانت البنت تشبه أمها كما لو كانت هي، وفجأة تركت الأم يد البنت، فجرَت البنت وأمسكت الولد الصغير، وذهبا إلى البحيرة، والأم تصرخ صرخات جلبة، لكن اختفى الولد والبنت، فجاءتها امرأة ترتدي ثوبًا أحمر قانيًا، وطيَّبت خاطر الأم، وقالت لها: "لا تخافي؛ ابنتكِ وابنكِ بخير.. لا تخافي"، وهُيِّئ لأفراميا أنها هي المرأة ذات الثوب الأحمر، وتقول لنفسها: "تعالي.. أنا أنتظركِ ليحل جسدي في جسدكِ مجددًا، أنا أنتظركِ في كنيسة القيامة".
كان الدكتور "أمجد" يجتمع مع زملائه لمناقشة حالة "أفراميا"، فقال لهم: "لقد غدا ارتباط "أفراميا" بأسطورة مريم المجدلية قوة مهيمنة على حياتها منذ تلك الرؤيا التى رأتها في القدس، ومن ذلك الحين أصبحت هي في نفسها مريم المجدلية!".
في اليوم التالي بعد طيلة عناء تكبَّدته "أفراميا" لسهرها في الليلة السابقة، دخل الدكتور"أمجد"، وقال لها:
- صباح الخير أفراميا.
- صباح الخير "أمجد"، أنا أريد أن أخرج من المستشفى، أنا لا أرى أي معنى لوجودي هنا! فأنا كالظل الواقف فوق جدار الشرفات الناحلة؛ ظلي يتغافل عنّي، وأنا أتكاسل عن ظلي، وأتوجع في داخل أعضائي، وأنكسرُ مثل الأشجار المصروعة في يوم عاصف.
- انتظري يا أفراميا، حتى نطمئن عليكِ، وبعدها تخرجين.
- لا، لا، لا أقدر تحمُّل الوحدة هنا، فأنا أتأرجح فوق فراش من الثلج، ما بين النوم والصحو.
فأنا كالهرة التي تتمسحُ في أركان الغرفة الكئيبة، وأتموأ كذئب يعوي في صحراء الصيف، حيث الفراغ الكبير، ولا بد من ترتيب حالي قبل السفر!
- أي سفر يا أفراميا؟!
- السفر إلى القدس، لقد طلبتني المجدلية لمقابلتها في كنيسة القيامة..
فسألها "أمجد":
- طلبتكِ المجدلية؟! إذًا أنتِ لستِ المجدلية، صحيح؟
- لا.. أنا المجدلية، لكن جسدي موجود في القدس، وجسدي طلبني ليحل داخلي.
- أفراميا.. أنا متأكد أنكِ تمزحين، وكل ما حكيتِه بالأمس كان مزاحًا؟
- أنا لا أمزح يا أمجد، وما قلته كله صحيح!
- أعلم -يا أفراميا- أن كل ما حيكتِه صحيح، لكن ممكن أن تكوني قرأتِه في الكتب، لكن لم ولن تكوني أنتِ المجدلية، فالمجدلية ماتت منذ ألفي سنة، وما أنتِ إلا أفراميا!
صرخت "أفراميا" في وجه أمجد، وقالت له:
- اخرج من الغرفة.
ومسكت الصليب كي تدافع به عن نفسها، فبدأ "أمجد" يطاوعها في الكلام، وقال لها:
- ممكن أن تكلميني إن كنتِ حقًا أنتِ "المجدلية"، كيف ذهبتِ إلى المسيح في محبسه؟!
هدأت "أفراميا"، وتنفست النقاء، واستراحت على سريرها بعد أن أحضر "أمجد" فنجانًا من القهوة، وجلس معها.
وقالت:
- سأقول لك كيف ذهبت إلى عيسى..
كادت الشمس تلمسُ أسس السماء، ووهنت حرارة النهار، وهدأت الرياح، وتلألأت البحيرة باللونين؛ الوردي والأزرق، ووقف عدد من الطيور اللقلق، ولا يزال جائعًا على ساق واحدة، على الصخور، وعيونه مثبتة على المياه.
وقرأ قائد المجموعة التُهم الموجهة إلى "عيسى"، ثم أمسكوه وساقوه إلى قدره، عند رئيس الكهنة، وأنا كنتُ ساهرة طيلة الليل مع "مريم" الأم، وقد رأينا نورًا مُشعلًا يقترب نحونا عبر وادي "قِدرون"، ثم تبين أن القادمين ثلاثة؛ رجلين وامرأة نحيلة هي الأميرة الهيرودية (سالومة)، وعندما تأكدت أنها هي الأميرة اقتربت منها، وعانقتها وقبَّلتها، وكان الرجل الذي يحمل المشعل هو ذلك الرجل الذي شفى عيسى يده المكسورة، فقالت لي "سالومة":
- لا وقت لدينا الآن، لقد أرسلتني "كلوديا" زوجة بيلاطس إليكِ، حاملة أبلغ تحياتها لكِ، وتأسف لاعتقال "عيسى"..
فهززت رأسي لأشجع "سالومة" على إكمال الحديث، فأردفت "سالومة" قائلة:
- سيخضع "عيسى" لمحاكمة "بيلاطس" في الصباح، لأنه واقع تحت ضغط شديد للحكم عليه بالموت، لكنه لا يريد ذلك، وهي تقول لكِ إنها تعلم أن "عيسى" هو من شفى ابنها، لكن زوج أمي "هيرودوس" هو من يريد قتل "عيسى"، وقد أبلغ "بيلاطس" بأنه لا بد من إنهاء أمر ذلك الناصري.
تابعت "سالومه" كلامها: أرسلتنا "كلوديا" لإحضاركِ، وهذان الرجلان من أخلص رجال "كلوديا"، سوف يأخذانكِ إلى مكان احتجاز "عيسى"، لقد رتبت "كلوديا" الأمر مع الحراس.
خلعتُ وشاحي الأحمر الخاص بالناصريين، ولففت رأسي بوشاح أسود، مثل: "سالومة"، واتبعنا الرجلين تجاه طرف المدينة الشرقي، وكان الظلام قد أمَّن لنا الغطاء المطلوب فلم يلفتوا الانتباه، لكن كان عليهم نزول درج خارجي تنيره المشاعل، فاستطلع أحد الرجلان الطريق، فنزل إلى أسفل الدرج بسرعة، وأعطاهم إشارة، فتبعته أنا بسرعة، فسحب الرجل مفتاحًا من تحت ردائه، وأدخله في الباب، وفتح القفل، ودخلت أنا إلى زنزانة عيسى، فرأيت أسوأ ما رأيت؛ لقد ضُرِب "عيسى" بقسوة، كان هذا واضحًا من الرضوض والكدمات على وجهه، فقال لي "عيسى":
- اسمعيني -يا مريم- الوقت قصير، وهناك كلام كثير لا مجال للملامة، فاللوم يولد الانتقام، والصفح والغفران يقربوننا من الله، وهذا هو ما يجب أن نعلمه للبشر، فاحفظيه في قلبكِ وعلِّميه لكل من يسمع إحياء الذكرى.
أصابتني الرعشة وقتها لسماع "عيسى" يتكلم عن نفسه هكذا، وأن موته أصبح مؤكدًا، وخاطبني برقة قائلًا:
- الليلة الماضية في "الجتسمانية "صليت للرب، وطلبت منه أن يبعد عنِّي هذه الكأس إذا شاء، لكنه لم يُبعدها لأن تلك إرادته، ألا ترين أنه لا مجال لتغيير ذلك، لن يفهم الناس ملكوت الله من دون عبرة عظيمة، أنا سأكون العبرة، سأبرهن لهم أنني أستطيع أن أموت من أجلهم، وأُقْدم على ذلك من دون ألم أو خوف، لقد أظهر لي الرب كأسي وشربت منها، وفعلت ذلك برضا وسعادة.
أنا -يا مريم- أطلب منك أن تُعلمي الناس مما علمتكِ، رغمًا أنني أعلم مدى الخلاف بينكِ وبين بعص الناصريين، لكن كل شيء علمته لكِ قد كتبناه في كتاب المحبة الذي لديكِ، هذا الكتاب لم يظهر طيلة حياتي، لكن أطلب منكِ إظهاره بعد أن أغيب عن الحياة.
حاولتُ أن أبتسم، والدموع منهمرة داخلي، وودعته، وخرجت، بعد أن قابلتني "سالومة".
وصل "بريتورس" إلى حجرة عيسى، وأخذه، وراح الجمهور يصيح ويهدر: "اصلبه.. اصلبه...."، وقد راقبهم "بيلاطس" عاجزًا مشمئزًا، فدماء الناصري النازفة بسبب جلده لم تشبغ غليلهم!
بل دفع جنون هؤلاء الغوغائيين في مطالبتهم بحياة السجين "باراباس".
صارت السماء لهبًا، ورفع الناس أبصارهم ونظروا فوقهم، فرأوا الرب ينظر إليهم من فوقهم، ورفع "باراباس" السجين الذين نادى الناس بإطلاق سراحه، وصرخ اليوم لا الغد، فاندفع الغوغاء إلى الثكنة، وارتموا على البوابة الحديدية، وأحضروا عتلات، وأسندوا سلالم على الجدران، وأحضروا جمرًا مُلتهبًا، ليضرموا النار بالمكان.
ولكن فجأة فُتِح الباب الحديدي، وظهر منه فارسان مصفحان بالبرونز، مُدججان بالسلاح حتى رأسهم، لوحتهما الشمس، وعلى الفور امتلأت الشوارع بالأقدام المهرولة، والظهور المولولة وهي تفرُّ تجاه التلة التي سينفذ عليها الصلب.
هذه التلة الملعونة كانت جرداء لا يغطيها غير حجر الصوان والشوك، فيها ممكن أن تعثر على قطرات جافة من الدم تحت كل حجر ترفعه، وكان العبرانيون كلما تصدوا للرومان للحصول على الحرية تمتلئ هذه التلة بالصلبان المنصوبة، وكان المتمردون يطلقون عويلهم وأنينهم وهم عليها، وليلًا كان أبناء آوى يأتون وينهشون أقدامهم، وفي صباح اليوم التالي تهبط الغربان، وتأكل عيونهم.
وتقدم رجل حاملًا إكليلًا من الشوك، ورماه نحو "عيسى" الذي كان ولا يزال واقفًا مرخيًا ثقل جسده على عمود الجَلد، وقد تكشف ظهره، وقال له هازئًا: "هذا هو تاجك أيها الملك!"، فضحك منه الجميع.
كانت "أفراميا" قد أرهقت، وطلبت من الدكتور "أمجد" مغادرة غرفتها.
بعد خروج "أمجد" من الغرفة، وفي طريقه قابل العم "بطرس"، وقد جاء ليطمئن على "أفراميا"، وبعد أن قال له "أمجد" إن حالتها تسوء، قرر أن تخرج "أفراميا" من المستشفى، وتوضع في بيتها تحت الملاحظة، ورحب "بطرس" بهذا القرار بل وفرح به.
""""""الوثبة الثالثة""""""
**تجلى النور في المشكاة، وتجلت المشكاة في النور**
"الزيتونة.. لولاها لانطفأ المصباح".
لم تكن الطريق مستوية، وابتدأ المطر بالهطول، ومشيت طويلًا تحت غيمةٍ وحيدةً منكسرةً، وكانت السماوات تتفجر بالبرق والرعد، وعلى بُعد مئة متر رأيت ضوءًا ينبعثُ من منزل خفيض تسوّره الأشجار؛ فتح لي الباب رجل أثار طوله الفارع رعبي بعد أن طرقت الباب، كان يرتدي ملابس رمادية، كان يبدو أنه ينتظر شخصًا ما!
دخلت عنده مخلفًا ورائي كل ضجيج الأمطار.. دخل الرجل مكتبه، وتركني دون أن يسألني من أنا ومن أين أتيت! شعرت وقتها على الأقل جسديًا بجاذبية الكتب التي يحويها مكتبه الصغير، كان ثمة مصباح متوهج يتدلى من سقف الغرفة، يتمايل فيرسم الظل فوق الكُتب، لم تكن هذه الليلة عامرة بالنجوم، والأرض تحت قدمي موضع شك! ودون مقدمات قال لي هذا العجوز:
- من فرط التفكير في الخلود تركنا الغسق يطبق دون أن نشعل المصباح، ولم يعد باستطاعتنا أن نرى وجوه بعضنا بعضًا!، كان الظل يكررُ: "أن النفس خالدة، وأن موت الجسد لا معنى له أبدًا، وأن الاحتضار بحكم الضرورة هو أكثر الحقائق التي تُحدث للإنسان بطلانًا وعقمًا، كنتُ جالسًا أعبث بمدينة الرب أفتحها وأغلقها، وظل الشيطان يتمايل بعقلي ذات اليمين وذات الشمال؛ ذلك الشيطان الذي كانت غلبته مناصفة بيني وبينه، ذلك الشيطان دائمًا ما كان يقول لي: "فحين نحلمُ أننا نحلمُ، فهذه بداية اليقظة!".
فقلتُ لهذا الرجل:
- لا أفهم ما تقوله!
فاستدار ذلك العجوز، وولى وجهه شطر لوحة زيتية، وأشعل غيلونه، وأشار لي أن أتبعه.
دخلنا غرفة طويلة ذات جدران خشبية فيها منضدة وكراسٍ، وكان ثمة مصباح فوق خوان يطلق ضوءًا أصفر، ولسبب ما بدت لي الطاولة غريبة، وفوقها تنتصب ساعة رملية، لم تلمح عيني سوى نقش معدني عليها، وأشار الرجل إليَّ للجلوس على أحد الكراسي، حاولت أن أتكلم معه، لكنه لا يصغي لكلامي! وفجأة قال لي:
- يتحول كل شيء إلى إدراك، فالشيء هو المدرك، وما يختفي عن الإدراك هو احتمال، ونفي، وافتراض، فالشيء لا يكون هناك إلا بقدر أن تسقط عليه الحواس..
ما زلت أكررُ لهذا الرجل الغريب أني لا أفهم شيئًا!!
فقال لي:
- لو أمكنني أن أعيش حياتي مرة آخرى لارتكبت أخطاء أكثر، ولكنتُ أبدعتُ من بؤسي نغمًا، لكن الزمن ثابت ثبات النهر الذي رأى فيه هيراقليطس منعكسًا لرمز الحياة الزائلة؛ لوحًا من رخام ينتظرنا، مكتوبًا عليه سلفًا: "مصيرك حتمًا للتراب".
تنهدتُ قليلًا، وأخذتُ نفسًا عميقًا، ويبدو أنني استمتعتُ بكلامه الغريب وقلتُ له:
- أكمل.
نظر إليَّ وابتسم ابتسامة صفراء ثم قال:
- منذ أن ولدتُ قرب الصخرة المُحدبة، والحوض العميق الذي تعمدت فيه؛ ظل الزمن المُبدد الوجيز في الذاكرة يجردني من كل شيء شكَّلته في حياتي.. الأيام والليالي معًا تطمس معالم الحروف الأبدية والوجوه المحببة، ولم يبقَ معي سوى الرمادي بدرجاته الباهتة الحزينة، لقد رأيت كل شيء في ذاكرتي، رأيت أشعار فرجيل، وهي تتطاير في الهواء، وفروست وهو يلملمُ أشعاره من تحت الماء.. كنتُ أقضي معظم أوقاتي في هذا البيت، وكنتُ أطالع كثيرًا، وقد حاولت أن أخنق كل ما كان يعتمل في أعماقي عن طريق الانطباعات الخارجية، ولم أكن أملك من هذه الانطباعات غير المطالعة، وقد ساعدتني القراءة كثيرًا بالطبع، إذ إنها كانت تثيرني وتمنحني اللذة والألم، بيد أنني كنتُ أضجر منها بعض الأوقات.
ولولا عقلنا المتمتع بالحرية الكاملة، لكُنا حيوانات أرقى من سواها! والفكر في رأيي غير مادي، وكذلك العقل والحرية، فهما أوضح دليل على أن الإنسان شذوذ على قاعدة خضوع الكون للحتمية، إلا استثناء نادر، فالإنسان بفضل العقل الحر يستطيع بكل سهولة أن ينتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
كانت الساعة التاسعة مساءً تقريبًا، والأمطار تزداد هطولًا وصوت الرعد وتخبيط الأمطار، والعواصف يضرب جدران المنزل، فكان عليَّ أن أرجع إلى منزلي، وأشعلُ الموقد لأستدفئ، فطلبت من هذا الرجل الذي لا أعرف حتى اسمه الخروج من عنده، للذهاب إلى منزلي، ويبدو أني نسيت أن سيارتي معطلة بالخارج، وقد كنتُ أحتاج المساعدة في هذه المنطقة النائية، لكن قبل أن يأذن لي الرجل للخروج كنتُ أشعر بثقل في رأسي، وبشيء يجثمُ فوق صدري، فطلبت من الرجل كوبًا من الماء، فأسرع لإحضاره، كانت الغرفة بها سقف منخفض، وكان فيها دولاب ملابس، ومفارش من كل الأنواع، وبعض الأحذية الحريمي، ففهمتُ أن هذا الرجل لا يعيش بمفرده، وجلتُ بنظري نحو الجدران؛ كانت ثمة روسومات تغطي الحوائط، كانت رسومات لبعض رجال الدين المسيحيين، ولاحظت أن كل الشخوص الظاهرين في الرسومات بشرتهم بيضاء، وشعرهم أسود كاحل، وعيونهم جاحظة، وصادف أن نظرت إلى المرآة، فرأيت وجهي يلوح كريهًا جدًا بما كان فيه من قلق وشحوب، وفجأة بدأت ساعة مُعلقة في مكان ما خارج الغرفة تئن، وكأن شيئًا كان يضغط عليها أو كأن أحدًا كان يخنقها ثم تلاشى ذلك الأنين، فقفزت فجأة للأمام، فنظرتُ خارج الغرفة فوجدت هذا الرجل ساقطًا على الأرض ويده مُمسكة بساعة حائط كبيرة، يبدو أنه عند سقوطه حاول التعلق بهذه الساعة! فأسرعت وحملته من على الأرض، وأدخلته تلك الغرفة الصغيرة، كنتُ لا أدري ماذا أفعل في هذا الموقف؛ أخرج وأترك الرجل، أم أنتظر وأبلغ الشرطة؟! وسيطرت عليَّ فكرة مفزعة طفقت تسري في جسدي كله؛ أن هذا الرجل قد توفي، لكن لاح لي أمر غريب أن تلك العينين (أي عيني الرجل) تتفحصني، فعرفت أن الرجل بخير.
مرت ساعة وأنا أجلس بجوار هذا الرجل حتى دقت الساعة العاشرة، ومع دقات الساعة فُتح باب المنزل، فكانت ثمة فتاة ترتدي جاكيت من الجلد الضيق يرسم عودًا أوروبيًا منتظمًا، وبنطالًا من نفس التكوين، ويحتل قدميها وساقيها حتى المنتصف حذاء ذو رقبة طويلة جدًا، وعلى رأسها قُبعة خضراء، نظرتُ إليها متفحصًا أكثر؛ تبدو فتاة من لؤلؤ ويواقيت؛ بطنها كالعساجد، صدرها كاللُجينِ المسكوبِ، دخلت هذه الفتاة وفزعتْ حين رأت الرجل ممددًا، واتسعت عينها غضبًا، وأنا أحاول إفاقته، وبصوت عالٍ قالت لي:
- من أنت؟ وماذا فعلت بعمي "بطرس"؟ أنت لص تحاول سرقتنا!
- لا.. لا.. أنا لستُ لصًا، ولم أفعل شيئًا بعمكِ، اطمئني؛ عمكِ بخير.
- أنت لست لصًا! ماذا أنت إذن؟!
- أنا "مراد" جار لكم في المنطقة المجاورة، تعطلت سيارتي بجوار منزلكم، وكنت أطلب المساعدة، فطرقتُ بابكم ففتح لي عمكِ، وبعدها طلبت كوب ماء، فذهب عمكِ لإحضاره، وبعدها حدث ما حدث، ورفضتُ أن أتركه بمفرده حتى لا يُصاب بسوء.
فقالت بعد أن اطمأنت لي:
- يبدو أنه أصيب بغيبوبة السكر المُعتاد عليها؛ احمله معي إلى غرفته.
بعد أن حملناه كانت قد وضعت إحدى يديها فوق يدي، وأنا أحمل معها عمها، وكما لو كنتُ قد صُعِقتُ آنذاك! فارتبكتُ وتصببتُ عرقًا، فنظرتُ نحو وجهها؛ كان لعينيها ما يشبه الطوفان، وعلى جبينها الأخَّاذ يلقي القمر بأشعته الزاهية، كنتُ أرى الشمس كأنها تجري في شعرها ذهبًا، وتسطعُ في ثغرها لؤلؤة، نهداها طائران مصلوبان على جسمها الذي يشبهان شجرة الخُلد، فتوقفتُ منتصبًا تحت حائط الرغبة، حيث تلمعُ الرغبة، وتمددتُ بين أنفاسها الشهية، وأعلنتُ عن استسلامي لرائحة جسدها الوثير.
لمحتْ عيني بروازًا صغيرًا فيه صورتها، ولا أدري لماذا فعلتُ هذا! فتحتُ البرواز، وأخذتُ الصورة، وهي لم تنتبه لذلك.
وبعد أن أفاق العم "بطرس" كان عليَّ الخروج من المنزل، في حين كانت تلك الفتاة تقدم لي الشكر، وتقول لي: "شكرًا يا مراد"، بعدها انتبهتُ لاسمي "مراد"! هذا اسمي! يا له من اسم جميل! سمعت منها اسمي كما لو كنت لم أسمعه من قبل! ثم قالت: "أنا اسمي أفراميا"، ومددتُ يدي وهي مُرتعشة لأسلم عليها، فكان ليديها طقس الغرائز!!
بقيت السماء متلبدة بالغيوم، وأخذ الرعد يقترب تارة، ويبتعد تارة أخرى، ويُحدِث ضجيجًا مخيفًا لا يهدأ، فطلبت منِّي تلك الفتاة أن أنتظر حتى يهدأ الجو، ولسببٍ ما أو لغباء ما قلتُ لها: "لا.. لا بد أن أتحرك"، يبدو أنني كنتُ أحمق!
خرجت من منزل العم "بطرس" تتخبطني رائحة جسد تلك الفتاة، وحين وصلت إلى السيارة تيقنتُ أنه قد مضى على وقوفي على هذه الحالة عشرون دهرًا! أدرت مفتاح السيارة، ولحسن الحظ دارت السيارة، فتوجهت إلى منزلي الذي يبعد عن تلك الفتاة ثلاثة أميال تقريبًا.
اليوم التالي بعد أن قضيتُ الليل لأرى وجه "أفراميا" تلك الجميلة، ربما فكرتُ لوهلة وأنا أتذكرها أن آخذ البحر ناحيتي، وأن أطوي السماء تحت سقف بيتي، وأنتظرها أنا والموج على الشاطئ، خرجتُ من غرفتي إلى غرفة الطعام، ومن خلال النافذة رأيت أن الثلج كان يتساقط بغزارة، يرسم ببخاره اسم "أفراميا"!
كنتُ أتشوق إلى رؤيتها، لكن كيف أراها؟ ولماذا؟ وهل هي تتذكرني لو حاولت رؤيتها مجددًا؟!
ليس لدي أدنى شك في أن هذه الفتاة هي من نسل أوروبي، فهذه النظرات الثاقبة، والشفاه القرمزية الممتلئة توضح الأمر..
كان الطقس بعد الظهر باردًا ملبّدًا بالغيوم، لذا قررتُ أن أجلس إلى جانب الموقد، غير أنني بعد الانتهاء من فطوري تذكرتُ علبة سجائري، وقد نسيتها في مكان ما، ولا يوجد بديل معي، ففتحت باب البيت، وخرجت لشراء واحدة، وفي طريقي تعثرت قدماي بأحد الأحجار الكبيرة، المركونة جوار بيتي، فخررتُ على الأرض أصرخ من الألم، في حين كانت "كريستينا" -جارتنا التي لا أعرفها- تداعب الفراشات من وراء نافذتها المضيئة كالعادة، فأخذت تلوح بيديها للمارة حتى حملوني، وصعدوا بي إلى بيتها المجاور لبيتي، كان زوجها السيد "أنطونيو" يرتب زهوره التي بحديقة منزله، فاستقبلني بحرارة، على الرغم من أنه لا يعرفني؛ فأنا جار جديد لهم، ومن قبل كنتُ عرفت أسماءهم من حارس منزلي، فأدخلني إلى شقته، وعملت السيدة "كريستينا" كمادات ماء دافئ على قدمي، وكان "أنطونيو" يحاول تضميد الجرح، وأنا أتألم ألمًا شديدًا جعلني أصرخ بقوة، حتى ربطت "كريستينا" ساقي بقطعة من الصوف.. كان البرد قارصًا، مما جعل الجرح يشتد وجعه، وبعد أن بدأتُ أشعرُ بتحسن شكرت السيدة "كريستينا" وزوجها، وطلبتُ منهم الخروج، فقالت لي السيدة "كريستينا":
- سنقيم احتفالًا بعد الغد بمناسبة قدوم العام الجديد، ونود أن تشرفنا ونحتفل معًا، فقد علمتُ أنك تعيش بمفردك في المنزل..
فقلتُ لها:
- سأحاول تلبية طلبك.
واستأذنت منهم ورجعت إلى منزلي، وفي الطريق باتت تتلاطم الأفكار في مخيلتي، كنتُ أفكرُ في تلك الفتاة التي أسرتني (أفراميا)، والتي لا أعلم ما إن كانت هي تفكرُ فيَّ أم لا؟ كان اسمها يضرب مسامعي في غابات الحروف، والسماء على جرحي ممدودة، والهواء يتهامس، ويمتدُ بيني وبينها، من يعطيني صورتها فأحمِّلها أكداسًا من البخور والصّندل، وأقرأ عليها المعوذتين، وأهز فوقها جذعي فتساقط رُطبًا، ودمعها أقراط أقراط....
رجعت إلى منزلي، والشوق يحرقني والرغبة تداهمني، وقتها عرفتُ أن الأرض أضيق من ثقب الإبرة، فلا أعرفُ أي طريق أسلكها، وأي الدروب أجدها مفتوحة لأفر إليها، حيث لا وصول أبدًا، ولا رجوع دائمًا.
بعد أن استقررت نفسيًا، وهدأتُ من التفكير، أخذتُ النوم رفيقًا لي في هذه الليلة العصفاء، فكان ثمة رؤى وتهيؤات أسرتني؛ تصاحبني في نومي، وفي أحلامي، شمسها منسوجة على جسمي أخاديد ووديان، وهي بطوقسها علامة لي، كان لباس شهوتها بروقًا كشجرة فككتها السماء عروقًا من الذهب المتوهج، ونُطفها الخبيئة تشرئب كغابة مطمورة ما بين رمل الأرض، ونجم السماء....
كان عليَّ تجهيز هدية للذهاب بها إلى بيت السيدة "كريستينا"، وزوجها أنطونيو؛ ذهبت إلى أحد المحال لأشتري بعض الهدايا، ثم رجعت إلى المنزل منتظرًا حلول الليل، لأذهب إلى الحفلة.
دقت الساعة التاسعة مساءً، وكان عليَّ التحرك، والذهاب إلى بيت السيدة "كريستينا"، وبعد أن دخلت منزلها وجدته يعجُ بالضيوف.
كنتُ أشعر في الليلة السابقة بأنني سأكون أول من يحضر، إلا أنني وجدتُ الأمر مختلفًا عن ذلك.
كانت السيدة "كريستينا" وزوجها قد رحبوا بقدومي، وأعدوا لي كثيرًا من الحلوى والمشروبات الدافئة، أخذت أتفحص جميع الحاضرين في الحفلة، وبالأخص النساء اللاواتي يرتدين الملابس الشفافة، التي بالضرورة تظهر مفاتنهن، الأمر الذي دعاني أن أجلس في صمت حتى أتمكن من التبصص عليهن، لكن كان "أنطونيو" زوج كريستينا لم يدع لي الفرصة كاملة لأنفرد بنفسي، فكان يجلس معي من حين لآخر، مما اضطرني للذهاب إلى شرفة البيت، وكأنني أدخن سيجارة، وأخذت أتفحص أرجل النساء كأنني أراهُن من سماء زجاجية، وأتقلب على حمأ من الرغبة والصحو، وأمسك بجذر شجرة الشهوة، وأهزها فرعًا فرعًا، وورقة ورقة، فتتساقط غرائز الرغبة على رأسي حممًا.
سمعت حديثًا بين "أنطونيو" وأحدهم، ويبدو أن "أنطونيو" مسيحي بالاسم، فكان يهزأ بكلام الشخص الآخر معه؛ سمعته يقول:
- أتؤمن بالخرافات؟!
قالها" أنطونيو" حين قال له الشخص: "كم مرة قرأت الإنجيل؟"
فقال له الشخص الآخر:
- لا تتطاول على كرامات العظماء!
- وهل تعتبر المسيح عظيمًا؟
- وهل عرف التاريخ عظيمًا مثله؟!
- الفلاسفة، والعظماء، ودهاة التاريخ.
- إنهم عبيد، أما هو فسيِّد.
- أأنت جاد فيما تقول؟!
- نعم.. انخدعت دهرًا بالعلم والفلسفة، بينما الإنجيل صغير، وفي متناول كل يد، ولا يحتاج إلى فلاسفة أو علماء، لأن الأميين البسطاء قادرون على فهمه.
- وهل عزمت على فهم ماضيك من خلاله؟
- لا أستطيع الجواب الآن؛ لم أنضج في الإنجيل، سأجيبك بعد نضوجي.
- لا تُجِب الآن ولا الغد، فالحياة هي الحياة بالإنجيل أو من غيره.
- أأنت متأكد أنك مسيحي؟!
- لن أجيبك، أنت قتلت نفسك بالكتب، والآن ستقتلها بالإنجيل، والمسيح.
- لا.. قد أجدها، وأُحييها.
- لا خير منك ولا منفعة من قراءتك للإنجيل..!
- أتظنني مُلحدًا؟!
- لا يا سيدي، الإلحاد استغلال لظاهرة الموت! فلأنّ الموتى لا يعودون من قبورهم ليخبرونا بما حصل معهم، فلذلك استغل الملحدون هذه الحقيقة ليشككوا بالأمور الغيبية، وبنوا عليه معتقداتهم، وفي الحقيقة بعضُها مُضلِّل والآخر ساذج، وبعضها يرمي به نوع من الناس؛ ذلك الذي يعيش في شك دائم من أسئلة لا يجد لها جوابًا، وبعضُها مدعاة للضحك من سذاجتها، ولأنك يمكن أن تكذب كما تشاء على من لم يحضر الواقعة، فكذلك تستطيع أن تفحم مَن لم يشهد الوقائع المستقبلية على أن يأتيك بدليل على أنها ستقع....
- تتكلم كفيلسوف!
- وإن كنت تقنع بكلام الفلاسفة، فاعلم أن الفلاسفة يتجنبون الحديث عن الإنسان الخاطئ، فالخطيئة جرح بليغ دامٍ يُمزّق الإنسان داخليًا، الخطيئة هي أساس بلاء كل إنسان، العقلانيون يضخمون ذاتهم عقليًا، ليزيدوا في الطين بلًّا، الروحانيون واقعيون يعرفون ضعفهم فيتواضعون، الخطيئة جرح في وجودهم، يدركون أنهم عاجزون في سد الفراغ..!
تطاول الحديث بينهم حتى استرعى انتباه الحاضرين، فأسرعت "كريستينا"، وهدَّأت الوضع.
كانت الساعة قد أعلنت دقاتها العشرة، ومع دقات الساعة قرع جرس الباب، وبدأ المطر يهطلُ بشدة، والجو ازدادت برودته، فعدتُ إلى صالة البيت لأستدفئ بأنفاس الحاضرين، وسمعت السيدة "كريستينا"، وهي تقول:
- أهلًا أفراميا..
أفراميا!! أتاني الصوتُ يحمل رائحة الياسمين في العطر، فأسرعت عيناي في طريق البحث للتأكد من وجودها، ويبدو أن الصدفة أدت دورها؛ فكانت تقفُ عند زواية المدخل في ثوبها الأبيض، وابتسامة مُشرقة تعلو وجهها.
فقفزتُ من على الكرسي قفزة عجلانة لفتت انتباه الحاضرين، ووقفتُ بجانب حائط العُزلة، للتأكد مما سمعتُ، فكانت ثمة شجرة خضراء تدخل من تحت قطيفة الطيف، وخرج طائر الرغبة الحقيقي، وأخذ يؤذن بانبلاج البدايات.
كانت هي، وكان عليَّ أن أدفع الهاوية إلى حيث لا شيء، وأقيس الرغبة ببريق عينيها، وأن أتربع على حافة الجنون، وأدفع اللاشيء باللاشيء، فقلتُ في نفسي:
"يا سيدة الشفاعات والتعاليم.. لي أن أقول هنا يرقد الأبد، والأزل تحت مجرة جسدك الوثير".
كنتُ مفاجأة لها هي أيضًا؛ لمحتُ ذلك في نظراتها، وفرحت لأنها تذكرتني، واستدرتُ لأخفي رعشة بدني عنها، ووقفتُ مُعلَّقًا كالشعرة في فراغ ذاتها، فانتبه لي السيد "أنطونيو"، فقال لي:
- تعالَ أعرفك إلى صديقي "بطرس"، وابنة أخيه..
وقبل أن يتم السيد "أنطونيو" كلامه جاءت "أفراميا"، ومدت يدها لتسلم عليَّ، وقالت:
- أهلًا مراد.
فتعجب "أنطونيو"، وقال:
- أنتم لكم سابق معرفة؟!
فقالت "أفراميا":
- نعم يا عمي..
واستدارت، وقالت لعمها "بطرس":
- هذا هو "مراد" الذي كان يحاول إفاقتك من غيبوبة السكر.
- أهلًا مراد، أشكرك على شهامتك، وأود أن نبقى أصدقاء.
- بالطبع سنكون أصدقاء.
رجعت أنا إلى الوراء، وجلست على الكرسي، مُنعقد اللسان؛ لا أعرف أن أضبط الأُفق، ولا أعرف كيف الخروج من فضاء الغواية، وجلست هي في الكرسي المقابل.. عيناها اللتان تفوحان بالشهوة، وأصابعها التي تكتب بحبر جسدي، ويداها اللتان تلمسان الشغاف دائمًا، وتتمتعان بحدسِ اليقينِ، واللذة؛ أخذت تخصف عليَّ من ورق جنتها، في محاولة منها لأن تسن شرائعها، وقد فعلت، وعرفتُ أنا وقتها كيف يكون كلام الجسد للجسد، ورغرغة العين لرغرغة العين، وتلهف الشفاه للشفاه، واختلاط الحاسة بالحاسة، وارتباك الجوارح...!
كانت النظرات بيننا أشبه بلعبة القط والفأر، كلما أغضُ نظري تصنع هي من حركاتها احتفاليات ومزامير، وإذا نظرتُ إليها تفترش باحة في سدرة الأُفق...
كانت السيدة "كريستينا" تراقبنا عن بُعد، ويبدو وقتها أنها كانت تشعر بشيء ما، فجلست بجانبي وقالت:
- طوبى لجسدين؛ كلاهما يمضي وقته في قراءة الآخر!
فتبسمت "أفراميا"، وتبسمت "كريستينا"، وأنا أحترقُ على شفا مجراتها المدوية، وأغتسل بالعنفوان والتفتح.
دقت الساعة الثانية عشرة، وأعلنت عن بدء عام جديد، وانطفأت الأنوار، واشتعلت الشموع، وأنا لا أشعر بأي تغيير كما لو كنتُ مسحورًا!
كان العم "بطرس" يختلي بالسيد "أنطونيو" في غرفة المكتب، فدخلت عليهم، وقد أذنوا لي بالجلوس معهم، وبعد فترة دخلت "أفراميا" لتطلب من عمها الرجوع إلى المنزل، فقلتُ في نفسي:
"هذه فرصة جيدة لأعرض عليهم أن أوصلهم بسيارتي"، لكن عرفت من "أفراميا" أنهم يمتلكون سيارة!
خرجنا من عند السيدة "كريستينا "، وركب كلٌّ سيارته، وباتت النظرات بيني وبين "أفراميا" تُعلن عن لقاء آخر قريبًا.
انتظرتُ حتى تحركت بسيارتها، وبعد تحركتُ أنا، وفي الطريق كنتُ أقدمها، لعلي أطمئن عليها.
رجعت منزلي، ولا أعرف إن كنتُ سعيدًا أم لا! كان البيت الذي أسكن فيه وقد استأجرته الشركة التي أعمل بها، سأتركه خلال ثلاثة أشهر، وأرجع إلى مدينتي (الإسكندرية)، ولا أدري ماذا أفعل مع هذه الفتاة؟! ولا أدري إن ما كانت تحبني مثلما أحبها! والمشكلة الأكبر التي باتت تحيرني أنني مسلم، وهي مسيحية، فكيف ذلك؟! وهل هي تعلم أنني مُسلم أم تظنني مسيحيًا؟
أفكار كثيرة بدأت تغتال عقلي لدرجة أنني أجهدتُ من الفكر، فقررتُ النوم.
قبل دخولي في النوم كانت صورة "أفراميا" تحتلُ فكري بدرجة كبيرة، ولا أعلم إن ما رأيته حلم أم حقيقة!
عندما دوَّى جرس المنبه مثل قنبلة، فوثبتُ مسيقظًا من أعماق حلمي، وتمددتُ على ظهري وأنا أحدقُ في الظلام، كانت الساعة السادسة صباحًا (ميعاد استيقاظي)، وكان الجو باردًا جدًا.
أخذتُ أسترجع حلمي إن كان حلمًا:
"كنتُ أُفتشُ عن خيمة قريبة، وجاءتني هي كسيدة تُشرق في الليل، فتركتْ فوق رأسي ضفائرها، وتحلُ على الشمس المخبوءة تحت وسادتي مئزرها، وتُشير لي أن أتبعها، وتفرد شالًا أخضر من وحدتها، فتفك عنِّي عُقد الليل والنهار، وتفض على جسمي المتغضن أزياء أنوثتها، فأرى جسدها المعجون بالحناء، والملفوف بالحرير، ونهديها الزمردتين، وعينين من اللؤلؤ المصفوف، وأرائكها الخضراء المُذهبة، كأنها الزبرجد، واليواقيت، والصدر خليج مُصفَّى من العسل، وسُرتها ككأس من فضة، ترسم الشمس كحل جسدها بتقاطيع البداوة، ودوائر من بنفسج لدن باكتناز الأعضاء...".
أظنها رؤيا لا حلمًا!
تناولت فطوري كالعادة بعض أن استفقتُ، وذهبت إلى عملي، لكن قادتني الخُطا وجلًا إزاء بيت "أفراميا"، ولا أعلم ماذا أفعل، انتظرتُ وانتظرت لكن لا جديد، رجعت إلى بيتي بعد أن قررتُ ألا أذهب إلى العمل، وقبل دخولي المنزل استدرت، ونظرت إلى منزل السيدة "كريستينا"، وتملكني التردد؛ أدخل البيت أم أذهب إلى بيت كرستينا؟! فكان الأمر الثاني (أي الذهاب إلى بيت كرستينا) هو الاختيار، فأدلجتُ مسرعًا، وجامحًا.
دخلت إلى المنزل، وكان "أنطونيو" زوج كريستينا كالعادة يرتب أزهار الحديقة. قابلت السيدة "كريستينا"، وجلستُ معها بعد أن رحبت بي، وكان الصمت الضيف الثالث لنا، هي تشعر بأنني أنوي قول شيء، وأنا أنتظر حتى أهيئ نفسي للكلام، لكن كانت السيدة "كريستينا" تتمتع بقوة ملاحظة كبيرة، لذا قالت لي:
- أنت تريد قول شيء؟
فقلتُ لها:
- لا لا.. فقط جئت لأطمئن عليكم.
تبسمت "كريستينا"، وشبكت أصابع يديها، ونظرت نحوي، وقالت:
- أفراميا.. أفراميا، هذا ما أتى بك إلى هنا، صحيح؟!
تنهدتُ، وتصببُ العرق من جبهتي، فاتجهت برأسي إلى اليمين، وقلتُ لها:
- نعم.. هذا هو السبب.
قالت بعد أن قامت من مقامها، واستدارت حولي:
- أنت مُعجبٌ بها؟
- أنا أحبها، بل أكاد أكون أعشقها!
- لكن أنت -يا مراد- لم ترَها إلا مرة أو مرتين!
- نعم يا كريستينا، لكن هذا ما حدث..
- هل هي تُحبك؟
- لا أعلم، لكن نظراتها توحي بشيء من هذا.
اسمعني -يا مراد- "أفراميا" إنسانة حسّاسة للغاية، وأنا لاحظتُ أنها تميل إليك من نظراتها لك في حفلة رأس السنة، لكن... لكن أي علاقة بينكم ستنتهي بالفشل لأسباب كثيرة؛ أولها: أنت مسلم وهي....
- أنا -يا كريستينا- أحبها!
لا تقاطع كلامي -يا مراد- لا بد أن تبتعد عن "أفراميا"، فهي لن تتحمل أي جرح.
- أنتِ تتحدثين عنها كما لو كنتِ تعرفينها من زمان!
- أنا أعرف "أفراميا" منذ أن وُلِدت؛ كنتُ صديقة لوالدتها -رحمة الله عليها- و"أفراميا" تعتبرني كأمها!
- ممكن -يا كريستينا- أن تحكي لي أكثر عنها؟
- لا تفتح جروح قد عالجها الزمن، وأصبحت في طي النسيان.
- لم أفهم مقصدكِ يا كريستينا؟!
- في الوقت المناسب سأقول لك كل شيء، لكن عليك الآن ألا تقترب منها، ولا تدعها هي تقترب، هذا رجاء يا مراد، وأرجو أن تحترم رغبتي.
رجعتُ إلى المنزل، وأنا أشعر أن شيئًا قد تمزق في جسدي، ومن قبل كنتُ أمشي في الشوارع مشية مودِّع أسيرُ متمهلًا، مراقبًا كل شيء بعناية، وأشعر بإحساس غامر أنني سأصادفها في الطريق، ووقفت أمام المنزل أُمنِّي نفسي أنها ستجيء!
دعوتُ الله في نفسي، وبقيتْ لي ذرة من أمل ضئيل أن تكون "أفراميا" تُفكر فيَّ كما أفكر فيها.
*******************************************************
لم أكد أغمض عينيَّ حتى شعرتُ بصوت صفير يضرب أذني، تجاهلته، وقلَّبت جسدي إلى الجهة الأخرى، وقد كان رأسي مُثقلًا بالنوم، ولكني صحوتُ على صوت عربة إسعاف يأتي من الشارع، نهضتُ من رقدتي متكاسلًا، ونظرتُ من نافذة الغرفة، وكان كل شيء مغطى بالظلام إلا نوافذ منزل السيدة كريستينا، فصوبتُ نظري إلى أسفل منزلها، رأيت عربة إسعاف أمامه، واثنين يحملان السيد "أنطونيو" على سرير مُتنقِل، والسيدة "كريستينا" تتقدم أمامهم، فأسرعت وارتديت ملابسي، ونزلت الشارع، وجدت السيدة "كريستينا" قد انكمشت أسارير وجهها، والدموع تتلاطم على خدها، وقالت لي:
- إن "أنطونيو" فاقد الوعي، وعلينا الذهاب إلى المستشفى.
ركبت سيارتي، وبجواري السيدة "كريستينا"، وتبعنا عربة الإسعاف حتى وصلنا إلى المستشفى، وبعد إجراء الكشف على "أنطونيو" تبين أنه مصاب بذبحة صدرية، ولا بد من إدخاله العناية فورًا، كان عليَّ أن أُطمئِن السيدة "كريستينا" بعدما تبين لي أنها قلقة جدًا على زوجها، فأخذتُ أسأل الأطباء عن حالته، وكانت حالته مُستقرة -الحمد لله-، لكن لا بد من إبقائه يومين في العناية لاستكمال بعض الفحوصات.
جاء الصباح ونحن نجلس أمام غرفة العناية، لم يذُق أحدنا النوم، فطلبت منِّي "كريستينا" أن أرجع إلى المنزل لأستريح، فرفضتُ، فقالت لي:
- ادخل هذه الغرفة واسترح، كي تقدر على مواصلة اليوم.
دخلت الغرفة لأستريح. كانت "كرستينا" تجلس أمام باب العناية، وأخذت تقرأ بعض الكلمات من الإنجيل، وفجأةً سمعتها تقول: "أهلًا أفراميا!"، كنتُ لا أصدق ما سمعتُه لحين نظرت من خلف باب الغرفة فوجدت "أفراميا" بالفعل قد حضرت؛ بدأت يدي ترتعش، ووجهي يمتلئ بحُمرة الارتباك، فتنهدتُ واستجمعتُ قواي، وعزمت على الخروج، لكن سرعان ما تراجعت وقررتُ أن أقف خلف الباب؛ أراقب حركاتها، وأتأمل في وجهها الملائكي، في حين كانت هي تجلس بجوار "كريستينا"، ممسكةً بيدها كُتيبًا صغيرًا، كنتُ أنا قد خلعتُ قُفاز جسدي، وأوليت نفسي غواية تأويل اسمها، و خلعتُ أعضائي عضوًا عضوًا، وتقلَّبتُ كفراشة على شراشف المحبة، وتكابد جسدي جسدها وانفلتت العين من طوالع المشاهدة، وجواب الرؤيا، وهاهي كخمائر اللبن الفجري...
سمعتُ السيدة" كريستينا" وهي تقول للطبيب: "سأدخل أنا بمفردي، لأطمئن على أنطونيو"، فانتظرت حتى دخلت كريستينا الغرفة تاركة "أفراميا" منفردة، وكما لو كنتُ نمرًا رأى فريسته؛ خرجت متلهفًا، أدعك جسدي بفصوص المحبة، وعناقيد الرغبة المُحتدمة، وأصبحتُ كقاب قوسين أو أدنى من خلفها، وهي لا تشعر، أخذت أتشمم شعرها المسدول، وألاطفه، حتى انتبهتْ لي، واستدارت وليس بيني وبينها حِجاب، وكانت أنفاسها تتقبقب قبقبات هادئة.
قالت لي:
- أهلًا مراد..
- أهلًا أفراميا، العم بطرس بخير؟
- بخير.. نحمد الرب.
خرجت "كريستينا" من الغرفة، فاستدارت إليها "أفراميا"، وقالت لها:
- عليَّ الذهاب الآن إلى المنزل، حتى لا يقلق عمي بطرس عليَّ.
ودّعتْ أفراميا "كريستينا" وخرجت، وأنا أقف أنتظر مولد الكلمات على شفا حفرة من النار، وأتدلى مثل كوكب ناتئ، ومحتضر، فابتسمت "كريستينا"، وأومأت برأسها ناحية باب الخروج، فأسرعتُ ولحقتُ بأفراميا، وكما لو كانت تنتظرني.
انعقادُ اللسان في الحلق، وانحباس اللغة في العين، واختلاط الحواس، وارتباك الجوارح، أليست تلك علامات المحبة؟
قلتُ في نفسي بعد أن طال النظر في عينيها:
- جسمكِ كمال الحقيقة كما ينبغي لها أن تكون!
في حين كانت هي تنتظر أن أمد يدي لأسلم على يديها، كنتُ قد غبتُ عن الإدراك لوهلة، وحين رُد إليَّ عقلي قلت لها:
- هل لي أن أحتفظ بهذه؟
وأخرجت من جيبي الصورة، فتعجبتْ وقالت:
- كيف حصلتَ عليها؟!
- يدي هي التي حصلت عليها.
وتبسمتُ، فتبسمت، وقالت:
- لماذا تريد الاحتفاظ بها؟!
- لأني أريد الاحتفاظ بها!
- ممكن أن تحتفظ بها، لكن لا تضعها في جيبك! فمن الأفضل أن تضعها في....
وسكتت عن الكلام، وودعتني، وركبت سيارتها وذهبت، وأنا أقف متمرغًا في سخونة الفراغ النفاذة، لا حول لي ولا قوة، وانتصبتُ كقارةٍ غارقة وطافية، وأقول في نفسي: "هي تقصد أن أضع الصورة في قلبي؟ أكيد هذا قصدها..".
رجعتُ مُجددًا إلى السيدة "كريستينا"، وكانت نظراتها توشي بالرغبة في الكلام عن أفراميا، لكن لأني أعلم أنها ترفض أي علاقة بيننا، لم أعطِها فرصة للكلام عن "أفراميا".
دخل الطبيب وأخبرنا عن تحسُّن حالة السيد "أنطونيو"، فهو قد أصبح بخير، فقالت "كريستينا":
- عليك الذهاب أنت، وسوف نخرج في الصباح من المستشفى.
رجعتُ إلى المنزل لا أفكر في شيء، ولا أعبأ بشيء، أتذكر "أفراميا" فقط، وما لها من جمال أخَّاذ، أخرجتُ صورتها من جيبي، وأدمتُ النظر لها، حتى شعرتُ أنها تكلمني، كانت الابتسامة تخرج من الصورة، وتدفع الزمن نحو جزيرة الجسدِ المتوجة بالرغبة، وتقف أمام بوابات جسمي، فيتذرع بحركاته، وسكناته.
كان الصباح قد أشرق، وكان عليَّ تجهيز حالي للذهاب إلى العمل، وفي طريقي تمنيتُ لو أصادف محلًا لبيع الورود، كي أشتري بعضًا منها وأهديها لأفراميا، أقصد صورة أفراميا! وكما لو كانت السماء قد استجابت لي؛ فثمة بائع ورود على بُعد خطوات.
دخلت محل الورود، كانت البائعة فتاة لطيفة صغيرة في السن، كانت ضحكتها تجعل أي شخص يشتري منها، عرفتُ بعد ذلك أنها صاحبة المحل، طلبت منها تجهيز بعض الورود البيضاء، وبعد أن اخترنا أنا وهي مجموعة من ورد الأقحوان والقرنفل، قالت لي:
- من الممكن أن نضيف زهور الأوركيد مع الأقحوان والقرنفل؟
قلتُ لها:
- طبعًا.. ممكن.
فأحضرت بعضًا منها، وحاولت قطع ساق الزهور، ولسببٍ ما جُرحت إحدى يديها من القاطع، وأصبحت الزهور مُلطَّخة بدمها؛ الأمر الذي جعلني أمسك يدها، وأحاول ربطها بمنديلي، لكن كان الجرح عميقًا وكبيرًا، فطلبت منها الذهاب إلى المستشفى، لتمضيد الجرح وربطه.
ذهبنا إلى المستشفى القريبة من المحل، وبعد معالجة الجرح طلبت منها أن أوصلها إلى بيتها، وكان البيت قريبًا جدًا من بيتي، يبعد عني عدة أمتار فقط، قالت لي:
- أنا اسمي "سارة".
واعتذرت عن عدم تجهيز الورود مجددًا، وطلبت منّي أن أجيئها بالغد لإعطائي باقة ورد أخرى.
استكملت يومي كالعادة، وذهبتُ إلى العمل، ورجعتُ إلى البيت، وما زالت "أفراميا" تخطف فكري وعقلي.
كان اليوم التالي وقبل ذهابي إلى العمل ذهبتُ إلى محل الورود، وكانت "سارة" قد أعدت لي باقة الزهور، وقبل أن تعطيني إياها قالت لي:
- شكرًا يا.... يا... أنا لا أعرف اسمك؟!
- أنا اسمي "مراد"، من مدينة الإسكندرية، منتدَب من قِبل الشركة التي أعمل بها في مدينتكم مدة ثلاثة أشهر.
- أهلًا مراد، مدينة الإسكندرية من أجمل مدن العالم، أنا سأسافر إليها بعد عشرة أيام، أود أن أشكرك على موقفك معي بالأمس.
- لا شُكر على واجب، لكن أحب أن أطمئن على جرحكِ، أنتِ بخير؟
- نعم.. أنا بخير، لكن ما زال الجرح يؤلمني.
- أنا آسف.. كنت سببًا في جرح يدكِ.
- لا تأسف، فهذا قدر ونصيب، وأكيد إن لم تكن أنت السبب، فأكيد كانت يداي سوف تُجرح.
- على العموم أنا أشكركِ على اهتمامكِ وتجهيز الورود، شكرًا سارة، واسمحي لي أن أطمئن عليكِ في الغد..
- بالطبع سأنتظرك بالغد..
كانت تحدثني وعينها مملوءة بالكلام..!
أمسكتُ باقة الورود وضممتها إلى صدري، وتشممتُ رائحة الورود التي تشبه رائحة "أفراميا"، وسبحتُ في عالم غير الذي أعيش فيه، وهكذا كدتُ أبني توافقاتي وألقى محبتي الخاصة في صحراء عرضها ذراع وطولها ذراع، وما بين كل ذراع وذراع يختبئ وجه "أفراميا"، وها هي تأتي كنجم يمشي على قدمين، وكشمس تترجل في ليل بين حدائق النهار، ولها مملكة بهيجة من التخيلات والرؤى، ولما أفقتُ من وهمي لقيت الأرض تحتي لا أرض ولا السماء سماء! وكنتُ وحيدًا أتقدم قافلة اليأس، وأزرع فوق الماء صدى حنجرة متقيحة بدمٍ كذبٍ، وقلتُ في نفسي: "لا بد من أخذ قرار؛ أكون معها أو لا أكون..".
ذهبت إلى بيتها، وطرقتُ الباب، كان العم "بطرس" يحاول أن يتذكرني حين فتح لي الباب، وبعد أن قلتُ له من أنا، تذكرني ورحب بي، وأدخلني إلى المنزل، وكانت ثمة وردة تقف خلف الباب، كأنها كوكب دري يقف شاخصًا، انتظرتُ حتى تلتفت لي وتسلم عليَّ، لكن العم "بطرس" نظر نحوي وقال: "ها هي أفراميا تصلي"، فدخلنا إلى غرفة مكتبه بعد أن قلتُ له: "إنني جئت لأطمئن على صحتك"، كان يحدثني بنبرة حزينة، كما لو كان لديه مشكلة الأمر الذي دعاني لأسأله، لكنه قال لي:
- نحن ننظر ببلاهة ورعب، نغط فى رقود هو إلى الموتُ أقرب منه إلى الحياة، وإلى حياة ليس بينها وبين الموت سوى نفخة واحدة، وبرزخ وحيد!!
فقلتُ له:
- ياعم بطرس، أنا لا أفهم منك شيئًا!
فابتسم وقال:
- لا عليك الأيام سوف تفهمك...
ودخلت "أفراميا" بعد أن فرغت من صلاتها، وسلمت عليَّ، وقبل السلام كانت نظرات الشوق بيننا تتوافد على شجر الليل في وضح النهار، وبيننا الحركة والسكون علامات لأنجم مضيئة، وانكشف ستر القلب إذن!
كانت يدي تحتضن باقة الورود، وأنا لا أشعر لحين انتبهت "أفراميا" لها وقالت:
- ما بيدك يا مراد؟
فنظرت إلى يدي نظرة عجلانة، ومددتُ يدي مُحمَّلة بالورود، وقلتُ لها:
- هذا لكِ.
استغرب العم "بطرس" -هذا ما رأيته في نظراته- لكن كنتُ لا أعبأ به، فكان شاغلي الوحيد نظرات "أفراميا" للورود، آنذاك انطلق حديث دافئ بيني وبينها يعلن عن قدوم الحب، فقالت لي:
- أنت تعرف أنني أحب زهر القرنفل والأقحوان؟
- أكيد أعرف، لأنه يشبهكِ!
قال لي العم "بطرس":
- ماذا تعمل؟
- أنا أعمل في إحدى شركات البترول.
- عظيم.. شيء رائع.
كانت "أفراميا" قد أحضرت لي فنجانًا من القهوة، واستأذنت للذهاب إلى غرفتها، وهذا الفعل أزعجني جدًا لدرجة أنني فكرت أنها تتهرب منّي! وبعد أن شربت القهوة طلبت من العم "بطرس" الخروج، فأذن لي، وعند خروجي من المنزل، وأنا في حالة لا أعلم إن كانت طبيعية أم لا؛ كنتُ على وشك الإدماع من شدة غضبي لِما فعلته "أفراميا"، وجدتُها تقف خارج المنزل، وبيدها باقة الورود تضمها بين صدرها، فانشرح صدري، وأسرعت إليها، لكن وجدتها تبكي وبشدة! فوضعت يدي فوق رأسها وقلت:
- ماذا يبكيكِ؟
فقالت:
- لا شيء.. لا شيء.
وأعطتني باقة الورود، وأسرعت ودخلت وأغلقت باب المنزل، وأنا ظللتُ واقفًا لا أدري ماذا أفعل؟ ولماذا هي فعلت هذا؟! كنتُ أتفحم كالصراصير؛ أصر الألم بين أسناني، وأضرب يدي في الحائط.
استدرتُ وذهبتُ إلى السيارة، ونظرتُ نحو المنزل، فكانت ثمة نافذة مغلقة إلا قليلًا منها، فحَملقتُ فيها بشدة فإذا بثمة خيال، علمتُ وقتها أن "أفراميا" تراقبني من خلف النافذة، فبدأت أهدأ، وأتنفس النقاء، وحين اقتربتُ من النافذة اختفى الخيال وأغلقت النافذة، وكأن شيئًا لم يكن. عدتُ إلى السيارة بعد أن وضعت الورود تحت النافذة، ورجعتُ إلى منزلي، بعد أن مشيتُ طويلًا تحت غيمة منكسرة، وكانت الرياح كأرجوحة اعتلاها حزني، وضيق صدري.
كانت رجفة الفجر المُغبش بالأمشاج تعتلي الندى والعطر، دانية قطوفها حين اكتملت قوافل رحلها بالماء والتسنيم، وأنا أفتش عن سلالة من قطرة مخبوءة تحت شالها المعقود ما بين الضحى والليل....
صباح اليوم التالي، وللمرة الأولى أرى الشمس تجري لمستقر لها، حين فتحتُ عيني، وكنت أجلس على سريري، ودق جرس الباب، فإذا بكريستيينا تقول لي:
- صباح الخير..
علمتُ وقتها أن زيارتها تخص "أفراميا"، وصدَق ظني حين قالت لي:
- إن "أفراميا" زارتني بالأمس، وكانت في حالة سيئة، ولا بد من إيجاد حل!
فقلتُ لها:
- وما هو الحل؟
- أن ترحل عن المدينة في أسرع وقت، وتنسى أمر "فراميا"!
- أنتِ -يا كريستينا- تظنين إن رحلت عن هنا هل سأنسى "أفراميا"؟!
- لا أعلم يا مراد، لكن "أفراميا" في حالة صعبة، "أفراميا" تحبك يا مراد، وأنت تعلم ألا جدوى من هذا الحب لأسباب أنت تعلمها جيدًا!
- لكن أنا أيضًا أحبها، وأشعر ناحيتها بالهدوء والسكينة.
- أنا أعلم أنك تحبها، لكن توجد أشياء كثيرة تجهلها عن حياتها!
- لا يهمني أي شيء، كل ما يهم أنني أحبها.
- حتى لو كنت أنت مسلمًا وهي مسيحية؟ ليس ذلك فقط، بل كان أبوها بطريريك الأرثوذوكس؟!
- يمكنني الزواج بها، وتبقى هي على دينها، وأنا أيضًا على ديني!
- أنت تتحدى -يا مراد- كما لو كانت الحياه بسيطة! هناك أشياء كثيرة أنت لا تعرفها؛ "أفراميا" متدينة لدرجة كبيرة جدًا، بالإضافة إلى أنها كانت نزيلة في مستشفى للتأهيل النفسي!
- ماذا تقصدين يا كريستينا؟! أهي كانت تتعالج نفسيًا؟
- نعم يا مراد، لكن ليست ب "كانت"، بل هي ما زالت في فترة العلاج، وظهورك في حياتها في الفترة الحالية اضطراب عقلي أثَّر في عاطفتها، ويمكن أن تكون لا تحبك في الأساس، فهي تجهل تصرفاتها الآن!
- ممكن أن توضحي لي الأمر أكثر؟
بعد عودة "أفراميا" من القدس، هُيِّئ لها أن إحدى الشخصيات المسيحية قد تجسدت فيها، فهي مُعتقدة بأنها تكون مريم المجدلية -أكيد سمعتَ عنها- وتلقت فترة علاج ليست بقصيرة في المستشفى، والآن هي ما زالت تحت وطأة هذا الاعتقاد، وكونها ظهرت لك بأفراميا، فهي تعتقد أنها لو قالت غير هذا سترجع إلى المستشفى.
- يا كريستينا، كلامكِ يجعلني أتمسك بها أكثر، فهي تحتاج إليَّ أكيد!
- من الأفضل أن تبتعد عنها يا مراد، حتى لا تتعلق بك أكثر.
خرجت "كريستينا"، وتركتني أعلن عن يأسى للسماء، وأسترشد بنجمة ضالة فى سماء ضائعة، وأرض مراوغة، وأنا لا أتحمل مثل هذه الفجيعة.
قبل دخول الليل، وبعد أن أُنهكتُ من التفكير، وقد قررتُ أن أذهب إلى بيت أفراميا، آنذاك شعرتُ أن جسدي يسبقني إليها، وأن الأرض من تحتي كانت تتدحرج دحرجات سريعة، ومُخيفة، وعند وصولي عندها وقبل أن أطرق الباب، تمنيت أن يكون عمها "بطرس" غير موجود في المنزل، وكما لو كان باب السماء مفتوحًا، فحين طرقت الباب فتحت هي، وكان جمالها يسبر أغوار الجسد الرنان، فنظرتُ نحوها، وكانت أغنيات الصمت تأخذ شكل اللذة، فقلتُ في نفسي:
"أيتها المرأة، كيف تسكنين إليَّ، وليس لي عليك من سلطان أو محجة بيضاء؟!
ليس بينى وبينك غير ما يربط الليل بالنهار، أرضكِ ملغومة بالنعمة، وأرضي إلى الماء عطشة، فكيف لا تفرطين أرضكِ على سمائي؟!".
تبسمتُ، وتنهدتْ هي، وانتصبتْ مثل نجمة بازغةِ في أُفق ممدود، وقالت:
- تفضَّل.. كنت أفكر فيك الآن! يبدو أنك....
وصمتت ثم أردفت كلامها بابتسامة، وفرجت أسارير وجهها، واستدارت نحو مقعد أحمر وثير ليس بقريب من الباب، وأشارت لي أن أجلس، وجلستْ هي بجواري، وقبل أن أتوفه بكلمة كان الشوق قد أعدَّ عدته، فوجدت جسدي يراقب تفتح الجسد لوردة الجسد وامتلاكه لزهرة الشهوة الرابية، وانفرطت عناقيد العنب المفروط، وتسربلت في جسدها.
وتُوَيْج الأنوثة المنفرط على صدري انفرط، وتترجرجت أجزاء الجسد البض كزهرات اللوز القطني، وكانت كمياه تتراقص فوق نبيعات الفضة، وحلتْ ضفائرها، وتفكك رباط قميصها، وخلعتْ نعليها، فانفرط الثوب المحموم يعري بدنًا محمومًا، ويكشف مدنًا تملؤها أصداف اللؤلؤ، وكان صدرها قبة غاوية غازية لجسد وثير، وابتدأ جسدي يتهجأ نتؤات جسدها، وابتل ظمأ رغبتي بماء شهوتها، وأنوثتها، والتقى الجسدان على بحر بلا شاطئ حيث لا رجوع، ولا مفر من الغرق، وكشفتُ عنها غطاءها، فإذا هي غاوية وإذا أنا شيطان...!
كانت عينها تبكي، وقلبها يكاد ينخلع بعد أن حلَّت ضفائرها المستشزرات على حممٍ من جحيم الحميم، وهي تقول:
- لمَ اقترفنا الخطيئة؟! لن يغفر الرب لي، ولن أسامح نفسي..
- لا، لا،لا.. يا أفراميا، نحن لم نخطئ، هذا هو الحب قد سبق مشاعرنا.
- لماذا أتيتَ الآن؟ ليتك لم تأتِ!
- أنا أتيت، وكان يجب أن آتيكِ من قبل.
- أتعتقد -يا مراد- أن ما حدث بيننا حب؟!
- ولا شيء آخر غير الحب، إلا إذا كان هناك مسمى آخر أقوى من الحب.
- أنت تعلم -يا مراد- أنني مسيحية وأنت... أنت مسلم، أكيد ما حدث بيننا سينعم بفشل الاستمرار!
- لمَ تقولين هذا يا أفراميا؟! أتظنين أننا لن نتزوج؟
- أكيد لن نتزوجن، فأنت لا تعرفُ عنّي شيئًا، ولاتعرف من أكون!
- لا يهمني من تكونين، ولا من كنتِ، أنا أحبكِ فقط.
سكتت "أفراميا" عن الكلام، وأومأت برأسها، ونظرت لي بحدة، وقالت:
- لا يجوز لإنسانة مثلي أن تفعل ما فعلتْ، لا يجوز أن ترتكب خطأ!
- لماذا تسمين ما حدث بيني وبينكِ خطأ؟!
- وهل له مسمى آخر؟!
- نعم.. الحب.. الاشتياق.
- يا مراد، أنت لا تفهم من أنا!
- لا.. أنا أفهم وأعرف من أنتِ، لكن أنتِ لستِ كما تتوهمين، أنتِ أفراميا، ولستِ ممم....
- لمَ سكتَ عن الكلام؟! أنا لست من؟
- بصراحة -يا أفراميا- أنا أعلم كل شيء عنكِ، أخبرتني "كريستينا" عن كل حياتكِ، فأنتِ "أفراميا" لا المجدلية!
- لا.. أنا المجدلية.. أنا أميرة من سبط بنيامين الملكي، وابنة الناصريين!
- أنتِ "أفراميا".
- أنا المجدلية..
قالت هذا، ونظرت إلى الصليب المُعلَّق على الحائط، وانحنت أمامه، ثم انتصبت، وقالت لي:
- إنني أشعر بدوار، وصداع.
فأسرعتُ وأمسكتُ رأسها، وكان شعرها المتسربل على كاتفيها يهفهف فوق يدي، فشعرتُ بصعقة أفقدتني اتزاني، وتكشَّفت حصى الرغبة على حصير الجسد، وأوسدتُ الشهوة بين مفاصل العنق، فتدلى طائر الرغبة، فكنا كما كنا من قبل، ودخلنا جسد الوقت متوجين بتاج الحب.
خرجتُ من عندها على موعد معها بالغد.
رجعتُ إلى بيتي، وجلستُ على أريكتي، وأشعلتُ شمعة وحيدة، وتأملتُ وجهها، فكان ثمة ضحكة ترنُ في الوحدة، في حين صدرها كان يلعبُ النرد معي فوق طاولة الرغبة، فتحسسته بيدي، بعد أن مررتها على الردفين، والقمر المُنشق تحت عناقيد الشهوة..
كان اليوم التالي، وبعد أن دقت الساعة العاشرة صباحًا كان لقاؤنا في أحد الفنادق التي تبعد عن السكن مسافة ليس بقريبة، وحينما كنتُ أنتظر، كانت "أفراميا" قد أتت مُسرعةً مُتلهفةً، رأيت ذلك في يديها حين مدتها لتسلم عليَّ.
جلسنا إلى حين أتى جارسون الفندق، وطلبنا منه فنجانين من القهوة، آنذاك كان النهار قد تغطَّى بغيمة ثقيلة، والأمطار بدت بالهطول بشدة.
كانت "أفراميا" ترتدي معطفًا بني اللون، مكسوًا بفرو أبيض يرتفع إلى عنقها، فمدت يديها، وأمسكت الفرو، وأغلقته على رقبتها بشدة، وقالت:
- الجو برد جدًا.
فقلتُ لها:
- لو تحبين أن نذهب إلى مكان أكثر دفئًا؟
- لا يا مراد، أنا أحب هذا الجو، وأحب شكل الأمطار، ممكن أن أطلب منك طلبًا؟
- تفضَّلي.. طبعًا.
- ممكن أن نخرج من الفندق، ونتمشى تحت الأمطار؟
- أه.. طبعًا ممكن.
ووضعت يدها في يدي وخرجنا للأمطار، وكانت الأمطار كثيفة جدًا، لكن رأيت في وجه "أفراميا" الرضا، والفرحة، وفجأه تركتْ يدي، وجرت تحت الأمطار تلعب وتلهو كطفلة بريئة، الأمر الذي أجبرني على فعل ما تفعل؛ جريت معها تحت المطر وتسابقنا، وأمسكت هي بعض من الثلوج الخفيفة المتطايرة، وألقتهم فوق رأسي، وجرت فأسرعتُ لألحق بها، وحين تمكنتُ من الإمساك بها أخذتُ الثلج المتساقط من فوق رأسي ووضعته داخل معطفها من الخلف فارتعشتُ، ثم استدارت ولكمتني على صدري، وأمسكت بقميصي، وفكَّت بعض أزراره، ووضعت يدها الباردة على صدري، فتمددتُ أنا كالجوهرة فوق صدرها الزمردي، وانفلق البرقُ فوقنا خصلات من الضوء، والتويجات فوق أسرَّة أجسادنا تتفتح وتتفتح، وتشابكت الأعضاء عضوًا عضوًا، وبينما الأمطار تتقافز بحيوية وكتل من سحاب أبيض متراصٍ يلمعُ في توهج وزينة، إذا بسحابة بيضاء تظللُ المكان والزمان، وتنقلنا في لمح البصر إلى سماء بعيدة، ومليئة بالنجوم والكواكب، وليس على ظهرها سوانا، والشمس تتدحرج من بين أرجلنا كالكورة.
أسدل الليل ستائره، وغيض الماء من تحتنا، وأغلقت الرغبة بابها الفضي، وركبنا السيارة فرحين، ومنسجمين.
قالت لي" أفراميا"، ونحن في الطريق:
- أنا أحب الإسكندرية، مدينتك أحبها جدًا.
قلتُ لها:
- في الغد نسافر إلى الإسكندرية، ما رأيكِ؟
- لا أظنُ يا مراد؛ عمي "بطرس" سيرفض.
- ممكن أن نسافر في الصباح، ونعود قبل الليل؟
- موافقة، وعمي "بطرس" يكون معنا؟!
- كيف يكون معنا عمكِ، فهو لا يعلم بالعلاقة التي تربطني بكِ؟!
- أه.. نسيت، ممكن أن أقول له إنني سأقضي اليوم عند صديقتي، أم سيكون هذا كذبًا، والكذب حرام؟!
- قولي لعمكِ إنكِ ستسافرين الإسكندرية، للاستمتاع بالشتاء هناك بمفردكِ.
- حسنًا.. سأقول له هذا.
بعد أن اتفقنا على الذهاب إلى الإسكندرية في الغد، كانت في الطريق إلى بيت "أفراميا" ناحية اليمين كنيسة تسمى"كنيسة القديسة ميري"، نظرت نحوها "أفراميا"، وطالت في النظر بعد أن طلبت منّي أن أوقف السيارة، وفجأة قالت:
- من أنا؟ ومن أنت؟
- أنتِ "أفراميا"، وأنا "مراد"!
- لا.. أنا مريم!!
قلت في نفسي: "يبدو أنها رجعت للتخاريف ثانيًا!".
- لا.. أنتِ "أفراميا"، انسي اسم مريم نهائيًا، أنتِ "أفراميا"..
- أنتَ....
وسكتت عن الكلام وبكت، وقالت لي:
- رجعني إلى البيت.
- لا يا أفراميا، لن أرجعكِ إلى البيت قبل أن تنسي حكاية مريم، واسمها.
- أنا آسفة يا مراد؛ يبدو أني أرهقتُ اليوم.
وفجأة سكتت عن الكلام، وأصبح وجهها منتشيًا، وهي تقول:
- الله! أتسمع هذا الصوت؟
- أي صوت؟ أتقصدين صوت الأذان؟
هزت رأسها وقالت:
- رجعني إلى البيت، وفي الصباح سأقابلك ونسافر إلى الإسكندرية..
- حاضر.. سأراكِ في الصباح، ونذهب إلى الإسكندرية.. متفقون؟
- متفقون..
بعد أن أوصلتها إلى البيت، واطمأننتُ عليها، باتت الأفكار داخلي كما لو كانت سيفًا مسلولًا حول رأسي، لا أعرف آخرة حبي لها، فهي تعاني من اضطرابات داخلية، بالإضافة إلى أنني مسلم!
لا أعرف ماذا أفعل.. دبرني يا الله...
""الوثبة الرابعة""
**الرحلة**
"طاسين الأبد: زوال المحب والمحبوب، وبقاء الشوق والتشوق".
صباح اليوم التالي، والنهار يهبط من شُرفة السماء، ويتوكأ على الأمطار، حيث السماء شآبيب من الضوء، وقد حان الموعد، وكان أصعب من أي موعد.
سبقتني لهفة الشوق.. تجادلتُ مع كل هزّات الخوف، والرعب التي ما إن تنتابني حتى يطردها الحب.
وبعد تجهيز حالي للسفر ذهبتُ إلى "أفراميا" بالقربُ من بيتها، وكان يومًا مُشرقًا بالشمس.
انتظرتها حتى تخرج، بينما هي آتية من بعيد تفرشُ سدرة الأفق بحكمة شَعرها المسدول، وشمسها التي تعرشُ على الحقيقة كلها كنجمة تستحمُ في الأُفق، وبنهديها اللتين يشعانِ بانبهار، ويقفان شاخصين، ويدين كرزيتين تمُدهم ليديَّ، وترمي في قلبي المحبة....
- صباح الخير مراد.
- صباح الخير حبيبتي "أفراميا"، أتمنى أن تكوني بخير اليوم.
- نحمد الرب، اليوم أفضل.. سنسافر بالسيارة؟
- نعم..
- ما رأيك أن نسافر بالقطار؟
- بالقطار! لماذا؟! أنتِ خائفة من قيادتي؟
- لا.. لكن السفر بالقطار متعة.
- حاضر.. سنضع السيارة في جراج المحطة، ونركب التوربيني، أعتقد سنجد تذكرات.
ذهبنا إلى محطة القطار، بعد أن حجزتُ تذكرتين، وقبل ركوبنا القطار لفت نظري أحدهم يرتدي جلبابًا أخضر، وممسكًا بمسبحة خضراء، يركن إلى إحدى الأرصفة، كانت هيئته تلوح بالنظر إليه، فقلتُ لأفراميا:
- انظري إلى هذا الرجل.. ها هو مستغرق في التأمل.. فيمَ يفكر بنظركِ؟ أتظنين في طعام غذائه، أم في أمسية اليوم؟ إلى ماذا ينظرُ هكذا؟!
فتوجهتْ "أفراميا" بعينها، ونظرتْ نحوه:
- عجوز هرم شبه أعمى، تسيل الدموع من عينه، يتمتم أدعية، وهذيان، حول النار والجنة، وعقوبات الرب للكفرة، والمشركين، ويبشر بقرب القيامة، ونهاية العالم، لأن الأعور الدجال قد ظهر على صورة.
أصابتها رهبة حين سمعت الشيخ يهذي، فالتحمت أكثر بي، وهي ترتعش، خفضتْ عينيها، ثم أرادت أن تنظر إلى وجهي، لكنها لم تستطِع، حاولتُ كبح انفعالها لحظات أخرى، غير أنها استدارت فجأة، واتكأت بمرفقيها على الحاجز الحديدي لرصيف القطار، وأجهشتْ بالبكاء.
قلتُ لها:
- كفى بكاءً.. لمَ تبكين الآن؟
فجأة توجهتْ إليَّ قائلة، وعيناها الواسعتان السوداوان تلمعان:
- أسمع، ولكن لا.. ليس الأمر بهذه السهولة! لا يمكن أن أكون أخطأت، أكيد ما حدث بيننا حلم، فأنا لا أخطئ؛ أنا المجدلية ابنة الملوك، ولا يليق بي أن أخطئ!!
شعرتُ وقتها بأن جميع المارة في الرصيف ينظرون إلينا ويضحكون، وحاولت أن أضمها إليَّ لكنها رفضتْ، وطلبت منّي أن أُرجعها إلى البيت!
كان القطار قد دخل الرصيف، ولا وقت للكلام، فصرختُ في وجهها، حتى انتفضت وقالت لي:
- ما بك يا مراد؟!
تيقنتُ وقتها أنها عادت من خيالها إلى الواقع، فركبنا القطار، وأنا مشغول بأمرها حتى اهتديت إلى شيء؛ أن "أفرميا" تظلُ أفراميا حتى تتعرض لموقف يخص الدين، سواء الدين الإسلامي أو الدين المسيحي، فآنذاك تتحول في نفسها إلى شخصية المجدلية!
صعدنا القطار، وكان كل شيء على ما يرام، إلا أنه حدث شيء صدفة، فالمقعد المقابل لنا كانت تجلسُ عليه الفتاة صاحبة محل الورود (سارة)، حينها مددتُ يدي لأسلم عليها وقلتُ لها:
- أهلًا سارة.
- أهلًا مراد، أنت راجع إلى مدينتك؟
- أنا ذاهب لأقضي يومًا، وسأعود، أعرفكِ إلى "أفراميا" التي ستصاحبني إلى هناك.
مدت "سارة" يدها لتسلم على "أفراميا"، لكن أفراميا كما لو كانت لا تريد السلام عليها!
فنظرت إليَّ "سارة" وابتسمت، وألقت نظرها ناحية النافذة، و"أفراميا" شبكت أصابع يديها، وبعد أن وضعت إحدى رجليها فوق الأخرى، ورمتني بنظرة حادة، مما استرعى انتباه سارة، فقالت لنا بعد أن نهضت من على الكرسي:
- سأذهب إلى البوفيه، أتريدون شيئًا من هناك؟
ومشت بعد أن ركلتْ "أفراميا" في رجلها، فاستدارت واعتذرتْ لها.
أخذت النظرات بيني وبين "أفراميا" تأخذ شكل الغيظ، وبإيماءة خفيفة وخفية منها انكمشت أسارير وجهها؛ فهي لم تنطق بكلمة حتى بدأتُ بالكلام، لكنها كانت لا تصغي إليَّ؛ الأمر الذي دعاني للذهاب والوقوف ما بين العربات لأدخن سيجارة، في حين كانت "سارة" تقف ما بين العربات تداعب الفراشات، والحلم المسترسل بين عينها يفضح عن رغبة كامنة، فانفرط كلامها عليَّ، وانخرط كلامي عليها بنظرات، فالتقتْ الشمس على عريشة الجسد، فقالت لي:
- هذه هي زوجتك أفراميا؟
- لا.. إنها ليست زوجتي، أنا لستُ متزوجًا.
- إذن من هي التي عرفتني إليها؟!
- هذا موضوع يطول الشرح فيه، سأقصه عليكِ في وقت آخر، لكن لماذا أنتِ ذاهبة إلى الإسكندرية؟
- الإسكندرية مدينة جميلة، وأنا اعتدتُ زيارتها في الشتاء.
- أنتِ مُحقة، الإسكندرية مدينة جميلة، أتمنى لو أقابلكِ هناك..
- أكيد، لكن أنا سأعود إلى القاهرة في آخر الليل.
تركتها وهي متسربلة في غطاء الرغبة، تستنشق بخور المحبة، وهي واقفة على حصى الشهوة، وعدت إلى "أفراميا"، ومن قبل قد تيقنتُ أن "سارة" ترتعشُ كقصبةٍ في الريح، وتتذبذب كالقشة تحت مراوح كلامي!
كانت "أفراميا" تنتظرُ في بلاهة، لكن نظراتها لي كانت كالسيف، ولم أكن أدري إن كانت رأتنا أم لا.
قالت لي:
- أنت تحبني يا مراد؟
- نعم.. أحبكِ، ولا أحبُ غيركِ.
- أنا أحبك، وأنت تحبني، لكن هل سنتزوج أم نحن عاشقان فقط؟!
- لا أعرف، لكن... لكن قلبي وقلبكِ يتجاليان في هذا الحب ويتباكيان، أتدري ماذا يقول قلبي الآن؟
إنه ليقول عني: "على شواطئ عينيكِ الدافئتين سوف أعثرُ لكِ على اسم يليق بكِ أنتِ، وستكونين مثل وردة، وسأحبكِ أكثر.. أكثر من أي شئ مضى، وأي شئ يجيء".
أنا أحبكِ يا أفراميا، ولا يهمني من أنتِ ولا يهمني دينكِ، ولا ماذا كنتِ..
- لكن -يا مراد- أنا مسيحية، وأحب ديني بل أكاد أنا..... أنا كما تعرف المجدلية!
- ألن تكفي عن ذلك يا أفراميا! أنتِ أفراميا لا المجدلية، لا تجعلي عقلكِ يأخذك إلى ما بعد العقل!
ممكن أن تنسي أنكِ المجدلية -كما تقولين- هذا وَهْم، وأنت تحتاجين إلى الخروج من هذا الوهم!
كنتُ أحدثها بنبرة جافة جدًا؛ عساها أن تنسى هذا الوهم الذي تملّك منها، لكن لم يجدِ حديثي نفعًا، فالموضوع أصبح عندها هروبًا من الواقع، والعيش في أحلام يقظتها.
قالت لي بعد فترة سكوت كبيرة:
- أنا إن لم أكن "المجدلية"، فكيف عرفتُ أن "عيسى" سيصعد إلى السماء بعد أن غادر مرقده؟ فأنا أول من رأى قبر "عيسى"، وهو فارغ من جسده!
استدرتُ إليها مُنصتًا، وقلتُ لها:
- ماذا تقولين يا أفراميا؟ أنا لم أفهم كلامكِ!
قالت لي بعد أن وضعت يديها على رأسها:
- كنتُ في إحدى الليالي بعد صلب عيسى، آنذاك أحسستُ بومضة النبوءة التي تجمع المعرفة والرؤيا، فكان عليَّ الذهاب إلى قبر عيسى، فانسللتُ من الباب، وأنا مُلتفة بوشاح الحِداد، وما إن أصبحتُ في الخارج حتى انطلقتُ مسرعة نحو القبر.
كان الظلام لا يزال مخيّمًا لمّا وصلتُ إلى البستان الذي فيه القبر، وكانت السماء أقرب إلى اللون الأرجواني منه إلى الأسود، فالفجر سيطلعُ قريبًا..
وفي ذلك النور الضئيل رأيتُ أن الحجر الضخم، الذي جره أكثر من عشرة رجال قد أُزيح عن القبر، فركضتُ نحو باب القبر المفتوح، وكان قلبي يخفقُ هلعًا، فحنيتُ رأسي قليلًا لأدخل القبر، فلاحظتُ أن القبر فارغ، وأن عيسى لم يكن بداخله، وفي الحال شَعَّ نور غريب أضاء داخل القبر، ورأيتُ بوضوح أن لفائف الكتّان ممدودة على البلاط، وظهرَ على القماش أثرُ شكل جسد عيسى، وكان الدليل الوحيد على أنه كان هناك.
كيف حدث ذلك؟! ظننتُ في نفسي أن الكهنة الذين يكرهون عيسى هم من سرقوا جسده!
أحسستُ وقتها بالضيق، فمشيت إلى الخارج وأنا مُضطربة، تتخبطني الأفكار، وانهرتُ باكية على ما حسبته حدث؛ أُغرقت عيناي بالدموع، في حين بدأت خيوط شمس الصباح رحلتها مِن المساء، وما إن وقعتْ أشعة الشمس الأولى على وجهها حتى سمعتُ صوتًا لرجل من ورائي:
- لماذا تبكين أيتها المرأة؟ وعمَّن تبحثين؟
لم أنظر إلى الوراء وقتها، وظننتُ أن هذا الصوت لأحد من شاغلي البستان، جاء ليهتم بالنباتات، فقلتُ في نفسي:
"يمكن أن يكون هذا الرجل شاهدًا على ما قد يُفسِّر لي ما حدث".
فخاطبته، وأنا رافعة رأسي ودموع عينيَّ تنهال:
- لقد أخذوا الجثمان، ولا أدري أين وضعوه! فإذا كنت تعلم مكانه، فأرجوك قل لي أين هو؟
كنتُ أستمعُ لأفراميا، وكأنني أعيش معها في خيالها، لكني ما كنتُ أدري إن هذا الكلام صحيح أم أنه من خيالها؟!
استكملت "أفراميا" كلامها وهي مُتحمسة، وتظن نفسها أنها هي المجدلية، وقالت:
- فجاءني جواب بسيط "مريم.. مريم!"، هذا صوته وهذه نبرته فتجمدتُ للحظة، وخشيتُ أن ألتفتُ إلى الوراء ظنًا منّي أن يكون هذا الصوت تهيؤات!
ثم قال لي هذا الصوت: "مريم.. أنا هنا"، فتشجعتُ واستدرتُ للوراء، فرأيته يقفُ أمامي بهيئته البهية، وتزيده أنوار الشمس تألقًا.
وقف عيسى هناك لابسًا حُلَّة بيضاء نقية، ولا أثر للجروح على جسده، وابتسم لي ابتسامته الهادئة الرقيقة، حاولت أن أقتربُ منه، لكن رفع يده وقال:
- لقد انتهت أيامي في الأرض، فبعد قليل سأصعد إلى السماء، لكن عليكِ أن تخبري إخواننا، وتقولي لهم إني سأصعد إلى السماء.
أومأتُ برأسي، ووقفتُ خاشعة أمامه، ورأيتُ أن نور طيبته وصفاءه يشرق ويسطعُ على كل من حوله.
انتهتْ "أفراميا" من كلامها، وأنا ما زلتُ أستمتعُ بما حكته، ويبدو أني نسيتُ أنها أفراميا وليست....!!
انتصبتُ قائمًا، وخفضتُ بصري ثم قلتُ لها:
- عندما يعشقُ الرجال امرأة فإنهم يعشقون أنفسهم في تلك المرأة، أما أنا حين عشقتك عشقت فيكِ أنتِ، فدعيني أكشفكِ لي، فأنكشفُ أمامكِ، فأكشفُ لك عنّي. أنتِ الكَلمة، وأنا المعني، أنتِ السدرة، وأنا الغواية، أنتِ الصورة، وأنا قلب الصورة، أنتِ اللحظة المجزوءة في الزمنِ الغُفل، وأنا الأبد والأزل..
أفراميا، أشعرُ أنكِ تغوصين في دمي، فعلى عرش نفسي لم تجلس امرأة مثلكِ قط.
الاقتراب منكِ جنة بأنهار من عسل مُصفى، البعدُ عنكِ جحيم بأفاعٍ.
لو شئتِ لجعلتكِ ملكة، وألبستكِ تاجًا من ماس..
لو أردتِ لأجلستكِ إلى جواري على عرش الدنيا.
لا توجد امرأة تضاهيكِ أبدًا؛ أنتِ أيتها الأوابة الأخاذة المأخوذة بكِ منكِ.
آنذاكِ تنهدتْ وقالت:
- ها آنذا لك، وجسدي لك...
حينها أمسكتْ يدي، ووضعتها فوق صدرها، وكان قلبها يرتعُ ويتسارع، وكانت يداي ترتعشان كالوتر المُذبذب، فما انتهينا إلا عند قدوم "سارة" وجلوسها أمامنا.
قالت لي "أفراميا" بصوت عالٍ، كما لو كانت تريد أن تُسمِع "سارة":
- بيننا تتوافد الذكرياتُ على شجر الليل فى وضح النهار، وعلى مرأى ومسمعٍ من الليل، وبالنهار يدور حديث دافىء بيننا، فلا ينقطع إلا بغفوةٍ، ولا يبدأ إلا بميعادٍ.. هو الحلم.
حينها نظرتُ إلى "سارة"، وكانت حُمرة الخجلِ تستوطن في وجهها، فقلتُ لها:
- أتتذكرين باقة الورود التي أخذتها منكِ من قبل؟ هذه كانت لأفراميا، ونظرتُ إلى "أفراميا" وكانت أسارير وجهها مُنفرجة، بينما كانت "سارة"؛ وجهها يشتدُ غيظًا، وقالت لنا بعد أن جلست في مقعدها:
- إنما يُمسك الإنسان قوتين؛ قدرة يمضي بها فيدركَ بها فيطمئن، وصبرًا يقعد به فيعجز به فيطمئن!
وهذه هي الحقيقة الواضحة من كل جهاتها، وإن أصبح الناس لا يفهمونها، إذ لا تحتاج إلى فهم، وإنما هم موكلون بما خفي كدأب هؤلاء الذين يدعون أنهم أهل دين وطقوس.
نظرتُ إلى "أفراميا"، وكانت منسجمة جدًا مع كلام "سارة"، لكن يبدو عليها الغل، فقلتُ لها:
- ما رأيك في هذا الكلام؟
فقالت:
- نحن في ظلام الدنيا، وبحثنا عن الحكمة الإلهية الصريحة بوسائلنا الإنسانية العاجزة، كالذي يبغي أن تَطِّلع عليه الشمس في ليلهِ، ويبقى له مع ذلك ظلام الليل، وكالذي يريد مستحيلين لا مستحيلًا واحدًا، وهذا هو عقلنا الذي لا يُعقل.
بدأ الحديث يأخذ شكلًا فلسفيًا، وكلٌّ منهن يحاول أن يسقط للآخر كلامه، فأنا أعلم أن "فراميا" لا تفضل وجود "سارة"، وأيضًا "سارة" تنظر إلى "أفراميا" بغلاظة، فقلتُ في نفسي:
"هيئوا إذن طقوسكن، فسألتفُ على شرانقي الكثيرة، وأتدرع بالأسئلة الخائبة، والإجابات الفارغة!".
استمر الحديث بينهن، وأنا مُستمع فقط، إلى حين نهضتْ "سارة" من على مقعدها مستغربة، فرأيتُ في عينها أن نظرها وقع على الصليب الذي تعلقه "أفراميا" في صدرها؛ الأمر الذي دعاني أن أنظر إليها وأحملقُ، فجلست "سارة" مُجددًا، واستكملت حديثها مع "أفراميا"، حتى دخل القطار رصيف الإسكندرية.
نزلنا من القطار، وودّعنا "سارة"، ومن قبل اتفقنا معها أن نتقابل الساعة التاسعة مساء اليوم. خرجنا من محطة القطار متجهين إلى الشارع، وعند أحد الأرصفة تعثرتْ قدما "أفراميا" بعد أن سقطتْ في حفرة صغيرة، فوضعتُ يدي تحت إبطيها لأتمكن من إمساكها، ونظرت في وجهها حتى أرختْ جفنيها وجعلتهم كالريشة، فهبيتُ برفعهم بيدي المرتعشة، التي يتعالى معهم ضربات قلبي الذي بلغ أشده، وجسدي الذي أصبح كالقشة، وتدثرتُ برائحة جسدها حين اعتصرتْ شفاهها السفلية بأسنانها البيضاء، لتكتم آلامها القوية، فتدليتُ مثل كوكب ناتئ ومُحتضر في سماء ثامنة، حينها كاد جسدي يخلعُ أعضاءه عضوًا عضوًا، وحين استفاقت هي كنتُ أنا في مملكة بهيجة من التخيلاتِ، وكنتُ أترجلُ فوق رماد شهوتها، وجسدها البض.
قلتُ لها:
- لكِ أن تختاري الأماكن التي تودين أن تقضي فيها يومكِ.
فوضعت سبابتها اليمنى فوق شفاهها العلوية، ونظرتْ إلى الأعلى، وأخذت حدقات عينها ترف جهة اليمين وجهة الشمال، ثم قالت:
- أين أنت تسكن؟
- أنا أسكن على بُعد ألف متر من هنا، أتودين أن تذهبي معي إلى البيت؟
فضربتني على إحدى يديَّ، وقالت:
- لا.. لا.. لا!
ضحكتُ وقتها، وقلتُ لها:
- لا تخافي، فأنا أعيش مع والدتي؛ هي سيدة مُسِنة تعيش معها أختي (منال).
أخذت "أفراميا" في التفكير لبضع ثوانٍ ثم قالت:
- موافقة أن أذهب معك لأراهن، وبعدها لك أن تذهب بي كيفما تشاء، فأنا أريد أن أرى الإسكندرية بأكملها.
ذهبنا إلى بيتي، وفي مدخل البيت وقبل صعود السلالم توقفتُ وأمسكتُ برأسها، وقلتُ لها:
- أيمكنني أن أطلب منكِ طلبًا؟
- طبعًا.. ممكن.
- أنا أمي كبيرة في السن، وتفكيرها كتفكير جميع الأمهات، بالإضافة إلى أنها سيدة بيت، ولا تعمل، ولا تختلطُ كثيرًا بأحد غير بالجيران الذين هم بطبعهم مثلها، فأنا أطلبُ منكِ أن تخلعي الصليب من رقبتكِ.
- لا يا مراد! أنا لن أخلع الصليب أبدًا، فهو مُحصِّني، وهو البركة التي منحتني إياها الطبيعة! إياك أن تكون قد نسيت أنا من أكون.. أنا المجدل.... وقبل أن تنطق وضعتُ يدي فوق فمها حتى لا تُكمل!
- أنا آسف يا أفراميا، لكن والدتي سيدة مُتدينة لحد كبير، ولو رأت الصليب في صدركِ سوف تغضب منّي وتظنُ بي سوءًا.
- ولو كان -يا مراد- هذا الصليب هدية من والدي -غفر الرب له- بالإضافة إلى أنه في صدري منذ عشر سنوات، ولا يحق لي أن أتركه بعيدًا عن قلبي.
- لو تحبينني -يا أفراميا- افعلي ما طلبتُه منك.
سكتت عن الكلام، وأخذت الدموع تذرف بعينها، وأمسكت يدي ووضعهتا حول رقبتها، لأخلع الصليب، وكأن يدي كانت تتراقص بين ضفائرها المستخرجات من جنات عدن، انفتحت أسرَّة النوم، وانفرجت أسارير القنوط، وأخذتُ أمشط لها شعرها، وأمسد جسدها بلساني وعجين سُرتها بريقي، وهي تنام فى حِجري هانئة وغير خائفة... تتدثر بأغطيتي البردانة.
ابتسمتْ وهي تضع راحتيها على كتفي، ونظرت في عيني قائلة:
- علينا الصعود، فهذا ليس مكانه!
فأغمضتُ عيني لثوانٍ، وأخذتُ نفسًا عميقًا، ورفعتُ رأسي إلى السماء، وشهقتُ شهقة عالية تبعها الصمت للحظات، ثم فتحتُ عيني، ونظرتُ إليها، وصعدنا الدرج حتى بلغنا باب الشقة..
- أهلًا مراد، ابني حبيبي.
- أهلًا يا أمي، استوحشتكِ كثيرًا.
- وأنت أيضًا يا ابني، كان يجب عليك أن تخبرنا أنك ستأتي ومعك ضيوف!
- لا يا أمي، هي أفراميا، وليست ضيفًا.
- أهلًا يا ابنتي.
- أهلًا يا أمي.
حينها مالت أمي إليَّ، وهمست في أذني: "ذوقكِ جميل يا ابني، تلك الفتاة جميلة، لم أرَ في جمالها قط...."، وضحكنا في حين كانت "أفراميا" تشتعل بحُمرة الخجل، ويبدو أنها سمعت كلام أمي. كانت أختي "منال" قد حضرت، وجلست إلى جوار "أفراميا"، وأخذن يتحدثن، ويضحكن كما لو يعرفن بعضهم بعضًا من قبل.
دخلت أمي لإحضار الشاي، وبعدها دخلت تساعدها "منال"، كانت غرفتي مفتوحة، ويخرج منها رائحة الكتب الكثيرة التي بداخلها، الأمر الذي استدعى "أفراميا" لتقول لي بعد أن أشارت نحو الغرفة:
- ها هي غرفتك، صحيح؟
- نعم.. هي، لكن كيف عرفتِ؟!
- من رائحة الكتب التي تخرج منها، أنسيت أنك قلتَ لي عن مدى عشقك للكتب، وأنك تمتلك عددًا ضخمًا منها!
- لا لم أنسَ، بالطبع هذه غرفتي، تعالي معي إلى الداخل.
دخلنا الغرفة، وكما لو كانت تبدو لأفراميا كأحد المتاحف الأثرية، لقد رأيت هذا في عينها، كانت تتعجب كلما لامست أحد الكتب، وتقول: "واو.. هذا رائع!". استرحنا على أحد الكراسي الذي يمكنه ضم اثنين يجلسان عليه، فكانت "أفراميا" تخحل من جلوسها بجواري، وقالت:
- لا يصح.. ممكن أن تفهمنا أختك خطأ، الأفضل أن تجلس بالكرسي المقابل.
لم أصغِ لكلامها، وكل ما كان يملؤني هو رائحة جسدها الذي أغرقني في بحيرة ماء أجاج، وأخرجني ثم أغرقني في بحيرة ماء فرات، وغسلني بطيوب حدائقه الأقحواني.
وحط حمامٌ على زهرة قلبي؛ سنابله يانعات قطاف، ونفَّض عن متنهِ جمرات الشهوة، ونام على زهر قلبي، وفوق حدائق جسمي، وكانت هي قائمة في متاهات أوديتها ونشوتها، تراقب تحولات الجسد وانحسار الروح عن شهوة جسد متعطِش.
أخذتُ أدوِّن فوق كثبان جسدها وأراضيه أسمائي وشاراتي، وحينها هلكت المراكب، وأجرفت السفن في السيل، وطفا الضوء غريقًا، وتحوَّل البحر إلى شياطين ومرَدة، وتدلينا في الفراغ، ولم نفِق إلا عند سماع صوت أمي ينادي "مراد"، فخرجنا وجلسنا معها، واحتسينا الشاي، وبعدها خرجنا من المنزل لاستكمال يومنا في التنزه.
ذهبنا إلى أحد السنيمات، وبعدها تمشينا في الشوارع تتخبط فوق رؤوسنا الأمطار، ونحن نلهو ونتسابق، وذهبنا إلى أحد الشواطئ، وجلسنا على الرصيف نأكل الذرة المشوي، والحلبسة، والحرنكش.
قالت لي"أفراميا" إنها لن تتركني لأي سبب، وإن زواجنا سيكون قريبًا، وكلٌّ منا على دينه، وهي ستحاول إقناع عمّها، ويجب عليَّ إقناع أهلي، هذا ما اتفقنا عليه، فقلتُ لها:
- ما رأيكِ أن نذهب إلى القلعة؛ قلعة قيتباي؟
رحبتْ بالفكرة، وذهبنا إلى هناك، ودخلنا فكان كل شيء يبدو لها غريبًا، حتى بناء القلعة نفسها، كان أحدهم يمر بجوارنا يرتدي لباس قس، حاولت إبعاد نظرها عنه، لكن انتبهتْ إليه، وبعدها بدأ وجهها يميل إلى الحُمرة القانية، وأصابع يدها ترتعش، وقالت لي إنها تريد ماءً لتشرب!
ذهبتُ لإحضار زجاجة مياه، وعند عودتي لم تكن في مكانها، ظللتُ أبحث عنها حتى رأيتها تجلس مع هذا القس، فاقتربتُ منهما دون أن تراني، وسمعتها تقول للقس إنها تُدعى "المجدلية"، وبدأت تسرد له عن حياتها وحياة المسيح!
لكن الشيء الغريب الذي لفت انتباهي أن القس كان مُستمعًا جيدًا لها، بل كان يجاريها في الكلام، كما لو كانت تتحدث بحقيقة! والأمر الأصعب عليَّ في حديثهما هو أنهما بدآ يتحدثان في أمور دينية عميقة يصعب عليَّ فهمها لأني مسلم!
فكانت تقول للقس:
- شَقَّ البرق حجاب السماء المُظلمة بعد ظهر يوم الجمعة، وكان يومًا لم تشهد فيه الأرض سوادًا بمثل سواده، وكنتُ مُسرعة، كي أصل إلى الصليب؛ تعثرتُ في أحد الأحجار وأنا مسرعة مذعورة، للوصول إلى قمة الهضبة.
لم أكترثُ لكل الجراح التي خدشتْ جسمي، ومزقتْ ثيابي.
كانت غايتي الوحيدة الوصول إلى الصليب.
اخترق الأجواء صوتُ قرقعة حادّة؛ معدن يطرق معدنًا!
إنه صوت مطرقة تدقُ مسمارًا هنا، لم أعد أتمالك نفسي وقتها، فأخذتُ أنحب وكان عويلي على فرادته صوت العذاب الإنساني الذي لا شفاء منه.
وصلتُ عند أسفل الصليب مع بدء هطول الأمطار، رفعَت نظري إليه، وتساقطت قطرات من دمه على وجهي المذعور فامتزجت مع قطرات المطر الغزير، فنظر إليَّ "عيسى"، وكانت عيناه تشعان ضوءًا أبيض، وقال لي: "لا تحزني يا مريم.. لا تحزني، وبلغي أمي ألا تبكي عليَّ".
فكان يقول لها القس:
- تعيشُ النساء من خلال أجسادهن قريبات من طبيعة الحياة، وحينما تكون النساء في حالتهن العقلية الغريزية الصحيحة، فإن أفكارهن ودوافعهن للحب وللخلق وللإيمان وللرغبة تولد، تأخذ وقتها، تخبو وتموت، ومرة أخرى تولد من جديد، ويبدو أنكِ تأثرتِ بشخصية تلك المرأة التي تتكلمين عنها!
فقالت "أفراميا":
- وهل نؤمن بعقولنا؟ الإيمان لا يدخل إلينا من العقل، لأنه أسمى من عقولنا، وأنَّى لنا أن ندرك بعقولنا المحدودة ما يتعدى الحدود المباحة للحواس؟! نحن نلمس المادة الكثيفة، ونرى ما يستطيع بصرنا الكليل أن يبلغه، ونسمع ما يقرع آذاننا، ولكننا لا نستطيع أن نكابر في الحق، ونقول إن هذا كل شيء، فإنا نسمع عالمًا لا يكشفه السمع لو قنعنا في الإيمان بما تدركه الحواس.
فقال لها القس:
- أنا لا أعرف اسمكِ حتى الآن؟
- أنا اسمي.... أنا قلتُ لك من قبل اسمي! ألا تستنتج اسمي من حديثي؟
- يا ابنتي، حديثكِ عن واحدة اسمها "مريم"، كانت تعيش أيام المسيح، وشهدت صلبه وتعذيبه، ألا تقصدين "مريم المجدلية"؟
- نعم!
- وما شأنكِ أنتِ وشأن المجدلية؟!
- أنا المجدلية!
- أنتِ المجدلية!! يبدو -يا ابنتي- أنكِ مُجهَدة، أنتِ هنا بمفردكِ؟
- لا.. معي خطيبي مراد!
- وأين هو؟ لا أدري.
كان عليَّ التقدم وإظهار نفسي، حتى لا تتطور الأمور للأصعب..
- أفراميا أفراميا.. أين كنتِ؟ كنتُ أبحثُ عنكِ!
- مراد.. تعالَ أعرفك إلى أبينا.
- أهلًا أهلًا يا مراد، يا ابني، تسمح لي بكلمة على انفراد؟
- طبعًا أيها القس.
- يبدو -يا ابني- أن خطيبتك مضطربة، فهي تفوه بكلام غريب؛ تقول إنها المجدلية!
- أعلم أيها القس، فهي في بعض الأحيان تتقمص شخص المجدلية.
- لا بد -يا ابني- أن تُعالج قبل أن تُصاب في عقلها.
- نعم.. أيها القس، لكن لا أعلم كيفية علاجها، فالطبيب المُعالج لها سمعت أنه قد يئس من علاجها!
- اسمع يا مراد، يا ابني، خذها واذهب إلى كنيسة العذراء، واسأل عن الأب مرقس، واشرح له حالها..
- لكن أيها القس، أنا.. أنا... لستُ مسيحيًا!!
- لستَ مسيحيًا!! ولو -يا ابني- اذهب معها من أجل الإنسانية، لكن أنت غير مسيحي، وهي مسيحية فكيف تمت خطبتكما؟!
- هذا موضوع يطول شرحه، لكن الآن أريد أن أعالج "أفراميا".
آنذاك قاطعت "أفراميا" كلامي مع القس، وهي غاضبة وتقول:
- تركتماني وحدي فترة كبيرة.. لماذا؟ وفيمَ تتحدثان؟
فقلتُ لها:
- القس.... القس أنا لا أعرف اسمك؟
- اسمي "بنيامين"..
- القس "بنيامين" يقول إنكِ متعبة نفسيًا، ولا بد من علاجكِ على الفور!
ضحكت "أفراميا" وقالت:
- أتعالج نفسيًا، أنا مجنونة؟!
- لا يا ابنتي، لستِ مجنونة، لكن أنتِ فعلًا تحتاجين إلى العلاج، لأنكِ تقولين كلامًا غير منطقي، فأنتِ "أفراميا" لا "المجدلية"!!
قالت "أفراميا":
- أنا اسمي "أفراميا"، ولم أقل غير ذلك!
- ومن تُدعى "المجدلية"؟!
كان يقول القس هذا بعد أن وضع يده فوق رأسها، وأخذ يتمتم بكلمات غير مفهومة، ويبدو أنها تراتيل!
فقالت له "أفراميا":
- أنت أكيد تعلم من هي المجدلية!
- نعم يا ابنتي، أعلم، ممكن أن تذهبي أنتِ وخطيبكِ غدًا إلى الأب "مرقس" في كنيسة العذراء؟
- لا يمكن يا أبينا، فنحن مسافرون اليوم إلى القاهرة.
- يا ابنتي، بإمكانكم تأجيل السفر!
فقلتُ لها:
- يا أفراميا، ممكن أن نبيت اليوم في الإسكندرية، وغدًا نسافر..
- ماذا تقول يا مراد؟! أنسيت أمر عمي "بطرس"؟ وأين نبيت؟ أتظنُ أنني سأبيت معك في بيتك؟!
- يا أفراميا، ممكن أن تتصلي بعمكِ "بطرس"، وتطلبي منه أن تبيتي في أحد الفنادق حتى يطمئن، وإذا كان الأمر الذي يشغلكِ هو مبيتكِ عندي، فلكِ أن تبيتي في فندق إذا لم تثقي بي!
- أنا -يا مراد- أثقُ فيكَ جدًا، لكن عمي سيعترض، وأنا لا أريد أن أضايقه.
- حاولي -يا أفراميا- فالأفضل أن نذهب، كما قال القس!
اتصلت "أفراميا" بعمِها بطرس، وبعد مُحايلات كثيرة وافق.
شكرتُ القس بعد أن طلبتُ منه أن يصاحبنا غدًا عند القس مرقس، ووافق القس على هذا، وودَّعناه، واستكملنا تنزهنا، وفي الطريق قلتُ لأفراميا:
- أنتِ ذهبتِ معي إلى بيتي، وكانت أمي وأختي موجودتان بالبيت، فهل تثقين بي كي تبيتي في بيتي اليوم مع أمي وأختي؟
صمتتْ "أفراميا" ثم قالت:
- حاضر.. سأذهب معك إلى البيت لأبيت.
- شكرًا "أفراميا" على ثقتكِ بي.
رجعنا إلى بيتي في آخر اليوم، ودخلنا الشقة، وقلتُ لوالدتي إن "أفراميا" ستبيتُ مع أختي في غرفتها الليلة، فرحبت والدتي في بادي الأمر، لكن سرعان ما غيَّرت رأيها وقالت:
- لا يمكن -يا ابني- لا يمكن!
فبعد محاولات معرفة سبب رفض والدتي لهذا الأمر -على الرغم من قبولها به في البداية- تبيَّن لي أن والدتي رأت الصليب في صدرها، وقد نسيت "أفراميا" أن تخلعه قبل دخول الشقة.
قالت والدتي:
- أين عرفتَ تلك الفتاة؟ وكيف لك أن تصطحب معك أحد ليبيت في بيتك، وهو ليس من دينك؟!
- يا أمي، هذه الفتاة لها ظروف خاصة جدًا، لو عرفتِها أكيد ستشفقين عليها!
- يا ابني، أنت تحبها؟
- نعم يا أمي، أحبها جدًا جدًا.
- وهل حبك لها سيغيِّر دينها؟
- لا.. لقد اتفقتُ معها أن نتزوج، ويبقى كلٌّ منا على دينه..
- كيف -يا ابني- أنت تقول كلامًا غير منطقي، أنسيت أننا مسلمون؟! أنسيت أن القرآن لا ينقطع في بيتنا؟!
- لا يا أمي، لم أنسَ، لكن ليس بيدي، أرجوكِ لا تغضبي منّي أو منها، فهي إنسانة حساسة جدًا.
- افعل ما تراه صوابًا -يا ابني- لأنني أحذرك، فهذا الزواج أو الحب سيفشل!
- لا تسبقي الأحداث -يا أمي- ما يريده ربنا سيكون.
باتت "أفراميا" بجوار "منال" أختي، ويبدو أنها كانت غير مُرحَّب بها!!
وأنا كنتُ أنام كالسلحفاة؛ تنام على جانبها الأيمن، وتنظر إلى فوق وتتقلب، كي تتأكد أن السماء في موضعها الآمن!
الأمر الذي كلفني للاستيقاظ مبكرًا، وخرجنا من البيت، وعند مقابلة القس "بنيامين" ذهبنا إلى الأب "مرقس" في كنيسة العذراء، وبعد أن رحب بنا طلب أن ينفرد بأفراميا في إحدى غرف الكنيسة التي تبين لي بعد ذلك أنها مُخصصة للاعتراف!
ومن قبل عند دخولنا الكنيسة، بدا على وجه "أفراميا" الفرح، ورفعت عينها من الأرض إلى الأعلى، فوجدت أيقونة القيامة مُعلَّقة على الجدار، وحاملة عبارة: "المسيح قام من بين الأموات، ووطأ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور"، فقالت لتوها:
- نعم.. المسيح قام؛ أنا رأيته عندما زرته في قبره!
وبعدها رأت على الطاولة كُتيبًا يحوي خدمة الفصح المجيد، فتناولتها وأكبَّت على مطالعتها، وإنشاد ترانيمها، وقالت في همس:
- المسيح قام.. المسيح قام وأنا رأيته!
علمتُ أنا وقتها بأن "أفراميا" الآن بدأت تتقمص مريم المجدلية، فهي الآن مريم المجدلية!
فأقتربتُ من القس "بنيامين"، فأومأ لي برأسه:
- فهمت.. فهمت.
ونظر إلى القس "مرقس"، وبدأت بينهم النظرات الغامضة.
بعد فترة قليلة خرجت "أفراميا" من الغرفة ووجهها شاحب، ولا تريد التحدث إلى أحد، كما لو كانت أُصيبت بحالة من الذهول، فقلت للقس "بنيامين"، وقد كان يتحدث إلى القس "مرقس":
- ما أمر "أفراميا"؟! إني أراها خارجة غير ما دخلتْ؟!
قال لي القس "مرقس":
- يا ابني، إنها غير طبيعية، ولا بد من علاجها فورًا، سنبدأ بقراءة بعض الآيات عليها، وبعدها سنقوم بتعميدها من جديد!
أخذ القس يصبُ قليلًا من الزيت على شكل صليب في ماء الجُرن، بينما كنا نحن في حالة انتباه وإصغاء، وأخذ القس يرتل "هللويا.. هللويا.. هللويا.. هللوا للرب"، ثم قال: "تبارك الله الذي يُنير، ويقدس كل إنسان آتٍ إلى العالم"، وقال لها:
- انضمي إلى الجوق السماوي، فإن الله سيمنحكِ الأتي إلى العالم الجديد؛ الإنارة والتقديس، أنتِ تولدين من جديد.
وبعدها أخذ يمسح على جبهتها بشكل صليب، وقال آنذاك: "يمسح عبد الله بزيت الابتهاج على اسم الآب، والابن، والروح القدس، إليكِ شفاء النفس والجسد، إليكِ أن تسارعي القوى الشريرة".
نظرتُ إلى القس، وأنا مُتعجب، وقلت له:
- أنا لا أفهم كل هذا، فأنا مسلم كما تعرف!
- أنا أعرف -يا ابني- ولا بد أن تبتعد عنها، فهي ليست لك.
- لكني أحبها، وأريد الزواج بها.
- أي زواج يا بني؟! هي ليست من دينك، ولا أنت من دينها! أنت مجنون؟!
- لا أبالي بذلك، وكل ما أعرفه أنني أحبها، وهي تحبني، ولا أرى في زواجي لها خلافًا للشريعة الإسلامية، وأعتقد -أيها القس- أن المسيحية لا تُحرم زواجي بها!
- لكن -يا ابني- وما بال الذرية التي ستنجبانها؟!
- لا علينا -أيها القس- من هذا الموضوع، الآن كيف ستعالج "أفراميا"؟
- علاجها بجلوسها في بيوت الرب أكبر فترة ممكنة، وتلاوة الصلاة المُنجية عليها، لكن هذا سيكلفنا وقتًا كبيرًا، وأنا أعلم أنها ليست من الإسكندرية، لذلك سوف أعطيها عنوان أخ لي سيتولى علاجها.
فقلتُ له، وقد كان الفضول يتملك منّي:
- ماذا قالت لك داخل الغرفة؟
- إنها تقول: "لقد طرحتُ نفسي عند قدمي "عيسى" القائم من بين الأموات، وكدتُ أعانق قدميه الطاهرتين، لكنه قال لي: "لا تلمسيني، فأنا الآن غير من قبل، فقد تغيرت هيئتي، ووظيفتي؛ أن أصعد إلى الرب الإلهي".
وكلام كثير، أعتقد أنك لن تفهمه، لأنك مسلم يا مراد.
أخذ القس "أفراميا" مجددًا، لكن هذه المرة جلسا أمامنا في القاعة، ورسم علامة الصليب وقال:
- اشكري الله -أيتها الابنة الحبيبة- على أنعامه عليكِ بميل شديد للتمعن في حياة المسيح، وأتباعه، ولكِ أن تعرفي أنه نداء من الله.
كنتُ أستمع جيدًا لكلامهم، وبعد أن فرغ القس من الانفراد بأفراميا، واصلتُ كلامي معه....
أثناء كلامي مع القس كانت "أفراميا" تباطأت جميع الأحاسيس لديها، وهبطت مُدوّمة كما لو كانت تتصرف عبر ثقب أسود تحت قدميها، وقالت:
- مريم.. مريم المجدلية، اسمي "المجدلية".
وعادت وجلستْ إلى كرسيها، وزفرتْ نفسها ثم مالت إلى اليمين، ورفعت نظرها مجددًا إليَّ وأجهشت بمرارة بالبكاء، ثم قامت واصطحبتني إلى الخارج، وقالت:
- أشعر أنني لست أنا! أنا من؛ هل أفراميا أم....؟!
وصمتت، ثم عاودت الكلام:
- لا بد أن نرجع إلى القاهرة الآن، أنا في أشد الحاجة إلى عمي "بطرس"، أنا الآن مُحطَّمة، ليس لي آخر أتوقع أن يأتي اليوم أو الغد!
ليس لي غير نفسي التي لا أعلم من هي!
ليس لي غير جسم يموت.
أتراني لا شيء غير الجذور التي اقتلعتها أعاصير عقلي المريض!
أتوهم، وتوهمّي ضلال!
أتخيّل، وخيالي حجر صوان أسود.
فقمري فكَّ سرواله، أصبحتُ كجميزة من فوقها يأكل الطير، والنجوم كالندى الذي يتكسَّر من تحته الموج، ومن فوقه الريح ترقص بلا استواء...!
كان كلامها أشبه بالذي ينتظرُ لحظة خلاصه!
فجأة أحسستُ بضعفها حيال وهمها، فتقاصرت نفسي، فنبض قلبي وهبَّ ضميري، واعترتني رعشة البدن حين نظرتْ إلى عيني وقالت:
- بك أفرح، وإليك يكون تمام حلمي، ووصلي، وأنت على ما أقول شهيد.
ذهبنا نتمشى تحت أمطار النهار نلعب ونلهو كالأطفال، ونسينا كل شيء.
رجعنا إلى منزلي لنودع أمي، وسِرنا في طريقنا إلى محطة القطار لنرجع إلى القاهرة، كانت "أفراميا" طيلة الوقت تضع يديها ممسكة بيدي.
قبل أن نركب القطار، وكان الصمت ثالثنا، سيطرتْ على ذهني فكرة مُفزعة، طفقتْ تسري في جسدي كله، كالإحساس المهيمن الذي يعتريك حين تدخل قبوًا رطبًا عفنًا، ولاح لي حقيقة غريبة، وتذكرت كلام القس "وما بال الذرية؟"، وقتها تذكرتْ أن الموضوع أكبر من الحب، فسألتها فجأة وأنا أبغي أن أضع حدًا لذلك:
- هل يمكنكِ أن تدخلي الدين الإسلامي؟
فقالت هامسة دون أن تفكر حتى في الكلام:
- لا.. أنا أحب ديني!
ثم أبعدت عيني عنها، وكأنني كنتُ أتحدث إلى نفسي، علمتُ وقتها أن الكلام في هذا الموضوع خط أحمر، ولا يمكن الخوضِ فيه الآن على الأقل..
ركبنا القطار، وكلٌّ منا يبدو عليه عدم الرضا عن الآخر، فكان حديثها يزداد اقتضابًا، وانطفأت البسمة ولم يعد في وسعي أن أتحدث إليها، وخرج القطار من المحطة، وارتجل فوق قضبانه، ونحن لا نلتفت إلى بعضنا بعضًا، إلا عندما جاءت عاملة البوفيه، وطلبنا منها فنجانين من القهوة، بعدها بدأت تدندن في همس، وتلوح بأطراف عينها ناحيتي، وفجأة غرست أظافرها في كفي، ومالت على يميني وقالت:
- ممكن أن تحضنني؟
كان شعرها الأسود قد حُل وتبعثر على كتفيها، فشعرت وقتها أن العالم محض افتراء!
كان لجسدها رائحة كرحيق الزبد، وسماواتها البراقة تحت الضوء، وصدرها اللامع اللاهب، ووجهها المنحوت بأيدي الآلهة السومرية...
فهدأت العاصفة بيننا، وها هي سفن القاع تعلو وتعلو، وتنحدر صوب رغبتنا الأكيدة.
"""""الوثبة الخامسة"""""
***العودة أو الخيانة***
"العروج: مدوامة السعي والترقي، ومحاولة فتح الأبوب في الغسق".
بعد أن وصلنا إلى القاهرة، وكان المساء قد حلَّ، وكل شيء يحتفل بنا؛ القمر يتفتحُ ويكاد يكلمنا، وغيمة تنزل من فضائها تكاد تلامس ذراعينا.
وقفت "أفراميا" عند عتبة منزلها، ونفسها تسيل لوعةً وأسى، فما بلغت الباب حتى ألقت يديها تعانق رأسي، وتضمني إلى صدرها، باكية ناحبة، والهواء يتراقص بين ضفائرها المستخرجات من الليل والحكمة.
وتقول لي: "أشعرُ أنني أجيد العزفِ على الكمان، ألا تسمع دقات قلبي، هي تنبض بالحزن والأسي، وتقول لا تذهب؛ سأشعر بالوحدة والحنين!".
في ذلك الوقت كنتُ أشعرُ أنني أترنح على سطح زورق في عرض البحر، لكن كان عليَّ الذهاب خشية أن يراني عمها من النافذة.
لا أريد الذهاب إلى البيت أريد أن أتحدث إلى أحد، لكن لا أحد في هذه المدينة يعرفني.
قادتني الخُطا وجلًا إلى محل الورود، حيث تلك التي تُدعى "سارة"، وكما لو أن الظروف كانت ترتب شيئًا ما، عند دخولي إليها قالت لي:
- كنتَ في تفكيري حالًا!
فقلتُ لها بعد أن استرحتُ على كرسي بجانب مكتبها:
- وفي ماذا كنتِ تفكرين؟
- كنتُ أفكر فيك بعد أن حلمت ليلة أمس أنك في مشكلة، وأنا ساعدتك في حلها..
- لو قلتُ لكِ -يا سارة- أنني حقًا في مشكلة، تصدقينني؟
- خيرًا يا مراد، تكلم.. ما بك؟!
- أنا في مأزِق عاطفي، وأريد أن أتحدث مع أحد، كي لا أُصاب بالجنون.
- احكي لي يا مراد؛ نحن أصدقاء.
- تلك الفتاة التي رأيتِها معي في القطار (أفراميا).. أنا أحبها، لكن هي.... هي ليست مُسلمة، ولا أعرف ما نهاية حبي لها؟!
فقالت لي بعد أن انكمشت أسارير وجعها، واضطربتْ:
- تحبها!! لكن... لكن كيف وهي غير مُسلمة؟!
- لا أعرف، لكني أحبها وهي تُحبني.
فقالت لي بعد أن اقتربت منّي، وشعرها تطاير والتصق بوجهي:
- لماذا تحب إنسانة لا يربطك بها دين واحد، وأكيد يوجد نساء كثيرات من دينك تحبك! لكن أنت تتجاهلهن، أكيد هناك شيء مُميز في تلك الفتاة جعلك تحبها أكثر من غيرها!
- لا أعرف يا سارة، وكل ما أعرفه أنني أرتبطُ بها عاطفيًا!
كانت "سارة" تُحدثني، وهي ممسكة بخصلة من شعرها المسدول على كتفيها، وتفركها بأصابعها، ولاحت لي أظافرها التي تشبه حبَّات التوت البري، واستقرتْ النظرات، وكانت لا تحتاج إلى تبرير أو مقدمات، حينها اشتعلت الرغبة بيننا وتسلقتُ سماواتها القصية ببطء، وترجلتُ أرضها الخصبة على بساط الشهوة، وما من شيء يقف أمامي، وما من شيء يعوق حركتي.
خرجتُ من عندها، ونفسيتي مُبددة مثل فقمة بألف عين؛ أنظر إلى الحياة بإزدراءات، وتعزية، وبضرواة، ينبجس الألم من تحت قدمي، ووصلت إلى بيتي أستبسل في الفراغ الغويط، وأدخن سجائري المحشوة بسرطانات، وأتدحرج على حما من نار، وألوم نفسي، وأقول لها: "أصبحتُ مثل كومة من الوساخات والأتربة!".
ظلت صورة "أفراميا" تحملقُ في ذاكرتي كالفراشة الحزينة المُنكسرة، وأنا أصرُ الألم بأسناني، وأطارد الدمع بالأسى، فكان الدمع مثل حجر مُتفحم، والأسى مثل ذئبٍ رابضٍ في الفم.
اليوم التالي بعد معاناتي من تلك الليلة الماضية التي لم أذق فيها النوم، خرجت إلى عملي وتخيلت "أفراميا"، وهي تُلقي اللوم عليَّ، لأني خُنتها، وبلسانها تضربني بكلمات كالحديد:
"لماذا أغمضت عينك عن طريق الجنة، ووقفت بمفردك على مفازة بالجحيم؟!".
لم أستطِع مواصلة يومي في العمل، أسرعتُ وطفقتُ في الأرض كالحيران، إلى أن وصلت إلى بيت "أفراميا"، وظللتُ ماكثًا إلى أن حل الليل، فاتجهتُ إلى منزل السيدة "كريستينا"، كنتُ ألهثُ مثل ال.... وفجأة قالت لي "كريستينا":
- أظن أن "أفراميا" تركتك؟!
- لا.. لم تتركني بل أنا خنتها، وخنتُ نفسي.
- كيف خنتها يا مراد؟ أعرفتَ فتاة أخرى؟ لا عليك.. من بداية الأمر وأنا أعلم أن "أفراميا" ليست لك، أحمد الرب أنه لم يتم هذا الحب!
- أنا خنتها في لحظة ضعف، فكان الأمر لي عاديًا قبل أن أحبها، لكن الآن أشعر أنها زوجتي، وحين أتحدث مع غيرها فأكون قد خنتها!
- مع مَن خنتها يا مراد؟! وهل الإنسانة الثانية تحبها أم مجرد إشباع رغبة؟!
- أنا خنتها في لحظة ضعف، وكنتُ لا أملك وقتها اختيارًا، فالشيطان كان أقوى مني..
- وماذا أنت ناوٍ أن تفعله؛ ستستمر مع "أفراميا"، وأنت تعلم أن حبكما محكوم عليه بالفشل؟! وما ذنب الفتاة الثانية، ستجعلها تُحبك أيضًا؟!
- أنا لا أعرف ماذا أفعل، لذلك أتيت إليكِ.. انصحيني.
- اسمعني يا مراد، يا ابني، يمكن لك أن تختزنها في أواني الذاكرة الهَرمة، ويمكن لك كذلك أن تستنبتها في أصصٍ من العاج، كما يمكن لك أن تتركها وشأنها، وهذا هو الأفضل، ولك الاختيار.
- أنا الآن -يا كريستينا- تحت سماء رمادية حارقة، أتقلب بين ممرين من جبل شاهق وشجري مسكون بالعتمة، وبالكلمات الفوضوية....
خرجتُ من بيت "كريستينا"، ولا أعلم أي طريق أسلكها، حتى رن هاتفي، فإذا بأفراميا تصرخ وتقول لي: "عمي بطرس في حالة فقدان للوعي، ولا أظنها غيبوبة من المعتاد عليها.. ساعدني؛ أحضر معك طبيبًا على الفور".
أسرعتُ وأحضرتُ الطبيب، كان العم "بطرس" قد توفاه الله، هكذا قال لنا الطبيب، حينها خرتْ "أفراميا"، وسقطت على الأرض ناحبة تستقبل الأرض برأسها، وتقول:
"أبانا الذي في السماوات مجدت اسمك في هذا الكون المادي، البديع، ومجدته في تكوين الإنسان تكوينًا فريدًا معجزًا، فمجده في تصرفات الخَلق، وأقوالهم، وأفكارهم، كي يعرفوا أنك الصانع للعجائب وحدك، وأنك وحدك الجدير بامتلاك إعجاب العقل والدهشة؛ أنعم عليَّ بروح عمي تردُ إليه، فأنا بعده سأفقدُ كل شيء حتى نفسي سأفقدها، أنا المُطيعة لك.. أنا "المجدلية" رفيقة درب عيسى ابنك".
فقلتُ لها:
- ماذا تقولين؟! الأموات لا يحيون مُجددًا، عمكِ مات؛ ادعي له بالرحمة!
آنذاك استدارت، وأمسكت برجلي واحتضنتها، وقالت:
- إياك أن تتركني أنت الآخر!
- لا يا أفراميا، لن أترككِ، لكن عليكِ أن تعرفي أنكِ لستِ "المجدلية"، أنتِ "أفراميا".
كنتُ أحدثها، وهي لا تصغى للكلام، وأغشي عليها وعيناها ارتفعت إلى الأعلى، وتصلبت كالمشلولة، وكانت تكاد لا تتنفس! فأسرعت وحملتها من الأرض، وذهبنا إلى المستشفى، فحولنا الطبيب إلى مستشفى الأمراض النفسية، وهناك كانت المفاجأة؛ كل الأطباء يعرفونها جيدًا، وبالأخص الطبيب الذي يُدعى "أمجد"، وبعد أن هدأت ونامت ذهبت إلى غرفة الطبيب "أمجد"، وكان يفتح أمامه ملفًا أبيض مكتوبًا عليه "أفراميا"، فسألته:
- هل حالتها تسمح بالخروج أم لا؟
فقال:
- لا.. لا يمكنها الخروج اليوم، هي مُصابة بصدمة عصبية قد تكلفها حياتها إن لم تُعالج!
- وما العمل أيها الطبيب؟
- سنعطيها بعض الأدوية، والمهدئات، وبعدها نقرر.
- لكن لا بد من أن تبقى معنا.
- أكيد سأبقى معكم، لكن هذا الملف مكتوب عليها اسمها، ويبدو كبيرًا جدًا، ألا يمكنك أن توضح لي حالتها السابقة؟
- بالتأكيد..
وبعد أن سرد لي الطبيب ما كانت تفعله "أفراميا"، وهذا الكلام ليس بجديد عليَّ؛ فقد عاصرته معها، ويبدو أنها تحتاج إلى علاج فعلي!
صباح اليوم التالي ومن قبل كانت الكنيسة تولت دفن القس "بطرس"، وكانت "أفراميا" في حالة غياب عن الوعي كاملًا، ولا أحد يدرك ما السبب! إلا أن الطبيب "أمجد" كان يؤكد أنها ستصبح بخير، وما هو إلا مجرد وقت..
انتظرتُ حتى بدأت تفوق وشعرتْ بي، فأمسكتْ يدي وضغطتْ عليها، لقد كنتُ في ذلك الوقت تعبًا واهنًا، ولكني شعرتُ بملامسة يدها ليديَّ، حتى خُيِّل إليَّ أنني قد استحلت إلى طائر خفاق الجناحين، ولو أنها اقترحتْ عليَّ في تلك الساعة أن أطير معها في آفاق السماء لفعلت!
كان على الكرسي المقابل الطبيب "أمجد" نظر إليَّ وابتسم، وأومأ برأسه ناحية الباب، فهمت أنه يقول لي "تعالَ إلى الخارج"، وبعد أن خرجنا، وتركنا "أفراميا" منفردة على سريرها، قال لي:
- لقد لاحظت أنك مسلم وهي مسيحية، فكيف تمت خطبتكما؟!
- لسنا مخطوبين بل الآن نحب بعضنا بعضًا، والخطوبة والزواج فيما بعد!
- إذن -يا مراد- الخندق الذي بينكما سيمتدُ إلى ما لا نهاية، والصحراء التي تفصل بينكما ستغطي الأُفق، وفي نهاية الأمر ستظل هذه الصحراء عارية من أي حياة!
- سأردم الخندق بجسورِ المحبّة، وسأزرع تلك الصحراء بورد العِشق.
استغرب "أمجد" من كلامي وقال:
- أنت تحبها بقلبك فقط، لكن إن أحببتها بعقلك فسيبدو الأمر مختلفًا، فرجاءً أن تفكر في الأمر ثانيًا حتى لا تصيبها بصدمة أخرى، ومن الممكن ألا تتحملها، وكما ترى حالتها سيئة، فهي تعاني من اضطراب ثنائي القطب، ويكاد يصل بها الأمر إلى الانقسام في الشخصية، لكن بصورة أفزع وأكبر مما هي عليه، أرجوك أن تعيد النظر في العلاقة بينكما من الآن قبل أن تتعلق بك أكثر..!
- وما أدراك أنها لم تتعلق بي الآن كثيرًا! الأمر أصبح محسومًا يا دكتور، نحن نحب بعضنا بعضًا لدرجة الجنون..!
- تحبون بعضكم بعضًا لدرجة الجنون، وهي لا تملك التفكير الصائب!! أنت -يا مراد- في حياة "أفراميا" مجرد عتبة من عتبات حياتها الجديدة، هذه الحياة التي اختارها عقلها، فهي داخليًا ليست هي، هي تعيش كلامًا قرأته في بعض الكتب، وهذا الكلام تجسد وطفق على شخصيتها، أنا فقط أنصحك.. أنت مجرد وقت في حياتها، هذا وبالإضافة إلى مرضها النادر الذي لا يُشفى منه إلا القليل!
- أفهم من كلامك أن "أفراميا" يمكن لها العيش بمرض الاضطرابات الشخصية باقي حياتها؟!
- من الممكن جدًا يا صديقي، فهذا المرض نحن نحجمه فقط بالأدوية، لكن الشفاء النهائي منه غير وارد في قاموس الطب، إلا أن تحدث معجزة، وهذا أمر....
الأفضل لكم أن تبتعدوا عن بعضكما بعضًا، لأن زواجكما محال لأسباب اجتماعية؛ على رأسها اختلاف الدين، والسبب الأهم هو مرضها!
- لكن -يا دكتور أمجد- لا يمكنني أن أعيش بدونها، وأعتقد هي أيضًا كذلك.
ضحك "أمجد" من كلامي، واستأذن ورجع غرفة "أفراميا"؛ الأمر الذي جعلني أفكر في كلامه من جهة المنطق...!
رجع " أمجد" وقال لي:
- يمكنها الخروج غدًا على ألا تتعرض لأي صدمة نفسية، والآن أنا أعطيتها حقنة منومة، يمكنك الانصراف الآن لأنها نائمة، وغدًا نراك..
خرجتُ من المستشفى لا أعلم إن كنتُ أحتاج إلى الراحة في بيتي أم التسكع في الشوارع، ومطاردة القطط والضفادع! لا أدري أين أذهب، لكني ذهبتُ إلى أحد المقاهي القريبة من بيتي، وما استغرق الأمر كثيرًا حتى وجدتني أمام محل الورود عند "سارة"، وكان التردد ملأني؛ أأدخل أم لا!!
دخلتُ إليها، ويبدو أنها كانت تنتظرني، كانت نظرتها تقول:
"سأسوي لك بيدي هاتين أريكتك الخضراء، فتجلس عليها مطمئنًا، آمنًا، ولا تنظر إلى الزمن فما زال في الوقت مُتسع...".
أغلقت الباب، وقدَّت قميصها من دبر، ونادت على جسدها الذي يتحرش بقطيفة الهواء!
وها هو مطر الرغبة الأحمر يتسللُ إلى شوارع الجسد، ومنافضهِ، ويقف على النوافذ كشاهدِ، وغرف الروح فارغة، وباردة تتلجلجُ وتتربصُ لي برغبة جسدية، حينها أغلقتُ مفاتيح عقلي، ومهدتُ لجسدي أن يقودني، وكانت هي قد أعدت شصها لتصطادني، وكنتُ أنا كسمكة بلا زعانف..!
رجعت إلى بيتي، وكالعادة أضرب رأسي في حائط الندم، وأتذكر "أفراميا"، وألوم نفسي، فقد خنتها للمرة الثانية!
وتملّك الندم منّي، وامتلأ الليل المُبهج غير المأهول بالأسى، تلوّت الأيدي الإنسانية، وتقلّبت عبثًا تبغي راحة الضمير، وتنهدت القلوب وانطلقت صراخات داخلية، يائسة: "أنا مخادع.. أنا مخادع".
""""الوثبة السادسة""""
**المثول**
"السوى: خروجك عن الذات بالذات".
معلقٌ أنا مثل فضيحة مدوية، ومصلوب مثل خطيئة بألف رأس..
أنتظر.. أنظر إلى ساعتي!
هل توقّفت ساعتي؟!
لا.. لكن لا يبدو أن العقارب تدور، ألا أُراقبها؟
بخاري يصعدُ إلى السماء، وأنا جالس على طاولتي الخشبية أطارد الوقت، ثمة طيور ترفرفُ بأجنحة من خشب، يا له من منظر عتيق! السماء تندلقُ في كوب الماء الذي لا أشربه، وساعة الحائط التي تتكتك من سنوات لا تزال تمارس نفس المهنة، وأنا أمارس نفس الانتظار!
ينبغي التفكير في أمر آخر؛ أي شيء في اليوم الذي خلّفته ورائي نادمًا!
رغم تملل الانتظار والتفكير فقد جاء الصباح وشمسه مُختفية بين الأمطار، والرياح العاصفة، وقد نويت أن أذهب إلى أفراميا، فاليوم ميعاد خروجها، ودون أن أكترث بهطول الأمطار، وبعد أن احتسيت قهوتي المُرة، وأدخلت النيكوتين في عروقي، استقبلت باب المنزل بصدري، وذهبتُ إلى المستشفى.
دخلتُ إلى غرفتها، وكانت هي مُستعدة للخروج، وعند نهوضها من السرير بدأ يدبُ الوهن من أسفل عمودها الفقري إلى أعلاها وأمسكت ظهرها، واتكأت على حافة السرير، وحنجرتها تصلَّبت، وعزفت عن الكلام، وبدأت ضلوعها تؤلمها، وعرتها القُشَعريرة والارتعاش، وأصابها دوار..!
دخل الدكتور "أمجد" يتفحصها، وبعد خرجتُ معه إلى الخارج، حيث قال لي:
- إن "أفراميا" في أول الصباح فزعت من نومها باكية ناحبة، تستجدي العون منه، وتصرخ وتقول:
"لست أنا.. لست أنا "إيائيل".. أنا "المجدولية".. لا "إيائيل"!".
وحين دخلتُ غرفتها قصت عليَّ أنها حلمت بأنها تجلس على كرسي مُطرَّز بالجواهر، واليواقيت، بينا يجلس إلى جوارها الملك "نبوخذ نصر" داخل قصر عالٍ مبني على ضفاف دجلة؛ هذا الكرسي المنقوش بالرسومات البابلية، والمُحلَّى برؤوس الغزلان، والأيائل الصحراوية، وكان الملك "نبوخذ نصر" قد قدَّم لها من قبل المهر عشرة آلاف من رؤوس الأعداء، وآلافًا من الهكتارات الخصبة من الأرض الواقعة حول نهر دجلة والفرات، وأكداسًا من الذهب والفضة، التي زين بها القصر، وفرشه آنذاك من القطيفة، والحرير، لتمشي عليهم بقدمي ملكتين، وأن الملك كثيرًا ما كان يشبِّهني بالآلهة البابلية نظرًا إلى ما أتمتعُ به من جسد ثائر لا مثيل له، ومن شفتين كرزيتين، وعينين كرديتين من لهيب الكهرمانات، وحينما كان الملك يستعرض قواده وجنوده وهم يسيرون في صفوف متوالية، من مشاة وراكبي عجلات حربية، وقاذفي سهام، كان القواد يشرعون السهام عاليًا، وهم يهتفون باسم الملك المُظفر "نبوخذ نصر" باعتباره سليل الآلهة، تلك الآلهة التي كشفت له عن عُشبة الخُلد؛ تلك العُشبة التي جاب "جلجماش" يبحث عنها كثيرًا، وكان يجلس على عرش أورشليم آنذاك الملك "نيقونيديموس"، وكان هذا الملك يدرك أنني الجالسة بجوار الملك "نبوخذ نصر"، الذي كان دائمًا يقول عنّي: "تلك اللعوب!".
أنا "أيائيل" التي تمناها الآلاف من شباب بابل، وبنوا لي الحدائق المُعلقة والزقورات، وأحضروا لي كافة الهدايا الثمينة، فقد رأيت ذات يوم أن أورشليم بأسوارها التي لا تُقهر سوف تقع وتسقط في الملك الجالس جواري على العرش "نبوخذ نصر"، وسوف يعيد تخطيط شوارعها، ويسن لها ما يشاء من قوانين وتشريعات، نعم.. سوف تسقط أورشليم كما سقطت كافة المدن...!".
وكلام كثير ليس له معنى!!
فقلت لأمجد:
- لم نتخلص من المجدلية، تظهر أيضًا "أيائيل"!! عفا ربنا عنها!
- اسمعني جيدًا -يا مراد- من الأفضل عدم خروج "أفراميا" الآن..
- لكن -يا دكتور- هي تعلم بأنها اليوم سوف تخرج، ولا أظن أنها سترحب بفكرة بقائها ثانيًا هنا!
- يا مراد، هذه مهمتي، كل ما عليك الآن أن تذهب، ولا تأتي لحين أتصل بك.
خرجت من المستشفى، وأنا لا أقتنع بكلام الدكتور، رجعت إلى بيتي، ودخلت غرفة النوم الكئيبة المملوءة ببقايا السجائر، التي لا أعرف أين مفتاح إضاءتها، جلستُ فوق السرير الذي يعجُ بالحشرات، وأخذت أتذكر كل الماضي، وأغوص في غياهب الحاضر، كان ثمة وجه يطاردني كشبح بأجنحة بيضاء؛ وجه "أفراميا" بأساريره المُنفرجة، ونتوءاته المنحوتة بأيدي الآلهة السومرية! وأنا يقِظ أتحسس جسدها الوثير البض، وأحفظ دقات قلبها، وأغوص في عجين سُرتها، ولا حول لي.. يأخذني عطر جسدها، ويغادر صوب البلاد البعيدة، واللجج النجم، ثم تنكشُ، وبيديها ريش رغبتي الأبيض المُتخضب بلون خُضرتها، وأنا أنهشُ من ثديها، وجسدها، وسُرتها، وفمها الكرزي، فلا يتبقي إلا سلسلة الظهر، وبقية الأطراف، وجداول صغيرة من العرق الهابط من نهديها، وأخذتُ أفتش عن كل بذرة نيئة وحامضة في ساقيها، فأنضجها وأمسدها بريقي... آنذاك تجمعتْ القطرات الصغيرة، كما اللؤلؤ تدحرج دحرجات كبيرة، وتنفضُ فوق صدري، حتى قرع جرس الباب الصاخب، الذي كالعادة كثيرًا ما يدقُ في غير وقته.
فخرجتُ من نقطة الدائرة، واتكأتُ على ركبتي الهشتين، وفتحتُ الباب، فكانت "سارة" التي لا أعرف كيف لها معرفة عنواني..!
- أهلًا سارة..
- أهلًا مراد، يبدو عليك أنك مشغول.. أتمنى أن يكون الوقت مناسبًا لزيارتي..
وأخذت تدور بعينها في أركان البيت، كما لو كانت تظنُ أن معي أحدًا!
- كيف عرفتِ مكان بيتي؟
- أنت لا تعرف أني مكشوف عنّي الحِجاب.. هههه!
- عمومًا -يا سارة- أنتِ أتيتِ في وقتكِ.
كنتُ أحدثها وعقلي يتذكر كل خلية في جسدها الأبيض!
- أتحبين الجلوس في الشرفة، ونحتسي قهوة؟
- أنا أحب القهوة، لكن أكيد الجو في الشرفة بارد، ممكن أن نشرب القهوة هنا..
وأشارت بيدها إلى غرفة النوم، وكانت تبتلعُ ريقها، وجفنها يرتعشُ!
- طبعًا.. أكيد.
ذهبت لإحضار القهوة، ويبدو أن الوقت مهم جدًا بالنسبة إليها، فقد سبقتني إلى غرفة الطعام، وأخذت تحتضنني من الخلف، وأظافرها تدبُ في شعر صدري، كما لو كانت تحاول تضفيره، فاستدرتُ إليها، ورحتُ أتدثر تحت أمواج شعرها، وسمعتُ دقاتِ قلبها تتقبقبُ قبقبات عميقة.
ويدها تلتوي بخاصري، فإذا بي أتدلى في الفراغ المنحوت بين نهديها، وأتشممُ رائحة عرقه النفاذة، وكلما أحاول إبعاد نفسي تقتربُ منّي أكثر، فإذا بنا جسد بأربعة أرجل، تناغمت خطواتنا في انسجام والتصاق حتى خرجنا إلى الصالة، فخلعتْ عنها قميصها المزركش القريب للون البنفسجي، وألقته على أحد الكراسي، وقذفتْ بي إلى غرفتي، وكان السرير على أهبة الاستعداد لملاقاتنا...
فجأةً سمعت صوت ذلك اللعين يضرب أذني جرس الباب، ارتديت بعضًا من ملابسي، وأسرعت لأفتح الباب، وكانت صدمة لي؛ كان السيد "أنطونيو" وزوجته "كريستينا" يقفان على عتبة الباب، فامتلكني الفزع، وفي نهاية الأمر أذنت لهم بالدخول، ورحبتُ بقدومهم، فقالت لي "كريستينا":
- لقد ذهبنا هذا الصباح إلى المستشفى للاطمئنان على "أفراميا" بعدما علمنا بما حدث لها جراء موت عمها، لكن الأطباء رفضوا زيارتنا لها، وقالوا: إنها لا يمكن أن تقابل أحدًا اليوم، فأتينا إليك لنعرف ما أصابها، وهل هي الآن في حالة جيد أم لا؟
كانت " كريستينا" تحدثني وأنا لا أصغي جيدًا لكلامها، فكان فكري كله في عدم رؤية قميص "سارة" المركون على الكرس المجاور لكريستينا.. ناهيك أنني كنتُ أخشى أن تتلفظ "سارة" بكلمة تستدعيهم للانتباه إلى الغرفة! كررت "كرستينا" كلامها، لكن هذه المرة كان بغلاظة، ويبدو أنها رأت القميص، فكانت نظراتها لي تبدو بكراهية، وكلامها حين سألتني "أنت معك أحد هنا؟"، ولم أرد! لكن عند خروجهم أومأت هي برأسها، واستدارت ناحية القميص، وقالت لي:
- يبدو عليك الانشغال، سوف نتركك حتى تواصل ما كنت تفعله!
حاولت أن أمنعها من الوصول إلى الباب، وتلجلجتُ في الكلام، لكنها سحبت يدي بقوة من على طرف الباب، وقالت لأنطونيو:
- يبدو أننا جئنا إلى الشخص الغلط!
بعد خروجهم كانت "سارة" قد أعدَّت نفسها للخروج، وقبل كان عليها أن تتذكر الجسد وهو يمسكُ بين شفتيه الغرينيتين تلك النظرة الأجيرة التي تبحثُ عن اللذة بين الجسد والفم! أطالت في وداعها حين اقتضمت شفتيَّ، وهي مُمسكة برأسي تلاطف صدرها فوقها.
قالت لي:
- أنت الآن ترقد تحت خمائر جسدي وعصائره، ولنقفُ معًا على رصيف الزمن الصلب، ولنشهد معًا في ليلة باردة تفكك السماء، ومعًا سوف نقف على شفا الجنة لنقطع المسافة بيننا، وبأصابعنا التي ينزُ منها الشهد سوف نحفرُ بئر الأبدية الفارغة.
التفتت وألقت قميصها البنفسجي على جسدها، ولاحت بعنيها التي راحت تتسللُ من خلف الأسوار الشائكة، لتلقي نظرة أخيرة عليَّ....
أغُلِق الباب بعد خروج "سارة"، وفُتحت أبواب أخرى كثيرة لا حصر لها؛ اللوم.. الندم.. الحيرة..
أسرعتُ وارتديتُ ملابسي عازمًا الوصول إلى "أفراميا"، وحين وطأت إلى غرفتها بعدما تحايلتُ على الأطباء، كانت نائمة كالملائكة، أو بالأحرى كانت ملاكًا نائمًا.. تأملتُ وجهها الذي لا مثيل له، ونفسي تحدثها:
"قومي أيتها الأميرة، واغتسلي من نومكِ، فحشيشتكِ العالقة بين ركبتيكِ تمتدُ بردانة نحو شمسكِ، فسوف تعرفُ أشجار التفاح، وأوراق التوت البري ما كان لها أن تحضر إلا فوق شفتيك النبيلتين، قومي أيتها الجميلة المصنوعة من عصائر الحجرِ الكريم، ومن عسل الأنهار، وفاكهة الجنات".
دخل الدكتور "أمجد" الغرفة، وطلب منّي المُغادرة، وقال لي:
- لقد نامت بأعجوبة! فطيلة الليلة السابقة كانت في حالة هياج عصبي، وأعطيناها أكثر من نوع مهدئ ومنوم!
- لمَ كل هذا يا دكتور؟!
- هناك أمر لا نفهمه، الموضوع ليس موت عمها فقط، الأمر أكبر من هذا! ولو لم أكن طبيبًا وأعلم أنها تعاني من اضطرابات نفسجمانية لصدقت أنها ملبوسة من جن، فهي تتحدث عن شخوص في الأزمنة الغابرة، كما لو كانت هي نفس الشخوص، ولا أعلم إن كانت قد قرأت عنهم في الكتب، أم أنها تتخيلهم؟!
- لكن -يا دكتور- أنا لا بد أن أكلمها الآن..
- لا.. لن تصغي لك؛ فهي نائمة نومًا عميقًا جراء المنومات.
- يمكنني الجلوس بجانبها، وأوعدك لن أتحدث إليها؟
- ممكن يا مراد، لكن... لكن تعدني ألا تزعجها.
- أعدك بذلك، ممكن حضرتك تتفضل، وتغلق ضوء الغرفة، وأنا سأجلس بجوارها.
وبقيتُ حتى ساعة متأخرة من الليل، حتى غلبني النعاس، وخرجتُ من بؤبؤ اليقظة إلى عتمة النوم، ومسارب الأزمنة، في حين كانت هي تستسلم للنوم، ولا تعبأ باليقظة، كنتُ أنا أسير وفق هواء الرغبة، وفي حلمي أتجول بين مراثي وغيابات الاسم، وأتمددُ كعشبة طرية على صهد أنوثة بالغ، وأحتسي ذؤابات المرجان، وأغلقُ عيني عن الفروجات، وأنتهي إلى المكان ذي المغاليق..
هكذا بدأ حلمي، والمسافة بيني وبين "أفراميا" كمشكاةٍ أوقدها بالليل، لأحتفظ بنورها بالنهار!
رأيتُ أني أخلعُ على الرأض ما أنوء بحمله من أثقالٍ، وأتوكأ على خرابات الإثم، وأهشُ على أوجاعي وتلاويني، بما أحفظ من أدعية وتباريح، وأقيمُ ولائمي في الفضاء، وأنا جائع للجسد وأهازيجه، وأقفُ على حصى الشهوة، وأرتعشُ كالقشة، وأصرخ:
"أيها الجسد يا قرين البدايات، ويا صبغة الرب، كيف أتجمل لك، مثلما تتجمل لي؟! كيف أمتثلُ لكمالاتك مثلما أتمثل بك؟! كيف أمتلئ بكمالاتك؟! مرجان الرغوة أنت، وياقوتة السماوات، وعشبة الأرض".
حينها نهضت "أفراميا"، وأظن أنها استغربت وجودي، وفزعتُ أنا من نومي حين لاطفت هي وجهي، وهمست:
- مراد.. مراد.
- حمدًا لله على سلامتكِ حبيبتي.
- سلمك الرب حبيبي، مذ متى أتيت؟
- منذ الصباح، أحببت ألا أتركك وحدكِ في هذه الغرفة..
- لقد فعلتَ الصواب يا حبيبي.
- أنا أريد أن أخرج من هنا، لا أريد البقاء، أشعر أنني في حالة جيدة، أريد أن أرى الشوارع!
- حاضر حبيبتي، عند وصول الطبيب سأطلب منه هذا..
- أمجد سيرفض.. أنا متأكدة.
- لا تخافي، سأحاول إقناعه.
- سوف أخرج، لكني لا أريد الذهاب إلى بيت عمي، لا أريد أن أرى المنزل بدون عمي، لا أستطيع البقاء فيه..
- عند خروجكِ سوف تأتين إلى منزلي لحين تهدئين، وبعدها ترجعين إلى بيت عمكِ.
- لا.. لا يا مراد، هذا لا يصح؛ سأذهب إلى بيتي الذي وُلِدت فيه، والرب يصبرني، فأنا متأكدة أن صور أبي في البيت سوف تشعل الحنين داخلي.
- لا.. سوف تذهبين إلى بيتي -يا أفراميا- ولا تخشي مني!
- أنا لا أخشى منك، لكني لا أريد أن ينظر أحد إليَّ نظرة سيئة، من فضلك سأذهب إلى بيت أبي.
- كما تحبين، لكني سأزوركِ يوميًا لأطمئن عليكِ.
دخل الدكتور "أمجد"، وطلبنا منه خروجها، وكان الرفض قاطعًا في أول الكلام، لكنه اقتنع بكلام "أفراميا"، وكتب لها جواب خروج.
""الوثبة السابعة""
**فراق محتوم**
"الحضرة: استحضار نوازع الكمون في الظهور".
رأيتني أرتجف من شدة البرد، متدثرًا بغطاءٍ من الصوف، وأتسللُ من تحت الغطاء، وكانت أصابع قدميَّ تتلاقى صقيع الأرضية، بحثتُ بعينيَّ عن زجاجة المياه، وكانت فارغة، فاضطررتُ إلى أن أقطع المسافة الباردة من الغرفة الدافئة إلى غرفة الطعام في آخر الطرقة، ثم عدتُ وتقرفصتُ مكاني، وشعرتُ أثناء رجوعي تحت الغطاء أن ركبتيّ تخوران، ووجدتُ نفسي على وشك السقوط إلى الأرض، لم أكن أسمع شيئًا، ولا أرى شيئًا، ولبثتُ متبلد الذهن، وأظن أن درجة حرارة جسمي ترتفع.. وترتفع.
مددتُ يديَّ لألتقط هاتفي، وأحاول الاتصال بأفراميا في بيتها، لكن لا أحد يجيب، ويبدو أنها نائمة، اشتد عليَّ التعب ووهنتُ، والعرق يتصبب من رغم برودة اليوم، كنتُ أشعر أنني أموت، أو على الأقل سيغمى عليَّ! كانت "سارة" قد خطرت ببالي فأتصلت بها، وشرحتُ لها حالتي، فسرعان ما أتت، وأحضرت معها الطبيب، فقال: "إنه دور برد عادي"، وأعطاني حقنة، وتحسنتُ، فشكرتُ "سارة" بعد أن أصبحت في حالتي الطبيعية.
انصرفت "سارة" بعد أن أعدَّت لي بعض الطعام، وقالت لي:
- سأزورك بالغد في الصباح لأطمئن عليك..
ثم خلدتُ إلى النوم.
جاء الصباح وأيقظني صوت رنين هاتفي، كانت "أفراميا" تتصل بي، وبعد فترة قليلة جاءتني البيت، ومن قبل كنتُ أعطيتها نسخة من مفتاح الشقة، وبعد أن دخلت إلى الغرفة، ويبدو عليها القلق حيال ما جرى لي بالأمس، احتضنتني، وأعطتني بعض الأدوية، وذهبت إلى غرفة الطعام لإحضار بعض الأطعمة، وطلبتُ منها الاتصال بعملي وشرح حالتي، والاعتذار عن عدم حضوري.
قالت لي:
- أنا متوترة؛ لقد لمحتُ "كريستينا" تقف في الشرفة، ويبدو أنها رأتني.. أنا في شدة الخجل، فربما تفهمني بسوء، سوف أذهب إلى بيتها وأقول لها إنك مريض، وأنا جئت لزيارتك، عساها ألا تظنُ فيَّ ظن السوء..
انصرفت "أفراميا" إلى بيت "كريستينا"، ولم يمر دقائق إلا وقد حضرت "سارة" إليَّ، وكما لو كنت رأيت شبحًا حين رأيتها، فأنا أعلم ما الذي سيتم بعد، وكنتُ أخشى عودة "أفراميا"، لذلك حاولت جاهدًا أن أُصرِف "سارة"، لكن يبدو أنني لم أنجح، أو بالأحرى كانت قد جاءت لغرض....
استمر وجودها أكثر من ربع ساعة، وأنا أعيش هذه الفترة كما لو كانت سنين من شدة قلقي، حاولت "سارة" في تلك الدقائق المعدودة أن تُثير شهوتيّ، لكني كنت أعلم بقدوم "أفراميا" في أي وقت.
قالت لي "سارة":
- حبيبة القلب "أفراميا" تتصل بهاتفك، ومن شدة توتري كنتُ لا أصغي لسماع رنة هاتفي.
- أهلًا أفراميا، لمَ لم تأتي؟!
- أنا آسفة يا مراد، لقد تذكرت شيئًا مهمًا، سوف آتيك غدًا.. مع السلامة.
بعدما أغلقتُ الخط معها استدرت، كانت "سارة" خلفي واقفة تنزُ بالشهوة، وأنا امتلكتُ قوة كبيرة بعد سماعي للمكالمة، فأخذتُ ألملمُ شباكي الطافحة بالشهوة، وأضيفُ إليها شراهة الجنس، وقسوة الرغبة، فالتقيتُ بجسد "سارة"، كالأسد الذي ينقض على فريسته، ولم أعطي لنفسي، ولا لها فرصة الدخول حتى لغرفتي، كانت صالة المنزل هي غرفتنا الوثيرة!
كنتُ أظن قبلها أن الرجل إذا خلا بالمرأة فإنه يعتليها، لكن الذي جرى لحظتها هو أنها اعتلتني، ولا أسطتيع أن أكتب أكثر من ذلك!
مررتُ يديَّ الضالتين على كنوز جسدها النفاذ الذي يتفجر منه نبع أنوثة شره، شرس، وتحت سخونة نهديها المُحليين بلؤلؤتين أخذتْ روحي تنجرفُ عبر مدائن حرقتهم، وهي تتمرغُ بين ركبتي كطائر مُحترق، أو كأحد الثيران الجريحة، فيما كانت عيناها تصغيان جيدًا لوسوسة جسدي، كنتُ أنا أرتمي في جسدها، كحبة اللقاح؛ أتشمم رائحة سرتها وردفيها، وقمرها المشقوق.
انتبهتُ وقتها إلى سمرتي التي تلونت بالأحمر، فصار جسمي لون الشمس من فرط الدماء، وعندما رأيت جسمها الأبيض الذي يشعُ بالأنوار، تيقنتُ أكثر من سمرة جسمي.
ودون أي استعداد، أو على الأقل شيء يستر جسدنا العاري، دخلت "أفراميا" أو بمعنى أنسب دخلت من كانت تُحبني من باب الشقة دون أن نشعر بخطواتها، أو حتى أنفاسها!
لم تقل شيئًا كما لو كانت غير مصدومة، فكل ما فعلته أنها بصقت من فمها، واستدارت وخرجت من الباب، فأسرعتُ وراءها وأنا أرتدي ملابسي على أعتاب الدرج، لكن لم ألحق بها، في حين كانت "كريستينا" صاعدة الدرج، فأمسكت بي من رقبتي، وقالت:
- قلتُ لك ابتعد عن "أفراميا"، هي ليس لمثلك، هي إنسانة نقية، وأنت إنسان ملوث..!
كانت "سارة" قد لحقت بي على السلم، فنظرت إليها "كريستينا" وقالت:
- هذه هي من تُشبهك!
واختفت من أمامي، فصعدت إلى شقتي برخامي المُنسلخ من مرمر الجحيم، وبيأسي الذي يشبه البِرك الطافحة، وأخذت أعدُّ السجائر المنطفئة التي قاربت المئة، وأنا أنظر إلى سقف الغرفة، كالفراشة المُحرق جناحاها.
ومن تحت وطء الرغبة في الزمن المنهك على مقعد الأبدية الفارغ، وفي حلكة الظلام الدامس سرتُ بين الطرقات المؤدية إلى بيتها (بيت أفراميا)، وأخذت الدائرة في الاكتمال، لففت حول البيت أكثر من مرة عساي أن أرى نافذة واحدة مُضيئة، أهتدي بها لوجودها، حتى الصباح لم أشعر بوجود أحد في منزلها، إلا بعض من ثنايا عطرها النفاذ الذي يجوب أركان المنزل.
ومن زواية ضيقة حرجة، وزوايا روح خربة كروحي المُنجرفة المهزومة أخذتُ بعض النجوم، وتدثرتُ بها تحت أغطية الحلم البائد، وقلت لنفسي:
"ماذا عليَّ أن أفعل سوى أن أطأ الوحدة التي ترفع رأسها عاليًا، وحيدًا بقدمين ضالتين، ومشققتين تمامًا".
ترجلتُ أرضها اللانهائية، ولامستُ عُشبها الطري، وتحت شمسها السخية البهية أخذت روحي القلقة توسوس لنفسي، حتى أسمعتني طقطقة قلبي المُحترق.
تمالكت من الشجاعة، وذهبت إلى السيدة "كريستينا"، وأنا أعلم أنها ستُسمعني ما لا يُطيبُ ولا يلذ، لكن. لم يكن مُرحبًا بي، ولذلك أصررتُ الألم بأسناني، كجينرال خارج من حرب بدون أوسمة، أو نياشين.
قالت لي الكثير من العِتاب، واللوم، مع بعض من التوبيخ، لكن كنتُ مُضطرًا لسماع كل هذا بنفس راضية، فأنا أعلم بخطيئتي:
- أنت -يا مراد- لا تُحبها، فمن يحب لا يمكنه الخيانة، ولا الخداع!
- أنتِ تعلمين جيدًا -يا كرستينا- أني أحبها!
- كنتُ أظنُ ذلك، لكن...
- لا.. أنا أحبها.
- أنت تحبُ "أفراميا"، فلماذا اصطحبت بائعة الورود إلى منزلك؟! أكنتَ تختبرها في بيع الورد؟!
- كيف عرفتِ أن الفتاة التي كانت معي بائعة ورد؟!
ضحكت ضحكات صفراء ساخرة، ثم قالت:
- أنا نسيتُ أخبرك أن "أفراميا" لما جائتني، وقفنا بشرفة المنزل وبصدفة من الرب كي يكشفك لمحتْ "أفراميا" تلك الفتاة التى تُدعى "سارة"، وسمعتها تحدث نفسها: "ما الذي أتى بسارة بائعة الورد إلى هنا؟! أهي صاعدة عند مراد؟!"، وظلت تنتظر خروج الفتاة من عندك، لكن الوقت أصبح ليس بقليل، فاتصلت بك وقالت إنها لن تأتي مُجددًا إليك، وسوف تجيئك في الغد!! ويبدو أنها كانت تدبر لضبطك مُتلبسًا في أبشع جريمة ممكن لإنسانة أن تصادفها.. الخيانة!
- يا كريستينا، ممكن أن تساعديني..
- أساعدك!! أنا من البداية لا أقتنع بهذا الحب، فكيف لي أن أساعدك؟!
- أرجوكِ أعطيني فرصة أثبت لها أني لم أخُنها إلا لحظة ضعف منّي.
- اتركني الآن يا مراد، وحينما أتوصل إلى حل، وأقتنع أني ممكن أساعدك سأتصل بك.
"""""""""الوثبة الثامنة"""""""
**الراهبة**
"الوشل: رغبة القلب في التعاطي".
في الرنين الأجوف لساعة الحائط، وحين يجلس الزمن فوق كرسيه المعتاد بعد أن أرخيت له الحبل على الغارب، وقدمتُ له المنّ، والسلوى، وأطعمته السكر، وأرشدتُ اليه الكوابيس الليلية والنهارية، وأجلسته بعد ذلك على المائدة جواري، وفي نهاية الأمر أوقفته معي تحت نافذة البيت، تركته وذهبتُ إلى غرفتي، وأغلقتها بالمفتاح، وأطفأتُ المصابيح كافة، ونمتُ بجوار أحلامي كالدببة المُسنة، وطردتُ من حولها الذباب الذي يطن، واضعًا ذراعي تحت رأسي، ومحدقًا إلى الصورة المُعلقة بحائط الذاكرة الهرمة، لعلي أنسى صاحبتها!!
غير أن حلمًا واحدًا متكررًا أخذ يطاردني باستمرار، ولعدة ليالٍ خلت، وهو كيف لي أن أخُون "أفراميا"؟! وإذا بي أكتشفُ أن الشمس العالقة في سقف غرفتي لا تزال تغطُّ في النوم تحت أغطيتي البردانة، وأنا أجلسُ وحيدًا مثل وعلٍ أعمى على أريكة فضفاضة من النعاس.
وبعد وقد تعبتُ من الوحدة؛ تلك الوحدة الشرسة اللعينة أخذتني ونزلتُ من سلالم بيتي إلى الشارع، كي أقف على الناصية، وأعيد تخطيط العالم؛ السماء من ناحية، والأرض من ناحية أخرى، والنجوم من هذا الجنب، والشيطان في ذلك الاتجاه، وإذ بيدٍ تلوح لي من بعيد.. "كريستينا"!! ذهبتُ إليها، وجلستُ إلى جوارها، حدثتني في أول الكلام عن حالي، وأظنها كانت ترى ما هو حالي، وإلى أي مدى وصلت!
قالت لي:
- إن "أفراميا" تعيش مرحلة خطرة جدًا، وهي تقريبًا لا تخرج من بيتها بعد أن تشاجرت مع إحدى راهبات الدير، ورُفِضت من دخول الدير!
- دير!! أي دير؟! أنتِ تتكلمين عن "أفراميا"؟!
- نعم يا مراد..
- وما دخل "أفراميا" بالدير الذي تتحدثين عنه؟
- هذه حكاية طويلة يا "مراد"؛ بعد أن خرجت "أفراميا" من عندك وهي غاضبة كما تدري، ذهبت إلى بيتها، حزينة منكسرة، زرتُها في نصف النهار لأطيب خاطرها، لكنها كانت مشغولة بأمر ما؛ فبينا دخلت "أفراميا" غرفة المكتب الخاص، وأخذت تبحثُ عن صور لها مع أبيها، وقعت في أيديها مجموعة من الأوراق مطوية، ويبدو أن الزمن نال منها، فكانت تميل إلى اللون الأصفر، وكانت إحدى الأوراق مكتوب فيها أن راهبًا قديسًا من دير "سمعان الخراز" يُدعى "بخوميوس" تنبَّأ للسيد"غناطيوس" والد "أفراميا" أن سلالته سوف تنقرض بموته! وهو لم يُرزق إلا بابنة واحدة (أفراميا)، وكان هذا الراهب متنسكًا متقشفًا، يقيم في صومعة مرفوعة فوق الأرض أقدامًا كثيرة، كان يقيم فيها منفردًا، مُتعبًا، دون أن يدرك الناس السر الذي حدا بهذا الرجل الراهب إلى الانفراد في مثل هذا المكان العجيب بجوار الدير!
يبدو أن والد "أفراميا" كان قد كتب مذكراته دون علمها؛ الأمر الذي دفعها للذهاب إلى الدير والسؤال عن هذا الراهب، لكن علمت هي أن الراهب قد توفي.
- ولماذا ذهبت"أفراميا" إلى الراهب؟
- لأن الورقة مكتوب فيها عند موت والد "أفراميا" ستنقرض سلالته: أي أن "أفراميا" ستموت أيضًا! فلذلك ذهبت إلى الراهب، وعند دخولها الدير رأت بعض الراهبات، وتمنت لو تكون واحدة منهن، وعندما أتاها أحد المسئولين عن الدير، وباركها تحولت "أفراميا" إلى الشخصية الثانية لها -كما تعلم- "المجدلية"، مما جعل كل القائمين على الدير يواسونها، وكانوا يظنونها مجنونة، لكن حين تحدث إلى كبير الرهبان في الدير الذي يجمع كل الفضائل التي تخوله إلى هذا المنصب الديني، أدرك أنها إنسانة متزنة، وعاقلة لكنها مُتعبة نفسيًا، مما جعله يطلب منها أن تغادر الحياة، وتتحول إلى راهبة؛ كونها تعلم كثيرًا عن حياة المسيح، فرحبت "أفراميا" بهذا بل وفرحت، وبعد أن أعدت تجهيزات المغادرة من منزلها، وللعيش في الدير، طلب منها الراهب ألا تستعجل، وكل ما عليها أن تأتي الدير كل يوم وتذهب لتبيت في منزلها، ويبدو أن الراهب كان يجهزها نفسيًا لهذا الأمر.
اليوم الأول لها في الدير بعد أن طلبت من الأب "مرقس" أن يكون لها أب اعتراف، وقد ارتدت الثياب الرمادي الخاص لهذه المرحلة، جلست "أفراميا" في المكان المُخصَّص لأمثالها، وقد زكاها الأب "مرقس"، وأوصى عليها الراهبة الكبرى، وجلس معها مجموعة من الراهبات المبتدئات مثلها، وكانت ليلة هذا اليوم حالكة السواد، ممطرة، عاصفة، وبعد أن أنهين الراهبات صلاتهن، وجلسن قرب الموقد المضطرم النار، يروين القصص الروحية والأخبار المُقدسة، والكل التف حول الموقد يصطلي بناره، ويقهر بها البرد اللاذع، إلا "أفراميا" كانت لا تزال تُصلي، وصلاتها تختلف عن صلاة رفيقاتها الراهبات، وإن كانت تشترك في الصلاة المفروضة عليهن في ذلك الدير، وبعد أن فرغت "أفراميا" من صلاتها غاصت في تفكيرها، مما استرعتْ إيماءاتها انتباه الفتيات الأخريات، فكان تفكيرها بصوت مسموع، حيث كانت تروي قصص الآلام الذي خاضها "عيسى"، كونها هي "مريم المجدلية"!
وقد حاولت خرق حجب الأسرار العميقة الغور، إلا أنها اصطدمت بذلك الحاجز المتين، ألا وهو "من أنا؟!"، وكثيرًا ما انسكبت دموعها على خديها وهي تغرق في التفكير، وحاولت رفيقاتها الوثوب إلى أعماق تفكيرها، ورفع الستار عن أسرارها، إلا أنهن عجزن عن انتزاع السر من بين شفتيها، وقالت إحداهن: "يبدو أن هذه الفتاة مريضة نفسيًا!".
لم تنتبه" أفراميا" إلى كلام تلك الفتاة أو بمعنى أدق تجاهلتها، وواصلت كلامها، والراهبات يستمعن إليها بتمعن وشغف، إلا تلك الفتاة كانت كثيرًا ما تسخر من أي كلمة تتفوها "أفراميا"!
مرت أولى الليالي لها في الدير دون أن يحدث شيء ينغص على بقاء "أفراميا" في الدير، إلا بحلول الليلة التالية، حيث كان الدير يستعد لتكريس إحدى الراهبات الأكبر سنًا، ووثوبها للقمص وصلاة التجنيز عليها.
ذهبت الفتيات المستجدات ومعهم "أفراميا"، حيث وقفن إلى جوار القمص، وأخذن يرتلن آيات من الإنجيل، وكانت الآية: "وبعدما قام باكرًا في أول الأُسبوع ظهر أولًا لمريم المجدلية، التي كان قد أخرجَ منها سَبعَة شياطين" (مر. ١٦ :٩) قد ذُكِرت ضمن الآيات، فتبسمت "أفراميا"، وضحكت بصوت عالٍ، والكل انتبه لها، وقالت وهي ممشوقة الجسم: "نعم.. لقد ظهر لي، ألم أقل لكم؟!".
استغرب الجمع من كلامها، وثارت ضجة كبيرة في القاعة، وذهب القمص إليها، وأخذ يتلو عليها الصلوات، وهي تزايد في الكلام لدرجة أنها قصت سيرة المسيح من الميلاد إلى مراحل الصلب، الأمر الذي دعا الأب "مرقس" أب الاعتراف لها بصرف جميع من في القاعة، وجلس مع القمص يتحدث بشأن "أفراميا"، وفي نهاية الأمر قرروا أن تُعزل "أفراميا" عن باقي الفتيات لمدة قصيرة لحين النظر في أمرها بعد أن يعرضوها على الطبيب النفسي، وهذا الأمر غير مُرحب به من قِبَل "أفراميا"، فقد قالت لهم:
- لا.. لا تنظروا إليَّ كما لو كنتُ مجنونة! أرجوك -أيها الأب- لا تفعل هذا، وأنا أعدك ألا أتفوه بمثل هذا ثانيًا.
فرد الأب بعد أن أمره القمص:
- عليكِ الذهاب الآن، والجلوس مع رفيقاتك، ولا تتحدثي هكذا ثانيًا!
ذهبت "أفراميا" حيث الفتيات الراهبات، في حين أخذن يتهامسن، وينظرن إليها ويبتسمن، وكانت هي لا تنظر إليهن، مما أثار غضب تلك الفتاة التي كانت تقول عنها "مريضة نفسيًا"، وقامت واستدارت نحو "أفراميا" وملَّست على رأسها، وهي تسخر منها وتقول: "مجنونة!". كانت" أفراميا" قد استمعت للأب "مرقس" بعد ما قاله لها ألا تتفوه بأي كلام، ولا ترد على أحد، فاستلقت إلى جوار حائط مرتفع، تعلوه صورة للعذراء، وظلت تتلو بعض الصلوات، ولا تعبأ بما حدث جانبها.
شعرتْ "أفراميا" أنها ستكون محل استهزاء وسخرية من الفتيات الأخريات، فقررت ألا تذكر شيئًا عما يأتي في تفكيرها، وتتصرف كأنها إنسانة عادية؛ فحاولت الاقتراب من الفتيات، لكن هذه المرة بإلقاء الابتسامة المُنفرجة على وجهها لكل الفتيات، مع سرد بعض قصص الإنجيل المعروفة، وبعض من قصص الغابرين، حتى تجعلهن يقتربن منها دون أن يقولوا عليها "مريضة"، فبدأت تسرد لهن بعض القصص الموجودة في الكتاب المُقدس، وكانت قصة القاضية "دبورة" هي أولى قصصها، ومن بعدها جميع فتيات الدير كن يستمتعن..
كانت "دبورة" نبية وقاضية لإسرائيل، وكانت زوجة فيدوت، وقد كانت تقيم تحت شجرة نخيل سُميت باسمها "نخلة دبورة" بين الرامة وبيت إيل في جبل أفرايم، وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها للقضاء، وهناك كانت تقضي لبني إسرائيل، وقد دعت باراق ليقوم بمحاربة سيسرا، ورافقت باراق في هذه الحرب فالتقى الجيشان؛ جيش باراق وفيه عشرة آلاف، وجيش يابين ملك كنعان بقيادة سيسرا، وكان الذي يقوده سيسرا أكثر من جيش باراق عَددًا وعُددًا، وكان معه تسعمئة مركبة من حديد، ولكنه انهزم وهرب سيسرا، وسقط جيشه بحد السيف، وبعد النصر ترنمت "دبورة" بترنيمتها المشهورة التي كلنا نعلمها.
وكما حدث مع سائر القضاة، كانت "دبورة" تقود أمتها في وقت الأزمات، وكان العدو في تلك المرة هو "يايين" ملك حاصور، وقائد جيشه "سيسرا"، فدعت "دبورة" باراق بن أبينوعم من قادش نفتالي، وسلمته الرسالة الإلهية لمقابلة سيسرا عند نهر قيشون، فألح باراق على دبورة كي تذهب معه، فلبَّت الدعوة، ولكنها قالت له إن "الرب يبيع سييسرا بيد امرأة" توبيخًا لرجال إسرائيل على تقاعسهم.
صعد باراق ومعه عشرة آلاف رجل من زبولون ونفتالي، وصعدت "دبورة" معه، ونشبت المعركة بين باراق وسيسرا عند نهر قيشون، فانهزم سيسرا وسقط كل جيش سيسرا بحد السيف، ولم يبقَ ولا واحد، وتبع باراق المركبات والجيش إلى حروشة الأمم. وأما سيسرا فهرب على رجليه إلى خيمة "ياعيل" وهي امرأة حابر القيني بالقرب من قادش، فخرجت المرأة الشجاعة "ياعيل" لاستقبال سيسرا، فمال إليها إلى الخيمة وغطته باللحاف، ولما طلب منها ماء ليشرب، أعطته لبنًا عوضًا عن الماء، ولما استغرق في النوم أخذت "ياعيل" امرأة حابر وتد الخيمة، وجعلت الميتدة في يدها وضربت الوتد في صدغه، وهو متثقل في النوم ومتعب فمات.
وتذكر الترنيمة خروج الرب من سيناء "يا رب بخروجك من سعير بصعودك من صحراء أدوم"، (قض 5: 4) ليقاتل سيسرا، لذلك تقول: "من السماوات حاربوا الكواكب من حبكها (أفلاكها) حاربت سيسرا" (قض 5: 20)، فقد كانت الأمة في ورطة قاسية، يهجم عليها ملك جبار، ولم تشأ الأسباط أن تتخلى عن ميولها الانفصالية، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى، فظل بعضها مثل رأوبين وجلعاد ودان وأشير بعيدين، كما اختصت جماعة تسميها "ميروز" باللوم لعدم مساندتها للرب: "العنوا ميروز"، قال ملاك الرب: "العنوا ساكنيها لعنًا، لأنهم لم يأتوا لمعونة الرب، معونة الرب بين الجبابرة"، وكان أفرايم ويساكر وبنيامين وماكير وزبولون ممن انضموا إلى باراق. و"زبولون" شعب أهان نفسه إلى الموت مع نفتالي على روابي الحقل…
ظلتْ "أفراميا" تسرد لزميلاتها القصص المشوقة، لذلك كانت مميزة في الدير، مما أثار الغيرة من بعض الفتيات، وعلى رأسهن تلك الفتاة التي كانت تدعو "أفراميا" بالمريضة نفسيًا.
هذا -يا مراد- ما حدث مع "أفراميا" في الأيام الأولى لها في الدير، وقبل أن يحدث ما حدث قد طلبت "أفراميا" من رئيسة الراهبات أن تنضم إلى العاملات في مستشفى الدير، وقالت لها إنها تحبُ أن تعمل ممرضة، فكان جواب رئيسة الدير الرفض، وكانت الأسباب أنها غير مُهيَّأة لهذه المهمة في الوقت الحالي.
انصرفت أفراميا من حجرة الرئيسة وهي غاضبة وجاهشة البكاء، ولا تريد أن تتحدث مع أحد، في حين كانت تنتظرها في الغرفة تلك الفتاة التي لا تحب "فراميا"، وعندما رأتها أخذت تدندن تلك الفتاة وتتلفظ بكلمة "مجنونة.. مجنونة"، مما أغضب "أفراميا"، وجعلها تُمسك برأس الفتاة وتخبطها في جدار الحائط، مما أدى لسقوط الفتاة إلى الأرض، ورأسها مملوء بالدماء، وصارت ضجة في الدير، وعلمت رئيسة الدير بالواقعة، آنذاك قد دخلت "أفراميا" إلى حجرة القمص لتستجدي منه العون، لكنه كان غير موجود، فجلست على الأرض خائفة باكية، نادمة.
دخلت رئيسة الراهبات الحجرة عليها، وبصحبتها ثلاث راهبات؛ حملت إحداهن جرنَ ماء مقدس، وحملت الأخرى تمثالًا على شكل صليب، والثالثة حبالًا.
قالت لها الرئيسة بصوت قوي ومهدِّد:
- انهضي... اركعي، واطلبي من الرب المغفرة!
فقالت لها "أفراميا":
- سيدتي قبل أن أطيع أوامركِ هل لي أن أسألكِ ماذا سيحلُ بي؟ وما الذي قررتِه بشأني؟ وما الذي يجب أن أطلبه من الرب؟
وشعرت وقتها بعرق بارد يتصببُ فوق جسدها، وكانت ترتجف وشعرت بركبتيها تنوءان بحملها، وكانت تنظر بفزع إلى الثلاثة المرفقات للرئيسة، كنَّ واقفات على استقامة واحدة، بوجوة قائمة، وشفاه مزمومة، وعيون مُغمضة، كان الخوف قد فصل كل كلمة من السؤال الذي سألته الرئيسة، وبسبب الصمت الذي لزمته "أفراميا" من شدة الخوف اعتقدت أنهن لم يسمعنها، فكررتْ الكلمات الأخيرة من ذلك السؤال:
- عن أي شيء يجب أن أطلب المغفرة من الرب؟
- اطلبي المغفرة عن حياتكِ كلها، كلِّميه كما لو أنكِ في لحظة المثول بين يديه.
عند سماع "أفراميا" لهذا الكلام اعتقدت بأنهن اجتمعن للتداول في أمرها، وقررن التخلص منها، فقد سمعتْ من قبل أن بعض الأديرة يحكمون على المُذنب بالموت! فأرادت الصراخ، لكن فمها كان مفتوحًا ولا يخرجُ منه أي صوت، فمدت يديها نحو الرئيسة وترنّح جسدِها الخائر نحو الخلف، فسقطت، لكن سقطتها لم تكن قاسية، في لحظات الرعدة التي تفارقها فيها القوة بالتدريج، تخور الأطراف رويدًا رويدًا، ويتهاوى بعضها فوق بعض، في هذا الوقت بالتحديد دخل عليهن القمص واستمع لما حدث، وطلب من الرئيسة أن تتركها له، وبعدها أمرها بالخروج من الدير، وألا تأتي مُجددًا إلا زائرة فقط.
خرجت "أفراميا" من الدير مُحطَّمة وجاءتني هنا، وقالت إنها لن تخرج من بيتها لحين تجهيز حالها للسفر للقدس!
فقلتُ "لكريستينا":
- لا.. أرجوكِ لا تتركيها تسافر؛ أنا أحتاجها، فهي أصبحت لي كل شيء، افعلي أي شيء كي أقابلها.
- لا -يا مراد- سأفعل كل ما بوسعي حتى لا تعود "أفراميا" إليك، أنسيت أنني غير مُرحبة بالأساس بعلاقتكم، وأن هذه العلاقة كانت ولا بد أن تموت!!
- على الرغم من أنني أتأذى من كلامكِ فإنكِ مُحقة، فالخطأ الذي ارتكبته في حقها لا يُغفر، لكني نادمٌ على هذا..
- ليس موضوع ندم، بل هو اختلاف في التفكير، وبالأحرى اختلاف دين وعقيدة! راجع نفسك فأفراميا ليست لك، عليك أن تقضي الوقت الباقي لك هنا، وترجع إلى بلدك....
خرجتُ من عند "كريستينا" أحمل عجيزة الزمن على كتفيَّ مهيئًا نفسي لاكتمال الدوران للخلف، ووقفتُ على حافة الأرض أراقب الشمس وهي تخلع عنها أردية النهار، وتدخل إلى كهفِ الليل، ولا أزال أواصل السير، ومنذ أكثر من عشرة آلاف خطوة لم أقطع سوى خطوة وحيدة.
أسرفتُ في التفكير حد البكاء، وفي البكاء أصرفت حد الضحك، وأخذتُ أدقُ مسامير الرغبة في شرانق الوحدة، وانتصبتُ في الفضاء كالهاوية.
"""""""الوثبة التاسعة""""""
**المهادنة**
"التمني: وهوهة الحيرة على آرائك الخوف".
من رأس قلمي الذهبي فاضَ حبرٌ غامق اللون، وأنا أحاول أن أثبت النقطة في نهاية العبارة التي كتبتها بنبض قلبي، وتوقف قلمي عند تلك النقطة، أخذت أحملقُ بعينين مخضلتين بالدموع، فغامت صورة "أفراميا" في طيَّات الأوراق، وكنتُ بالأمس أحاول الرقد عاريًا إلى الأبدِ تحت سماواتها المُدججة بالنجوم والتخيلات، وأحاول أن أدحرج كرة الأرض فوق قدميَّ كلاعب يلهو بالطبيعة!
لكن... لكن أخذتُ أجزُّ على أسناني مثل حشرة قارضة، وتركت لروحي المُتسخة أن تتفتت تحت أقدام المارة، وعابري السبيل، وإذا بي أقفزُ من فوق مقعدي؛ المقعد الذي يمتلئ بالكلاب الضالة، والقطط الهرمة، وارتديت أسمالي البالية، وتركت وراء ظهري كل تعب النهار، وكوابيس الظلام، وذهبت حيث تسكن تلك النجمة البازعة في زمن الوحشة.
"أفراميا" كنتُ أعلم أنها لا تريد أن تراني، وأظن أنها وكالعادة لا تريد مقابلتي.
هكذا وأنا في طريقي إلى بيت "أفراميا" كان التردد كأنشوطة قوية تلتفُ حول عنقي، كان يطاردني أينما سرتُ، وفي كل طريق أُبصر ما لا أرى، وأسمع ما لا أعرف، توكأتُ على أشجاري الجافة حتى احترقتُ، وفي نهاية الطريق لاحت أمامي بوابتها الملكية، أأدخل أم...! طرقت الباب، فكان ثمة دخان يخرج من تحت قدميّ! طرقته ثانيًا.. ثالثًا.... فلا مُجيب؛ استدرت وجلستُ تحت النافذة، أطارد نمل الشوارع مُمددًا رجلي في الفراغ الغويط، وأتمدد بين الأملِ واليأس حتى غربت الشمس، وإذا بي أنكشُ الرمال بعصاي التي أهشُ بها على خيباتي.
رجعتُ إلى بيتي وعلى عتبة الباب كانت السيدة "كريستينا" تنتظرني وهي مفزوعة، وقالت لي:
- "أفراميا" منذ أكثر من ثلاثة أيام لم تتصل بي، وذهبتُ إلى بيتها، لكن لا أحد هناك، ألا تعلم أين هي؟
- لا.. لا أعلم! أنا أيضًا أبحثُ عنها، وذهبتُ إليها في المنزل، لكن لا يوجد أحد..
- وما العمل؟ أنا أخشى عليها، ربما تكون أذت نفسها، أو تكون سافرت!
- كلامكِ -يا كريستينا- زاد قلقي، أنا كنتُ أظنُها عندكِ.
- لا -يا مراد- لم أرَها، وما العمل؟ أنتركها ولا نعلم مكانها، وهاتفها دائمًا لا يستجيب، من الممكن تكون رجعت الدير ثانيًا؟ لكن لا لقد حُرِّم عليها دخوله!
- علينا أن نسأل في المستشفيات القريبة، أو أقسام الشرطة.
بعد أن أتم اليأس مراده لدينا، وذهبت "كريستينا" إلى بيتها، وأنا دخلت بيتي، ظللتُ أفكر فيها، وأين توجد، فالوقت يمر، والثلاثة أشهر قد مروا وعليَّ الرجوع إلى الإسكندرية لمواصلة عملي هناك، فجلوسي الآن ليس له أي معنى، لكن لا أستطيع الرجوع دون "أفراميا"! يا إلهي! أي حيرة هذه التي وُضِعت فيها؟ أأرجع أم أنتظر؟ أين أجدها؟ وهل لو وجدتها ستكون ما زالت تحبني؟! أشعرُ أنني أنزل صوب براري شاسعة، ولا أقبض ولو على يقينٍ واحدٍ!
لا أستطيع فعل شيء إلا أن أنام وأضع يدي تحت مخداتي المحشوة بالخياناتِ، والحصى، لكن ماذا بعد النوم؟ وهل سيمكنني النوم؟
لا.. لا.. لن أنام سأواصل تفكيري في صحراواتي المتشابكة في كل اتجاه، وأبحث عن نفسي (أقصد "أفراميا") حتى لو كلفنّي الأمر أن أبحث عنها في القدس، فأنا أعرف اسم الفندق الذي كانت تسكنه من قبل.
""""""الوثبة العاشرة""""""
**الرجوع إلى القدس**
"التهفهف: ريح الصبا من حُرقة القلب".
- يا سيدتي، كانت القدس تحت الحكم البريطاني في سنوات العشرين، والثلاثين، والأربعين، كانت مدينة ثقافية، جذابة، كان فيها تجار كبار، وموسيقيون، ومثقفون وأدباء مثل: "مارتين بوبر، وجرشوم شالوم، وعَجنون"، بالإضافة إلى كثير من الباحثين والفنانين عندما كانوا يمرون في شارع يهودا أو جادّة بن ميمون، كان المغفور له أبي يهمس في أذني: "انظر ها هو هناك يمر مثقف صاحب شهرة عالمية"، لم أعِ ما كان يرمي إليه، ظننتُ أن للشهرة العالمية علاقة بمرض في الرِّجلين، ذلك لأنه في معظم الحالات كان ذلك شخصًا هرمًا يتوكأ على عصا تتلمّس له الطريق، رجلاه تتثاقلان وهو إلى ذلك يرتدي في الصيف بذلة صوف ثقيلة!
لكن اعذريني -آنستي أفراميا- لم يمر ثلاثة أشهر منذ رجوعكِ إلى بلدك مصر، فلمَ عدتِ مجددًا إلى القدس؟! أهذه الزيارة تخصُ أمرًا دينيًا؟
- لا يا أحمد، زيارتي لا تخص أمرًا دينيًا، أما بالنسبة إلى سبب رجوعي إلى القدس في هذه الفترة القليلة، هو شعوري بالتعب والإرهاق، وكم كانت القدس لي مصدرًا للراحة والأمان! لذلك سأقضي معكم أسبوعًا، وهذا الأسبوع أريد أن أعرف كل شيء عن القدس، فأنا منذ الأمس هنا، وفكرتُ كثيرًا في شخص يكون مثقفًا وطيبًا، ومن خلاله أعرف كل شيء عن القدس، وأنت أول شخص جاء في بالي..
- هذه شرف لي أن أكون دليلك هنا.
- أنت -يا أحمد- شخص مُثقف، بالإضافة إلى أنك من أبناء القدس.
- لكن اسمحي لي -سيدتي- أنا أراكِ غير زيارتكِ الماضية، أقصد أنكِ تمتلئين بالحزن، هذا ما أراه في عينيكِ!
تنفست "أفراميا" نفسًا عميقًا كاد يُفجر رئتيها، وقالت:
- العالم أجوف، والعدم حقيقة. تلك الثمرة التي يعلكها الزمن بين فكّيه الزهريين لم تعد صالحة إلا للحزن!
حينها تنهد "أحمد"، وقال:
- أنتِ محقة.
- أنت تعرف -يا أحمد- الفترة التي رجعتُ فيها بلدي كان العدم يفتح فوهته الدامية، وبيديه الصلبتين يمد خراطيمه المُحدبة ليقبض عليَّ!
- أنا أراكِ في حالة تشاؤم! لمَ ذلك، فالحياة أبسط من كل هذا؟!
- انفلتت كل عصافير الوقت، وتزاحمت أشجار السنط البري، والصبار على جسدِ الأرض!
- لا يا سيدتي، أرجو منكِ ألا تستسلمي إلى الحزن بهذا الشكل.
تبسمت "أفراميا" وقالت في نفسها: "وما ذنب هذا الرجل الشهم، لا بد ألا أظهر حزني له!".
قالت له:
- ما رأيك أن تحضر لنا فنجانًا من القهوة، لكن أنا من سيدفع ثمنهما؟
ضحك "أحمد" بعد أن استدعى أحد العمال لإحضار القهوة، وقال لها:
- هذه المرة أنا من سيدفع....
- احكِ لي عن هذه المدينة العظيمة..
- حاضر سيدتي، لكن تعديني أن أصطحبكِ معي إلى منزلي، وفيه سوف تتعرفين إلى زوجتي "مريم"، وولديَّ "محمد، وعبد الله".
- بالتأكيد سأذهب معك.. أنت إنسان محترم.
- شكرًا سيدتي، سأخبركِ بحدثٍ له أثره في تاريخ القدس..
هبت من الجنوب الشرقي رياح شديدة حارة، حاملة رائحة الإثم والفساد، وخارج أسوار المدينة كان الموت نفسه مُتربصًا في شخص هو "طيس ابن فسبازيان"، ومعه ستون ألفَ جندي من الفيالق الرومانية متأهبين لنَهب المدينة المُقدسة.
حتى قبلما عبر الرومان وادي الشوك، وعسكروا على جبل الزيتون، كانت الفِرق المُتناحرة داخل أسوار القدس قد مهَّدت السبيل لخراب المدينة، وكان اللصوص اليهود الذين هربوا حينها كالجرذان أمام الفيالق الرُّومانية قد أغاروا على المدينة، وقتلوا مواطينيها البارزين، واستولوا على الهيكل المُقدَّس، وإذ ألقوا القُرعة من أجل كهنوت، وجعلوا بيتَ الصلاة سوق طغيان!
في أعقاب اللصوص جاء الثُّوار سريعًا، وبتوجيه من الزعماء المُتنافسين: يوحنا، وسمعان، وأليعازر.
نظرت "أفراميا" إلى أحمد بعد أن نهضت مفزوعة، وقالت له:
- "أليعازر" أخي.
نظر نحوها أحمد بغرابة وقال:
- معذرة سيدتي، كيف "أليعازر" أخوكِ؟! أنا أتكلم عن "أليعازر" أخي مريم المجدلية..!
آنذاك تبسمت "أفراميا" وقالت:
- أنا "مريم المجدلية"..
وأمسكت رأسها، ونظرت إلى "أحمد"، وهي في حرج وقالت:
- آسفة.. أنا أمزح معك، ستكمل حديثك الشائق.
استكمل "أحمد" حديثه وقال:
- اجتاح الصَّخبُ الأحزابَ المُتناحرة داخل الأسوار الثلاثة، وإذا انتفخ هؤلاء تجبرًا وتكبرًا، وقطعوا أوصال المدينة قطعًا دامية.
اقتحم "أليعازر" قلعة أنطونيا، وقتل الجنود الرُّومان داخلها، مُنتهكًا "السبت"، وشرائع الله، وهاج الثوار فقتلوا آلافًا أُخرى ممّن حاولوا إرجاع النظام إلى مدينة مسعورة!
وأقيمت محاكم غير شرعية، وازدُريَت قوانين البَشَر وشرائع الله؛ إذ سيق إلى القتل مئات من الرجال، والنساء الأبرياء، وأُحرقت إبان الاضطراب بيوتًا ملأى حنطة، وسرعان ما حلَّت المجاعة على المدينة أعقاب ذلك.
عندئذٍ صلّى أتقياء اليهود في يأسهم، طالبين بلَجاجةٍ أن تأتي روما على المدينة العظيمة، فإن أولئك اليهود اعتقدوا أنَّ المُتنازعين داخل المدينة سيتحدون عندئذٍ في قضية واحدة؛ التحرر من روما..
وقد جاء الرومان فعلًا رافعين راياتهم المقيتة، وصَيحةُ حربهم تُجَلْجلُ في أنحاء اليهودية كلها، واستولوا على جدار ويُطباطة، وبئر سبع، وأريحا، وقيصرية، وقد زحف رجال الفيالق المُقتدرون على خُطى الحُجاج الأتقياء الذين توافدوا من جميع أنحاء الأمَّة للعبادة.
آنذاك قالت "أفراميا" بعد أن أحسَّت بدوار جعلها لا تستمعُ جيدًا لحديث "أحمد":
- أنا مُضطرة للذهاب إلى الفندق، إنني أشعر بنعاس.
- تفضلي يا سيدتي، وسأنتظركِ في الصباح للذهاب معي لنتناول الغداء مع زوجتي.
- أكيد يا أحمد.
عند دخولها الفندق استوقفها أحد العمال، وقال لها بعدما أشار ناحية الاستراحة:
- هذا الشخص ينتظركِ..
استدارت "أفراميا" نحوه، وفجأة أُغمي عليها، وسقطت على الأرض، واصطف الناس وحملوها إلى غرفتها، وفحصها طبيب الفندق، وقال:
- ستكون بخير، فهي مُجهَدة الآن.
خرج الجمع من عندها، وتساءل عامل الفندق في نفسه: "يبدو أن هذا الرجل الذي سأل عنها من قبل، هو من جعلها تفقد وعيها!".
خرجت "أفراميا" مجددًا من غرفتها، ونزلت إلى الاستراحة للتأكد من الشخص الذي رأته، لكن غلب عليها الارتباك، فلم تعرف ما كان عليها أن تفعله إن صح ما رأته!
استدعت عامل الفندق وسألته:
- هل عاد هذا الرجل مرة أخرى أم لا؟
فقال لها:
- إن هذا الرجل كان حزينًا جدًا عليكِ حين فقدتِ وعيك، وهو الآن يجلس في غرفة الطبيب ليسأل عن حالتكِ ويطمئن عليكِ، بعدما طلب منا الطبيب أن نتركك في الغرفة لتستريحي، فقاطعت كلام العامل، وذهبت إلى غرفة الطبيب، وكان يجلس معه شخص لم ترَ غير ظهره، فنظرت إليه عدة مرات بحيْرة يتجلى فيها الأسى الشديد، حتى انتبه الطبيب، وقال لها:
- أأنتِ بخير الآن؟
وقبل أن تنطق استدار إليها الشخص الجالس مع الطبيب، ونهض من مكانه، وكانت عيناه يبدو عليهما الحزن، واتجه نحوها وهو ينظرُ إلى الأرض كالمخذول، حينها قالت "أفراميا" موجهة كلامها إلى الطبيب:
- عليَّ الذهاب الآن، إنني أشعر بغصة!
واستدارت وخرجت إلى الاستراحة، فلحقَ بها "مراد"، وهو يحاول إيقافها، لكنها قالت بصوت شديد القسوة انبعث من فمها:
- لقد أفقدتُ عيني عن الرؤية، وأفقدتُ أذني عن السمع، لكن لم أفقد يديَّ القدرة على الفعل واللافعل!
وأشارت بيديها إلى مخرج الفندق، وهي تتفوه:
- مَن أنت.. أنا لا أعرفك! يبدو أنك مجنون!
نظر "مراد" إلى مخرج الفندق، وقال لها:
- هذا مدخل وليس مخرجًا! ممكن أن تستمعي لي، أعلم أنني أخطأت في حقكِ، وكل ما أطلبه منكِ المغفرة..
استدارت "أفراميا"، وولت وجهها شطر سلالم الغرف وقالت:
- المغفرة أطلبها من الرب، أما أنا فلا أملك المغفرة، وحتى لو كنتُ أملكها فهي ليست لأمثالك!
وأسرعت إلى غرفتها، وطلبت من أحد العمال ألا يزعجها أحد..
خرج "مراد" من الفندق يستبسل في الفراغ الغويط، ويدخن سجائره المحشوة بالسرطانات المنقرضة، يتدحرجُ على الطرقات مثل بالونة منبعجة بألف فم!
آنذاك كانت "أفراميا" تتطلع من نافذة الغرفة، مثل طائر محترق فوق قبة السماء، أخذت تُراقب الشمس في عزلة تامة، وتتمرغ على حما نار وثلج، حتى أيقظتها الصورة البشعة التي رأتها (حبيبها وعشيقته)، فقالت في نفسها:
- لا يستحقُ حتى التفكير؛ إنه خائن.. مراوغ!
كان عليها أن تعد نفسها للذهاب غدًا إلى بيت "أحمد"، لتتعرف إلى عائلته فخلدت للنوم، لكنها لم تستطِع النوم، فأخذت تقرأ فقرات من كتاب "الفيلوكاليا" حتى دخول الليل، في حين كان "مراد" يتجول في شوارع المدينة كالقنفذ يحاول الربط بين السماء والأرض بمنديل مبلل بدموع الندم، فرجع إلى الفندق، واحتجز غرفة بجانب غرفة "أفراميا" ليبيت فيها.
كان الفجر المُغبش يصهللُ بخيوطه الذهبية على نوافذ الفندق، الذي يوجد به عينان يصغيان لوسوسة الليل.. مراد، أفراميا.
تخرج "أفراميا" من تحت الغطاء، وتترك كوابيسها أن تتفرع فوق الجدران تطارد قطط الفخار الهشَّة، يدخل "مراد" شرنقة الندم، ويجلسُ فوق العُشب المُبلل كالدودة، يتقابلان الاثنان على حافة الزمن الأثيري، إذا يُخفي كل منهم ما ينويه للآخر، إذ يحاولان العناق، وأحيانًا يفكران في القتل، تقول "أفراميا" في سرها: "كيف عرف مكاني؟"، وظلت تتأوه في لذة الماضي، كطفلة تحبو على أعتاب الديمومة..
تقلبت على الفراش، وهي تبتسم في الظلمات، برزت لها تلك المرأة ذات الرداء الأحمر، كان ينير جسدها هالة من النور حول وجهها فيبدو بريئًا، لكنه حزين بعض الشيء، كان بياض الوجه المصقول الهادئ يُضفي تلك المسحة الظاهرة من الحزن، خففت "أفراميا" بصرها، ثم رفعته كأنها تستأذن من هذه المرأة، ودسَّت وجهها في المخدة، وعيناها تطفح بالدمع المُنهال، ودفنت جمع الابتسامات في قلبها، ثم توجهت ناحية الفراغ، كانت تعلم أن العد الزمني قد توقف...
صباح اليوم التالي، وبعد أن جهزت حالها للذهاب إلى بيت "أحمد"، وعند خروجها من الغرفة كان "مراد" ينتظر في الخارج، وحاول أن يستعطفها، لكن كانت عيونه لا تزال تحمل الرّهبة العميقة في أغوارها، بعضُ الفزع يلتصق بعينه، وهو مُمسك الصمت بيمينه ويدحرجه كاللفافة، وينغرس في اللاشيء ونقيضه، في حين كانت هي تخبئ الفرح، وتعصر رحيق محبتها، وتصرُّه بين أساريرها، وتواصل سيرها نحو السلالم مُجرجرة وراءها ذيل فستانها الأبيض، ورائحة جسدها القرمزي، وعند آخر درجة من السلالم استدارت للخلف وتنفست بعمق، وواصلت حتى باب الخروج.
وقف "مراد" يتأرجح بين ذؤاباتِ عطرها، وفصوص رغبته، حتى سار وراءها، وحينما وصلا إلى سوق المدينة القديمة دخلت هي للمتجر، وظل هو ينتظر حتى خرجت لكن ليس بمفردها، كان "أحمد" معها، فتخبأ "مراد" وراء حائط ومدّ نظره يراقبها، وفاض الدم في عروقه حين رآهم يجلسون أمام المتجر، والضحكات تهزُ مقاعد الجالسين عليها، فحاول أن يتماسك، وكانت " أفراميا" تعلم أنه يسير وراءها مما دفعها تتمادى في الضحك مع "أحمد"، وقاما الاثنان وذهبا إلى السوق حتى دخلا بيتًا قديمًا، فظن "مراد" السوء بها، حتى غاب عن وعيه، فاقتحم البيت دون استئذان، مما جعل "أحمد" يصرخ في وجهه وطرده، لكن كان "مراد" ينظر إلى "أفراميا" نظرات عتاب ولوم، لولا خروج زوجة "أحمد"، وهي تحاول أن تهدئ من زوجها، وقالت له:
- إنه يقول إن "أفراميا" خطيبته!
فردت "أفراميا" قائلة لأحمد:
- هو ليس خطيبي.. هو كان...
وصمتت ثم نظرت إلى زوجة "أحمد"، وارتمت في حضنها وقالت:
- هو كان خطيبي، لكنه خانني.
كانت أعصابها مشدودة بأمر بالغ، فقد كانت ترتجف وهي تبكي ثم ما لبث أن هدأت هدوءًا تامًّا، والدموع تجري على خدَّيها الشاحبين، وأفكارها مشوشة.
خرج "أحمد" مصطحبًا معه "مراد" إلى حوش البيت، وعلم منه كل شئ، فلامه "أحمد" وقال له:
- أنت مخطئ في حقها..
وطلب منه أن يذهب إلى الكنيسة المجاورة ليطلب المغفرة..
فقال له "مراد" بعد أن تبسم:
- أنا مسلم، فكيف أدخل الكنيسة.
فتعجب "أحمد" وقال له:
- كيف أنت مسلم وهي مسيحية؟! وكيف تمت خطبتكما؟!
- هذا أمر يطول شرحه، لكن الآن أريد أن أتحدث معها..
- أنا غريب بينكم -يا مراد- أنتم من نفس البلد، وأنا...
- ممكن أن تحاول إقناع زوجتك بهذا، وأكون شاكرًا.
دخل "أحمد" إليهن، وقال لزوجته:
- إن "مراد" يريد التحدث مع "أفراميا"..
آنذاك ردت "أفراميا" غاضبة:
- لا.. لا أريد التحدث معه.
خرج "أحمد" ودون أن يتفوه بكلمة.
هز "مراد" رأسه، واستدار وخرج للشارع، ومن قبل أعطاه ورقة مطوية وقال له:
- أرجو إعطاء هذه لأفراميا، وأستحلفك ألا تفتحها أنت، فهي بيني وبينها.
- لا تخاف يا أخي، في الوقت المُناسب سأعطيها لها.
جلست "أفراميا" إلى جوار "مريم"، وكان "أحمد" يقف بجوارهن يحاول تلطيف الوضع، وقال لهن:
- هيا لنجلس في الحوش، ونتناول الطعام، وبعد سنخرج إلى السوق.
خرجا الثلاثة معًا، وكانت "مريم" تحاول أن تُخرج "أفراميا" من الحالة التي أحزنتها، فقالت لها في صوت ينمُ على الحب:
- ممكن أن نتحدث بكوننا أخوات؟
- أكيد.. نحن أخوات.
- أنتِ تحبين "مراد"؟
- لم أحبُ سواه، لكن وما فائدة الحب المبني على خيانة أحد طرفيه!
- لكن -يا أفراميا- أنا عندي إحساس أن هذا الشخص يحبكِ، وهو نادم على فعله.
- لا يجدي الندم نفعًا، الخيانة كالقتل، وهو قتلني!
- لكن أنا أرى في عينكِ نظرات حب له، ألا تسامحينه؟
- لا يمكن، لقد كشفتُ له عن حياتي كلها، تلك الحياة التي لم تبدأ فعلًا إلا يوم أن رأيته، وقبل ذلك لم تكن سوى شيء مُضطرب ملتبس، لا تسترجعه ذاكرتي مطلقًا، كانت أشبه بقبو غطّت الأتربة نتوءاته..
- يبدو عليكِ أنكِ حساسة جدًا!
- لا عليكِ.. اتركي هذا الموضوع.
علينا أن نستمتع بجمال الطبيعة هنا، فأنا أرتاح للأماكن القديمة مثل هذه المدينة..
حينها كان "أحمد" يسبقهم بعدة خطوات، وقد اشترى لهن الحلوى، فقالت له "أفراميا":
- أريد أن أذهب إلى "الجليل".
- غدًا -إن شاء الله- نذهب إلى هناك، لكن أنا معي أمانة لك، تسمحين لي أن أعطيها لكِ؟
تنهدت "أفراميا"، وهي مدهوشة وقالت:
- أمانة! ومِن مَن؟!
- هذه الورقة أعطاها لي "مراد" بعد أن ترجاني لأوصلها إليكِ، لكِ أن تأخذيها، وتضعيها في شنطتكِ، وفيما بعد اقرئيها.
- لكن -يا أحمد- أنا لا أريد شيئًا منه، ممكن أن تقطع الورقة، فلا يهمني ما بها.
- اقرئيها وبعد ذلك قطعيها كأن لم تكن، لكن الآن هذه أمانة لا بد أن أسلمها لكِ.
- لك ما شئت يا أحمد، أنا لا أريد أن أضعك في موقف حَرج.
- شكرًا.. شكرًا لكِ.
دخل الليل ورجع كلٌّ منهم إلى مسكنه، ودخلت "أفراميا" غرفتها بعد تلصصت إليها دون أن يراها "مراد"، وأغلقت الأنوار بعد أن تحررت من ملابسها، ودست وجهها في السرير، وهي مترددة أتقرأ الرسالة أم لا..
قرَّبت الرسالة من عينها، وأخذت تداعب بالرسالة أهدابها، حتى قفزت فجأة، وأنارت الأنوار، وجلست على أحد الكراسي بعد أن صنعت فنجانًا من القهوة، وبدأت تفرد طيات الورق حتى لاحت لها الكلمات المكتوبة باللون الأحمر القاني، أجهشت بالبكاء بعد أن بدأت في القراءة:
"نكهةَ الفجر أنتِ، وضوء المسافات أنتِ، وهذا المدى لشموسكِ، هذا الصدى لأغنياتكِ، غير أنّي في نزيفِ حبكِ.. جرحكِ، في نار أوجاعه أتفجرُ. أكتبُ إليكِ حيث يصيرُ الحجر بحيرة، والظل مدينة، يحيا ويحيا الأمل. لم أكن في حاجة إلى شيطان يسحبني من أذني نحوه، وليس حبي للجنس غواية، فقط كان خطيئة استحالت عليَّ مقاومتها، لم أعد أسأل نفسي لماذا ارتكبت هذه الحماقات، فقد فعلتها وأنا مُغيَّب عن وعيي!
في هذه الحياة التي منحها الله لي شاهدتُ الكثير والكثير، لم أكن أريد أن أشرب من هذا الكأس لكني شربت، لم أكن أريد أن أنزل إلى هذه الشوارع الجمة الكثيفة لكني نزلت، لم أكن أريد أن أخونكِ لكني خُنت! ألمحُ جسدكِ كالبدر، أترجل في بحر مرجانكِ اللانهائي وأستسبلُ.. أحصي عدد شهواتِ جسدكِ بيدي، وأقول له سلامًا لك، وسلامًا عليك! جسمكِ كتاب تقرؤه الريحُ، وتفضُ صفحاته الأصابع، يدكِ التي تلمسُ الريح تكتبُ على العواصف. إنكِ تشبهين قلبي، لا شيء يضاهيكِ حبيبتي، حتى القمر لا يمكن له الحضور في حضرتكِ. أعلم أنني سقطت من تعداد أشيائكِ الثمينة!!
لا أطلب مغفرة الآن، لكني أستحلفكِ أن تذكري ولو دقيقة صادقة كانت بيننا قبل أن تسوقني الأقدار إلى خيانتكِ!".
لم تستطِع الكفَّ عن التفكير الليلة الماضية، فوجودها قرب "مراد" جعلها تشعر بالأمان، لكن ما فعله كان أكبر من أي شيء، فأنَّت أنينًا خفيفًا، وتكوَّمت على نفسها، فكرت في البُعد، والخروج من هذا الفندق حتى لا تصادفه، لكن تراجعت وقالت: "هو عرف مكاني هنا.. أكيد سيعرف أي مكان أذهب إليه! لا بد أن أواجهه، وأقول له إن ما بيننا الآن لا شيء مما فات".
كانت "أفراميا" تتشوق لسطوع شمس اليوم التالي، لتذهب إلى بيت "أحمد" وبعد يذهبا إلى "الجليل".
في الوقت نفسه كان "مراد" يجلس مع "أحمد" فقال له الثاني:
- سنذهب في الغد إلى "الجليل"، وهذه فرصة لك لتصلح علاقتكِ بأفراميا، وأنا أحاول أن أهيئ لك اللقاء، لكن لا تخبرها أنني قابلتك.
- شكرًا لك.
"""""" الوثبة الحادية عشرة""""""
الجليل
"المُجاذبة: شدة انقطاع الخيط في المخيط".
استيقظت "أفراميا" من نوم قاتم خالٍ من الأحلام، وشعرت بأنها تنتشل من هاوية سحيقة تدريجيًا، لكن ظلت عيناها مُغلقتين، ورفرف جفناها اللذان أصبحا أقل صدًّا للضوء ثم انفتخا.. كانت تنظر من نافذة الفندق إلى البيوت الضيقة الصغيرة، والحانات، والدكاكين التي تحيط بالفندق.
لم يتبقَ علي موعد زيارتها لأحمد إلا دقائق معدودة، ليذهبا إلى "الجليل"، وهي لم تكن مُستعدة لهذه الزيارة كما كانت تُفكر، فبالأمس -بالتحديد ليلة الأمس (يوم الجمعة)- وبعد طيلة تفكير في بعض الأمور وضعت رأسها متكئة علي يد الكرسي حتى غفت، فسمعت أحدهم يقذف في أذنيها كما لو كان هاتفًا:
"لا يستقيم حب الدنيا وحب الأخرى في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء والنار فى إناء واحد". من قال هذا.. عيسى أم مُحمد؟.
فزغتْ من نومها، وهي تسأل نفسها من محمد؟ أهو رسول الإسلام؟ وما دخلي ودخل الإسلام؟!
كان هذا وقت رفع أذان الظهر، حيث اجتمع الناس وامتلأ المسجد المجاور للفندق بالمصلين، وكانت الخطيب يقول:
"هل يكون شجر بدون حَبٍّ، هل يكون زرع من غير بَذْر، هل يكون وَلد من غير أب؟ بلى.. إن الله قد خَلق الشجر، والزرع أول ما خلقها من غير حَبّ ولابَذْر، وخلق آدم من غير أب ولا أم، وأيضًا خلق عيسى من غير أب، فهذه مُعجزة كمُعجزة".
أسرعت "أفراميا"، وارتدت ملابسها، وخرجت من الفندق قاصدة منزل "أحمد وزوجته مريم"، وكان الاثنان ينتظرانها بجوار المنزل، فذهبا أجمعين إلى محطة الحافلات المتجهة إلى "الجليل"، وكان يرافقهم في الباص المتجه إلى هناك فوج سياحي قد تعطلت حافلتهم، فاضطروا إلى ركوب الحافلة الخاصة هذه، وكان مع هذا الفوج مرشدة سياحية "لينا"، وعند خروج الحافلة من القدس كانت "لينا" تصف لهم "الجليل"..
تضم منطقة الجليل أكثر المدن والمواقع قداسًة في الديانة المسيحية، منها مدينة الناصرة، حيث بشّر الملاك "جبرائيل" مريم العذراء بولادة يسوع.
كما أنها المدينة التي نشأ فيها فنُسِبَ إليها ودُعي يسوع ب "يسوع الناصري". إلى جانب "قانا الجليل" التي تم فيها عُرس قانا الجليل أولى معجزات يسوع الناصري وفقًا للمعتقدات المسيحية. وجبل الطور الذي حصل فيه حادثة التجلي، ونهر الأردن وبحيرة طبريا وكفرناحوم التي تضم العديد من مواقع الحج المسيحية.
الجليل يتشكل عمومًا من مرتفعات صخرية تتراوح بين 500 و700 متر فوق سطح البحر، مُغطَّاة بالخُضرة، حيث يحتوي على الأنهار والغابات والأشجار، وأعلى جباله جبل طابور والجرمق. يعتبر الجليل منطقة سياحة واستجمام لدى الكثير من سكان البلاد الذين يُسمح لهم بوصولها إلى مناظره الخلابة والمسارات الجميلة. في فصل الشتاء تتساقط كميات كبيرة نسبيًا من الأمطار والثلوج في الجليل، وخاصةً في المرتفعات، وتعتبر من أهم المناطق العسكرية الاستراتيجية لإسرائيل، إذ إنها تطل على الحدود اللبنانية والسورية معًا.
حدود الجليل تتميز بخليط جغرافي؛ ففي الشمال نهر الليطاني، والجنوب سهل بني عامر، أما في الشرق محدرات الشرقة، وبالغرب تلال الجليل، وتكوَّن جراء التجعد الألبي بعد تصادم اللوح الأوروبي مع اللوح العربي. شارع (85 سهل الكروم – الشاغور) هو الفاصل بين الجليل الأعلى والأسفل.
كانت "أفراميا" تستمع جيدًا لكلام "لينا"، وهي مُستمتعة بكل كلمة تسمعها، وقبل وصولهم إلى هناك كانت قد عرفت كل شيء عن هذه المدينة المُقدسة، وعند وصولها وبعد أن وطأت أرجلها فوق الرمال الساخنة التي تتميز بها هذه المدينة، رفعت رأسها إلى أعلى، وهي فاردة ذراعيها في الهواء، وأغمضت عينها لفترة تستمتع بجمال الطبيعة التي أضاءت الشمس أركانها، وبان الجليل بكل بهائه، مع بداية الربيع، حيث مغرة التراب، وخضرة الزيتون، وآخر تألقات الأشجار المتنوعة كالرمان، والتين، والنخيل.
ونظرت حولها فلم تجد "أحمد ومريم"، مما دعاها تبحث عنهم في أنحاء المنطقة، وعلى حين غفلة سمعت صوتًا يناديها:
- أفراميا.. أفراميا.
استدارت حولها، وألقت لعينيها أن تزوغا في أركان الصخور، لم ترَ الشخص الذي يناديها، لكن هذا الصوت ليس غريبًا عليها! "أهو صوت "مراد"؟! لكن ما أتى به إلى هنا؟! يبدو أنه هيئ لي"! ظلت تقول هذا في نفسها، وجلست مُقرفصة على الأرض، ونظرت إلى يمينها، فكان "مراد" ينظر إليها ويبتسم! انزعجت وقامت من مكانها، لكنه لحق بها، وحاول أن يتكلم معها في حين كان "أحمد ومريم" يراقبان الوضع من بعيد إلا أنها أسرعت واتجهت ناحيتهم بعد أن رأتهم، وقالت لمريم:
- كنتِ تعلمين أنه سيأتي؟
- نعم -يا أفراميا- كنا نعلم.
- لمَ لم تخبروني؟!
- كان لا بد من هذا حتى تعرفي إن كنتما ستستمران مع بعضكما بعضًا أم لا!
- هذا الموضوع أخذت فيه قرارًا لا رجعة فيه؛ لن نعود إلى بعضنا بعضًا مُجددًا!
رد "مراد" بصوت هادئ:
- ممكن أن تسامحيني، حتى لو لم نرتبط ببعض بعضًا.. أنا أشعر أنني بحاجة إليكِ حتى لو لم نكن أحباء، اعتبريني صديقًا حتى، لكن لا تقطعي علاقتنا!
- أنا لا أريد أي علاقة بيني وبينك، ليتك تنساني!
وجهت" أفراميا" وجهها إلى البحيرة، وهي تقول: "خائن.. خائن!".
ذهب "مراد" إلى أحد الصخور وجلس عليها، وهو يُلملمُ بقايا روحه المنفرطة، ووقف "أحمد ومريم" إلى جوار "أفراميا"، ووجههم مملوء بالحُمرة.
قالت "أفراميا"، وهي ترمي بعض الحصى في البحيرة مُحدثةً "مريم":
- انظري كيف تتوالد الأشياء! لا شيء يبقى إلا كلمة الله حاضرة رغم كل ما يغيب، باقية رغم كلّ ما يزول، ثابتة رغم كلّ ما يتغيّر، هذه الأرض كم مرة من أُناس أقاموا هنا زمنًا مَقدورًا ثم رحلوا! ونحن مقيمون اليوم وسنرحل غدًا، وسيأتي من بعدنا من سيقيم ثم يرحل، الدنيا كلها تتّحول وتتغيّر، حتى النهار يعتريه الرّحيل حين يجن عليه الليل، وحدها كلمة الله لم ولن تتبدل..
سألتها "مريم":
- ما الذي تقصدينه بكلمة الله؟
- كلمة الله هي الكلمة التي خلَق بها الكون، هي الكلمة الأزلية "كُن".
نظرت "مريم" إليها، وهي مشروحة الصدر متبسمة، وقالت لها:
- بعيدًا عن هذا الموضوع، أنتِ عاشقة لمراد!
- لا.. لا، بل أنا مُغرَمة!
- وما الفرق؟!
- الأولى عَرَض، أما الثانية جوهر. الأولى رحيل، والثانية بقاء.
تحرك الفوج ناحية الجنوب، حيث مدينة "الناصرة"، وتحرك كلٌّ من أفراميا وأحمد ومراد ومريم أيضًا مع الفوج..
كانت الشمس حارقة جدًا؛ تضرب رؤوسهم وتلتهم حرارتها أرجلهم، كانت عناقيد العنب قد نضجت، وثمار الخوخ والمشمش، والدُّراق أثمروا، وظلال الأشجار تحتها تطيبُ النفس، والعنان ينطلق بصاحبه ليسرح في خياله....
انتظرت "أفراميا" حتى خفّفت الشمس من غلوائها، وانكسرت في الأُفق متنازلة عن عرشها السَماوي، وانطلقت هي ومن معها إلى قمة أحد الجبال الصغيرة، لترى بحيرة "طبريا" عن بُعد؛ تلك البحيرة التي هدَّأها عيسى حين ضربت أمواجها المركب الذي يحمله هو وتلاميذ. آنذاك قال "أحمد":
- عندنا في الإسلام حديث يتكلم عن هذه البحيرة، وهو: " فبينما هو كذلك إذ بعث الله تعالى المسيح ابن مريم -عليه السلام- فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى -عليه السلام- قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى -عليه السلام- أني قد أخرجت عبادًا لي لا يُدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حديث ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبريا، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: "لقد كان بهذه مرة ماء...".
تساءلت "أفراميا" موجهة كلامها إلى "أحمد":
- الإسلام لم يدع صغيرة ولا كبيرة إلا وذكرها، يبدو أن دينكم مليء بالعلم!
- نعم.. سيدتي، لم يترك الإسلام شيئًا إلا وبيَّنه لنا، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.
- أنا أريد قراءة كتابكم الذي تسمونه القرآن..
- حاضر سيدتي، هذه نسخة لكِ، وأود أن تقرئيه حقًا.
- بمشيئة الرب..
كان "مراد" يراقب "أفراميا" من كثب، وقد رأى الكتاب الذي أعطاها إياه "أحمد" فسأله:
- ما هذا الكتاب؟
- هذا القرآن يا مراد!
لم يصدق وقتها، لكن حين تذكَّر بعض الكلمات التي كانت تقولها "أفراميا" قال في نفسه: "ولمَ لا؟! يمكن تريد الاطلاع على ديننا، فهي دائمًا ما كانت تقول إنها ترتاح عند سماع القرآن".
كان المساء قد حلَّت ضفائره، وكان عليهم الرجوع إلى القدس، لكن طلبت "أفراميا" منهم أن تزور كنيسة "سيدة الرجفة"، وبعدها يعودون إلى القدس.
دخلت الكنيسة، ويبدو أنها تأثرت بالنقوش التي على الجدران، والكلمات اللاتينية المترجمة إلى العربية: "لتكن المجدلية في رحاب الرب".
فأسرعت للدخول، وعند البوابة الصغيرة للكنيسة كان أحدهم يقف يسد الباب، فقالت له:
- أريد الدخول، لقد أتيت الآن، ألم تعرفني؟
فقال لها الرجل:
- تفضلي.. الباب أمامكِ.
- أنا أقول لك ألم تعرفني؟!
- يا سيدتي، كلنا أخوة.. تفضلي.
- أنا المجدلية المكتوب اسمها على الجدران بالخارج!
تبسم الرجل وقال لها:
- أهلًا بابنتنا، إنكِ تمزحين! لا يجوز الضحك في هذا المكان!!
فقالت له وقد اشتدت على وجهها علامات الغضب:
- أنا لا أمزح.. أنا -كما قلت- "المجدلية"!!
فتعجب "أحمد وزوجته" من كلامها، وأسرع "مراد" ولحق بها، وأخرجها إلى الخارج، فنظرت إليه "أفراميا"، ورفعت يديه من عليها، وهي غاضبة، وتتمتم بكلمات أشبه بالتوبيخ، فصمت "مراد" وعاد إلى مكانه، وبعد أن جهزوا حالهم للرجوع إلى القدس استلقت "أفراميا" إلى جوار صخرة كبيرة، وأخذ النواح يضرب ويصدع في أنحاء المكان، فذهب "مراد" وجلس إلى جوارها يحاول تهدئتها، واحتضنتها "مريم"، وأسرعوا لركوب الحافلة.
ركبوا الحافلة بعد أن هدأت "أفراميا"، وقد كانوا مُتعبين كباقي الفوج، فغفوا إلا هي أمسكت الكتاب الذي أعطاها لها "أحمد" (القرآن)، وبدأت تقرؤه حتى وصولها إلى القدس، وبعد أن دخلت الفندق، وقد بدأت تهدأ إلى حدٍ ما من ناحية "مراد" قالت له:
- ممكن أن نحتسي فنجانًا من القهوة بعد أن نغيِّر ملابسنا، لكن نجلس كإخوة!
فرح "مراد" بهذا، وقال:
- يمكن طبعًا..
""""""""الوثبة الثانية عشرة"""""""""
** الحيرة والقرار**
"التحسس: أن تقبض على اليقين باليقين في ساحة الجسد".
اسمعي لقلبكِ، ولا تتجاهلي نداءاته العميقة، لأنه لا فائدة من ذلك.
هو لم يكف عن مُناداتكِ حتى تصغي إليه، وإن لم تستمعي إلى ما يقوله فلن يفعل ذلك أحدٌ غيركِ.
كانت يهمس ل "أفراميا" عقلها بتلك الكلمات بعد أن أتمت قراءة المصحف خلال الثلاثة أيام، التي طلبت من عمال الفندق فيهم ألا يزعجها أحد.
واستوقفتها بعض الآيات التي لم تعرف لها تفسيرًا، فقررت أن تذهب إلى أحد المساجد القريبة من الفندق، وتقابل أحد الشيوخ، وتسأله عن هذه الآيات:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...) [المائدة:17]
وقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 116]
هذه -يا شيخ- بعض الآيات التي أردت منك أن تفسرها لي، ففيها أن عيسى بشر مثلنا، ونحن نقول أن عيسى ليس بشرًا.
فقال لها الشيخ بعد أن تبسم:
- وماذا تقولون عن عيسى، أهو ليس بشرًا فقط أم تقولون إنه ثالث ثلاثة؟ ترى عقيدة الثالوث في المسيحية أن الله هو إله واحد، لكن يوجد ثلاثة أشخاص أو أقانيم: "الآب، الابن، الروح القدس: أي أن الله واحد في ثلاثة أقانيم إلهية".
الأقانيم الثلاثة مستقلة، ولكنها واحدة في المادة، والجوهر والطبيعة. في هذا السياق فإن "الطبيعة" هي ما يكونه الشخص، في حين أن "الأقنوم" هو من يكونه الشخص؟ أهذا صحيح؟
- نعم
- إذن من أين أتيتم بهذا؟
- لا أعرف!
- إن المسيح لم يقُل هذا ولا حتى أتباعه من بعد لمئات السنين، إلى أن حلَّ زمن الحُكم الروماني، وبالأحرى الإمبرطور الروماني "قسطنطين" الوثني في القرن الرابع الميلادي الذي أحب أن يدخل المسيحية عندما رأى أن أجزاء كبيرة من إمبراطوريته تدخل في المسيحية، وعندما رأى أُمَه قد فعلت ذلك، أمر أن يُعقد مجمع مسكوني في نيقية على عادة الرّومان في مناقشة الآراء، كان ذلك في عام ٣٢٥م، حضره ما يقربُ من ألفّي رجل دين في ذلك الوقت. تزعم البطريريك "آريوس" المصري صاحب الحُجة القوية جناح الموحدين، وتزعم "أثناسيوس" بطريريك الإسكندرية جناح المؤلهين، وأمر الاثنين أن يتناظرا فيما بينهما ليختار من خلال تلك المُناظرة المذهب الذي يروق له.
بالطبع في كل المجامع التي عُقدت من أجل الحوار المسيحي تطور النقاش إلى العُنف! واختلفا في أمور كثيرة، لكن الخلاف الأكبر تركّز حول شخص المسيح، أهو إنسان رسول -كما يقول "آريوس" ويتابعه على ذلك عدد كبير، مثل "ميلتوس" رأس كنيسة أسيوط عندكم في مصر، وأشقف مقدونيا- أم هو إله مُتجسد في بشر كما يقول "أثناسيوس"؟!
لكن الإمبراطور عندما رأى أنّ الحوار تطور إلى العنف كان لا بد له من التدخل، فتدخل لصالح المؤلهين، ليس لأنه اقتنع بحجتهم وأدلتهم ولا كلامهم، بل لأن الأفكار لدى المؤلهين تشبه عقائد الوثنية الرّومانية التي قامت على جعل إله لكل شيء!
فقالت "أفراميا"، وهي تتعجب:
- أمعقول أن التثليث بِدعة قامت وظهرت بعد موت المسيح بما يقرب من أربعمئة عام؟!
- بلى..
- إذًا التحول إلى عقيدة التثليث كان حكمًا سياسيًا لا دينيًا، وهو مُتبع لا اعتقاد؟
- نعم ابنتي، والأشد من ذلك هو أن يُناقش أمر عقائدي كبير مثل هذا بطرائق الديموقراطية، صاحب الحُجة الأقوى والصوت الأعلى هو الذي يؤخذ بعقيدته، ومع أنه يُناقش بهذه الطريقة الخاطئة إلا أنه لم يؤخذ حتى بالمنهج الديموقرطي في هذا الشأن، بل أجبر الإمبراطور "قسطنطين" المجمع المسكوني أن يقروا عقيدة التثليث، لأن تعدد الآلهة هو ما كان عليه الرّومان من قبل.
يا ابنتي، عيسى ومحمد رسولان مبعوثان من عند الله، والسابق بشر، واللاحق بشر، لكن إذا كان رسولنا بعثه الله، ورسولكم بعثه الله كذلك، فمعنى ذلك أن مصدر الرّسالة واحد، وإن كان مصدرها كذلك، فيجب أن تكون تعاليم الرسولين مُتطابقة أو مُتشابهة، أليس كذلك؟
- نعم يا شيخ.. نعم.
- يا ابنتي، ألم يقل المسيح في تعاليمه "اعملوا لله، ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح، لا تحرث، ولا تحصد"!
عندنا في الدين الإسلامي حديث يقول:
"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا".
ألم يقل المسيح: "طُوبى للمتواضعين بالدنيا، هم أصحاب المنابر يوم القيامة، وطُوبى للمُصلحين بين الناس".
ورسولنا يقول: "من تواضع لله رفعه".
ألم ينشأ المسيح عابدًا زاهدًا؛ يلبس الصوف وشعر الماعز، وعليه من لحاء الشجر، شراكُه ليف، لم يدخر شيئًا من طعامه قط، فما وجده أكله.
هكذا نبينا كان راعيًا للأغنام، وكان يأكل ما وجده في بيته، فلم يتكلف مفقودًا، ولم يأنف موجودًا.
في وصايا المسيح العشر الشّهيرة حين نسمع أكثرها، فإننا لم نميز تمامًا فيما إذا كان عيسى هو مَن ينطق أم محمد!
ألا تعرفينها؟
- نعم.. أعرفها.
- منها: "لا تحلف باسم الله بالباطل، أكرم والديك، لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد الزور، لا تشتهِ امرأة غيرك، لا تشتهِ ما في غيرك".
فهذا الكلام نطق به محمد أيضًا.
حينها قالت "أفراميا" للشيخ:
- الآن لا أحتاج إلى تفسير للآيات، فكل شيء واضح، أشكرك يا شيخ، لكن لي سؤال عندك، أيهما أحق أن يُتبَع؟
قال الشيخ وهو مُغمض العينين:
- لا تسأليني أنا -يا ابنتي- بل اسألي قلبكِ؛ هو أصدق في الإجابة.
خرجت "أفراميا" من عند الشيخ لا تعرف من هي، أهي أفراميا ابنة القس أم أفراميا التي تتشوق للدين الإسلامي أم المجدلية أم آنجل أم أيائيل أم من...؟! أمسكت برأسها، ودستها في السرير بعد أن أطفأت الأنوار.
كان "مراد" يحاول الاتصال بها كثيرًا، إلا أنها لا تريد التحدث مع أحد، الأمر الذي دفعه للذهاب إلى غرفتها محاولًا مقابلتها، لكنها رفضت أن تقابله. لم يغمض له جِفن طيلة هذه الليلة، ومع طلوع الشمس توهَّجت النارُ المتأججة بقلبه، فأحرقت بدنه، وسار كما لو كان في حمى لا تنقطع نوباتها، لم يستطِع مفارقة النافذة المُطِلة على نافذة غرفتها، حتى رآها تطلُ من نافذتها إلى الشارع، لاح لها بيده، فنظرت إليه نظرة توشي بالحب، دخلت مُجددًا إلى الغرفة، وإغواء الوحدة يملؤها ويُميلها إليه، فتميلُ مضطربة من فرط التفكير، تسأل نفسها: "هل قضى الله أمره بعد، سبحانه يضعنا في المحن ليتميز الطيب منا من الخبيث!".
صباح اليوم التالي، وهو اليوم التي عزمتْ فيه "أفراميا" قطع زيارتها والرجوع إلى مصر، وقد علم "مراد" ذلك، فقرر هو أيضًا الرجوع، ذهبت هي لتودع "أحمد وزوجته"، ومراد أيضًا كذلك.
تقابلا الاثنان هناك، ولم يمر إلا دقائق معدودة بعد دخولهما إلى بيت "أحمد"، حتى شعرتْ "أفراميا" بدوّار جعلها تفقد وعيها، وحين فاقت قد وجدت نفسها محمولة على يد "مراد" قالت له:
- ألا زلتَ تحبني؟
- لم أشعر يومًا أن حبكِ قلَّ في قلبي.. ألا تشعرين؟
- لكني -يا مراد لستُ لك!
- لمَ؟! أنسيتِ وعودكِ أم تراجعتِ عن حبكِ لي؟!
- ليس هكذا، أنا متواترة جدًا، وليس لي أن أفكر في هذا -على الأقل الآن- أرجوك افهمني، يمكن لنا أن نصبح أصدقاء، الآن أنا لست أنا، ولا أعرف من أكون، وإلى أي دين أنتمي؟!
- أنتِ "أفراميا" الشابة المسيحية التي أحبها.
- لا -يا مراد- لستُ أدري إن ما ظللتُ مسيحية أم دخلت الإسلام!
- أنتِ أسلمتِ؟
- لا أدري، لكني أحببت دينكم الإسلامي في الوقت الذي لا يمكن لي أن أنسى أنني مسيحية!
- أنا لا أفهمكِ!!
- أنا لستُ إنسانة طبيعية، أنسيت أنني أتحول إلى شخصيات كثيرة، وهذه الشخصيات تؤثر داخلي، أنا لا أتصنع هذا!
- لكنكِ الآن تبدين جيدة..
- أبدو أحسن لأنني لا أظهر لكم ما يحل بي، فأنا ما زلتُ أنقسم في نفسي، ولا أعلم إن كان هذا مرضًا نفسيًا أم أنا فعلًا مجنونة! أنا لا أعلمّ وهذا ما جعلني أقترب من الدين الإسلامي، وأحاول أن أحفظ قرآنكم، لعلي أُشفى إن كنتُ مريضة.
- إذًا الآن -يا أفراميا- عليكِ أن تعلني إسلامكِ!
- أعلن إسلامي!! أنا أسلمت؟! أنا أحب دينكم، لكن أنا مسيحية أو بمعنى آخر.. أنا مسيحية مسلمة!
- لكن هذا لا يجوز، فإما أن تكوني مسلمة أو مسيحية.
- الاثنان يا مراد!
- ولو كان.. فهذا لا يمنع زواجنا..
- لن نتزوج، وأنت تعلم هذا جيدًا، وكفى إلى هذا الحد.. أرجوكَ، سوف أعود إلى الفندق لتجهيز حالي.
رجعت "أفراميا" إلى الفندق، لكنها كانت مُتكاسلة بطيئة في التفكير، جلست على الأرض، وغفت عيناها، ورأت أن مجموعة من القوم يرتدون لباس الصيادين واثبين على رمال بحبرة طبريا، وأعينهم مُثبتة على الطوافات المصنوعة من اليقطين الأحمر تقتربُ باضطراب، وكلما حاولوا جر رحم الشبك المُثقل بالأسماك إلى شاطئ البحيرة، سمعوا أزيزًا كئيبًا عن بُعد، يملأ السهل كله، مصحوبًا بصرخات حادة، كالتي تنطلقِ من الترنيم الجنائزي.
كانت "أفراميا" تقف على التلة المقابلة للبحيرة، أرهفتْ أُذنيها كي تسمع بوضوح، فتوقف الصيادون عن سحب الشباك واستداروا إليها، فسألتهم:
- ماذا حدث؟! لمَ هذا الصراخ؟! أهذه ترنيمة جنائيزية؟! إني أرى النسوة يندبن، والرجال يعتلون رؤوسهم بأيديهم، ما الذي جرى؟!
أجاب رجل عجوز مكرمش الوجه، يرتدي فوق رأسه قطعة قماش بالية سوداء:
- لقد ماتت.. لقد ماتت! أطال الله عمركِ.
فارتقت "أفراميا" أحد الصخرات الكبيرة، ومسحت بعينيها الأركان، فرأت نساء ورجالًا يهرعون إلى الحقول، يقعون وينهضون من جديد، ويرفعون ملابسهم، ويغطون رؤوسهم، ويؤدون الترتيل الجنائزي، وبدأت الفوضى تدب في أرجاء القرية كلها. كانت النسوة أثناء مرورهن يشددن شعورهن، لكن الرجال من خلفهن يسيرون صامتين يطأطئون رؤوسهم إلى الأرض، فصرخت "أفراميا": "ماذا حدث؟ إلى أين أنتم ذاهبون؟ ولماذا تبكي النساء؟!"، لكنهم كانوا مُسرعين متجهين إلى بيادر الحنطة دون أن يجيبوا، فزعقت وهي تلوح بيديها: "إلى أين أنتم ذاهبون؟! من مات؟!"، فتوقف رجل قصير القامة ممتلئ الجسم، وأجاب لاهثًا:
- الحنطة..
ظلتْ واقفة ولا تفهم شيئًا، وفجأة ضربت رأسها بكفيها:
- الحنطة!! يبدو أن أحدهم مات، وهذه الناس تتسارع لتنال الحنطة، وتضعها عند قبره، لكن من هو ذلك الشخص؟ من الواضح أنه شخص مهم!
أصبح الصراخ الآن يغمرُ البحيرة، وقد خرج الناس من منازلهم، وراحت النسوة النسوة تقع على البيادر، وتتخبط في الأوحال، وتسرع لجمع الكمية الصغيرة التي تبقت، فصرخت في وجههم قائلة:
- من الذي مات؟
أجابت النسوة في صوت واحد:
- لقد ماتت "المجدلية".. لقد ماتت.
فتسمَّرت "أفراميا" مكانها مذهولة، وردت قائلة:
- أنا لم أمت! أنا المجدلية!
فانتبهت إلى النسوة، وهن يضحكن ويهزأن بها قائلين:
- لقد ماتت المجدلية، من أنتِ؟! أنتِ مجنونة!!
أخذت "أفراميا" تتسابق مع القوم للوصول إلى القبر (قبر المجدلية)، وهي فاقدة التفكير، وفي الطريق تعثرت بإحدى الحجرات الكبيرة، فخرَّت إلى الأرض، ولم تفِق إلا قبيل بزوغ الفجر. نظرت إلى الأعلى كانت كوكبة من النجوم هائلة تُغطي صفحة السماء، والفضاء زغيب وأزرق اللون، فقالت في نفسها: "إن الديكة تستيقظ في هذه الساعة، والمزارعين استيقظوا، والرجال يفتحون عيونهم، وينظرون من خلال الكوة إلى التوهج العائد من جديد، والنساء الآن يفترشن الأحواش ويعددن الخبز، والحنطة، وأنا عليّ أن أذهب إلى مكان القبر الذي زعموا أنه قبري، أقصد قبر المجدلية!
وقبل وصولها إلى القبر سمعتْ خرير ماء ورنين أساور وضحكًا عن بعد وكان يقترب، وأحسَّت بالانتعاش في جفنيها وإبطيها وحنجرتها، رفعتْ ناظريها فرأت أمامها حية لها عينان وصدر امرأة، تلعق شفتيها وتحدقُ لها.. خطت "أفراميا" إلى الخلف، وقد مسّها الرعب؛ أتلك أفعى أم امرأة أم أحد شياطين الصحراء الماكرين؟! مثل هذه الأفعى التفت على الشجرة المُحرمة في الجنة، وأغوت الأولين! سمعتْ ضحكًا وصوت امرأة عذبًا متملقًا:
- إني أرثي لحالكِ، ها أنتِ قد أتيتِ كي أساعدكِ!
- أنا لا أريدكِ! من أنتِ؟ أنا لا أطلب مساعدة!
- أنا روحكِ المُتعلقة..
فهتفت "أفراميا":
- روحي! أي روح؟!
- نعم.. روحكِ.. أنتِ تخافين؟
- نعم.. خائفة.
- جدكِ الأكبر "آدم" انتابه خوف مشابه، وهو أيضًا قد طلب المساعدة، فاتحد جسده وروحه، وخرجت امرأة من ضلعه لتسليه!
- لا أريدكِ.. لا أريد مساعدتكِ، إنني أذكر التفاحة التي أطعمتها لآدم، أذكر الملاك ذا السيف المعقوف!
- أنتِ تتذكرين، ولهذا تراكِ متألمة، وتصرخين داخلكِ، لأنكِ عاجزة عن العثور على طريقكِ، سوف أريكِ إياه؛ أعطيني يدكِ ولا تنظري خلفكِ، ولاتتذكري أي شيء..
- إنكِ ستقودينني أيضًا إلى الإثم اللذيذ وإلى الجحيم، لن آتي معكِ، إن سبيلي سبيل آخر.
قهقهت الأفعى بصوت عذب وعيناها تبرقان:
- سأفضي إليكِ بسر يا أفراميا، أهذا هو اسمكِ، صحيح؟
وانزلقت من على الصخرة كجريان الماء، وأخذت تزحف حتى وصلت عند قدميها، ثم ركبتيها، وتابعت طريقها إلى أعلى بحركة مُلتفة، وبقفزة واحدة وصلت إلى فخذيها ثم عورتها فصدرها، واتكأت على كتفيها. أمالت "أفراميا" رأسها مضطرة لتسمعها، لعقت الأفعى أذنيها بلسانها، وكان صوتها مغريًا ونائيًا، وكأنه قادم من بعيد من أطراف بحيرة "جنيسارت":
- هنا المجدلية.. هنا المجدلية، ليست أنتِ، هي هنا في القبر.
حاولت "أفراميا" أن تنفض الأفعى لإبعادها عن رأسها، لكنها أقحمت نفسها الى الأمام وهزت لسانها في أذنيها:
- أنتِ جسدكِ جميل، هادئ وتام الأوصاف، ولكن كُتب عليكِ أن تكوني من نصيبي، خلق الرب الذكر والأنثى ليتزاوجا تزاوج الدسر في الألواح؛ سأغرس فيكِ ما يحلو لكِ، فأطفالنا جالسون رابضون معًا ينتظرون هذه اللحظة، كي تنفضي عنهم خدرهم، كي ينهضوا ويخرجوا ويسيروا بين الخلق..
آنذاك فهمت "أفراميا" أن هذه الأفعى ما هي إلا مجرد شيطان يريد أن يمتطيها، فقالت في نبرة صاخبة:
- ابتعد عني -أيها الرجيم- فأنا المجدلية!
حينها ضحك الشيطان وقال لها:
- المجدلية تنام نومة بهجة هنا تحت هذا القبر.
وضغطت بصدرها الناعم فوق صدر "أفراميا" المستدير، وكادت تعصره، فشحبت "أفراميا"، واختنق صدرها، وهي تحاول إبعاد تلك الحية (الشيطان) عنها، وأخذت تسرعُ في الخُطا وهي تلهث، وكلما دخلت مكانًا لاحت لها الحية، فدسَّت وجهها في التراب حتى امتلأت عينها به، وسار وجهها أشبه بالصحراء، والحية تضحك وتفوح، وتصيح صيحات جلبة، و"أفراميا" تصرخ بشدة حتى انتبه أحدهم لصراخها رجل كبير بشعر معقود ولحية حمراء، حملها من على الأرض على دابته، وسار بها إلى بيته، وحين فاقت "أفراميا"، ونظرت إلى هذا الرجل توجست منه خيفة، فأخذ يطبطب على رأسها ويقول:
- لا تخافي؛ لن أؤذيكِ، أنا رجل صالح.
اطمئنت له بعد أن أحضر لها الطعام، وقال لها:
- ما الذي كان يُخيفكِ؟
- لقد رأيته.. لقد سمعته.. لقد أحسسته!
- من هو؟!
- الشيطان الرجيم! شعرتُ به بعد أن تخفَّى بالحية..
ضحك الرجل وقال لها:
- أهو مُخيف؟
- جدًا.. إنه رجيم.
- لكنكِ لم تريه.
- لكن شعرتُ به.
- شعرتِ به، والآن لم تشعري به!
- ماذا تقصد؟!
- قلتُ لكِ من قبل إنكِ تحتاجين لي؛ أنا سأساعدكِ بعد أن أتزوجكِ.
صرخت "أفراميا" بعد أن تيقنت أن هذا الرجل هو الشيطان، وأسرعت للخارج، وهي مفزوعة خائفة تجري بين رمال الصحراء، والرجل يجري وراءها حتى سقطت في بئر مُظلمة، وهي تصرخ ولا أحد يسمع، حتى لاحت لها تلك الطفلة التي تُدعى "آنجل"، فقالت لها:
- لا تخافي -يا أفراميا- لا تخافي.
وأخرجت من صدرها مصباحًا صغيرًا، وأنارت البئر، وهمست لها قائلة:
- لقد ساعدتِني، والآن أنا أساعدكِ سوف أخرجكِ من هنا، وأخذتها وخرجت إلى الرمال، واستقر الاثنان على صخرة قريبة من القبر، آنذاك اختفت "آنجل" وتصدَّع القبر، وخرجت منه شجرة لها عينان وفم، وقالت لأفراميا:
- لقد متُ.. لقد متُ.
فنظرت "أفراميا" إلى تلك الشجرة، وقالت لها:
- متُّ!! إذًا من أنا؟! أنا لست المجدلية؟!
- لا.. لستِ المجدلية، أنتِ "أفراميا"..
حينها أرسلت السماء لآلئها من فوقها، بينما هي في الأسفل تمدُ ذراعيها جاهدة بقوة، وكأن الأرض بكاملها غدت مروجًا، مر الظلام من فوقها مع مرافقيه من نجوم الليل، والطيور المُغردة.
دق جرس الغرفة، استفاقت "أفراميا" من غفوتها، وقبل أن تفتح الباب وجهت عينيها صوب المرآة، وأخذت تتحقق من ملامحها، وتنظر إلى أصابعها، وهي مُتعجبة من هذا الحلم، تقول في نفسها: "لقد شُفيت.. أنا "أفراميا".. لا أحد آخر".
تبسمت وذهبت لفتح الباب، كان "مراد"، وقبل أن تنطق بأي كلمة قال لها:
- سنسافر إلى بلدنا اليوم، أتحبين أن أركب معكِ الطائرة أم...؟
ودون أن ترد عليه استطالته بذراعيها واحضتنته، وقالت له:
- تتزوجني؟
فقال لها، ودموعه تذرف من شدة الفرح:
- نعم.. أتزوجكِ... الآن.
- ليس الآن، لكن عند وصولنا إلى بلدنا، لكن تقبلني على ما أنا عليه؛ مسيحية تحب الدين الإسلامي!
بعد العودة إلى مصر، وكان كل شيء على ما يرام، كانت "أفراميا" تستعدُ للزواج بمراد، وهو أيضًا قد رتَّب حاله للعيش في القاهرة بعد أن يتزوج.
أفاقت "أفراميا" باكرًا يوم السبت، فأسرعتْ إلى مكتبة عمها؛ تلك المكتبة الغنية بالكُتب النادرة، فأخذت الإنجيل لتقرأ فيه، هذه هي المرة الأولى التي عجزتْ عن ظبط نفسها.
فقد فلت زمام الأمر من يديها، فبعد ساعتين من المُطالعة والتأمل جاشت عواطفها وسالت دموعها، وشعرت بحاجة ماسة إلى السجود، فركعتْ، وأكبَّت بوجهها على الأرض، تلتمس من الله أن يفصح عن زمان الجهل الذي ارتكبتْ فيه شيئًا من الخطايا، وأجهدت نفسها في الصلاة حتى بلَّلت الأرض بدموعها، ونهضت لتغسل وجهها، وعادت إلى المكتبة لتضع الكتاب في مكانه، ودون أن تشعر وجدت يديها تعبثُ في الكُتب، حتى لمحت كتابًا ذا جلدة سميكة خضراء، فتحت إحدى صفحاته من المنتصف، وقرأت: "لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ" (الأنبياء:١٠)، وبعد أن قرأت هذا الكلام قالت في نفسها: "أي كتاب؟!"، ولماذا عمي يحتفظ بهذا، فهذا كتاب القرآن؟! فغلقت الكتاب وباتت تفكرُ، وتقول: "الله غير مُدرَك، وغير ملموس، وغير منظور، وغير مُقترب منه، فإن كنا لا نستطيع الاقتراب من جوهره، فإن نوره الجوهري قابل لأن يسطع فينا، ويسكن فينا".
وقررت أن تترك المكتبة، وأسرعت ودخلتْ غرفتها؛ تركع وتصلي.. رافعة آيات الشكر لربها، وتقول: "ربي، اهديني إلى طريق الهُدى".
ظلَتْ هكذا حتى تنفَّس الصبح، وبدأت في ترتيب حالها، لكنها عجزت عن فعل أي شيء آخر غير التفكير في مصيرها العقائدي، وتيقنتْ أن عليها أن تأخذ خطوة جريئة في هذا الاتجاه، وألا تدع الوساوس تضجُ في قلبها، فزاحت غطاء النفس عن هواء الجسد، وأخذت تتأمل في آيات القرآن، وبعض آيات الإنجيل، ركنتْ يديها خلف رأسها، وهي تنظر إلى سقف الغرفة، وظلت تتأمل في المصباح الذي تطوف حوله فراشة بيضاء، ظلتْ عيناها تتبعها، وهي تتهادى بقوامها الممشوق، وبدا جذعها كأنما قُد من جذع شجرة عتيقة، شهدت كل الديانات، وحضرتْ كل الوقائع.
صوت من هذا الذي تسمعه؟! فهزها من كتفها، وهتف على مسامعها: "لا تخافي، ولا تحزني".
ورأت نفسها تسير إلى جبل عالٍ، وتجلى لها على قمته قبس من نور، لكن الشياطين التي كانت تختبئ في السفوح خلف الأحجار السوداء راحوا يرجمونها بالحجارة الثقيلة، وشعرتْ أنها ستمسُ بأذى، فتراجعتْ إلى الخلف، وفجأة برزتْ آلاف الشياطين تفحُّ كالأفاعي من كل شبر بالجبل، فارتطمت رأسها بالحجارة، وسال منها الدم، وكاد عُنقها يندقُّ لشدة الصَدمة، وأنفاسها تختنقُ، فوجدت نفسها في منطقة صحراوية خالية حتى من الجن، وهي تجري وتلهث وتهذي، حتى تدحرجتْ على الرمال كالبالونة، وقفز الرعبُ إلى عينها، حتى كادت تنخلعُ عن جفنيها!
أسرعت للخروج من هذه الصحراء، فدخلت مبنىً قديمًا، وطافت عبر بهو فسيح حتى بلغت الجزء الشرقي منه، فرأت من خلف جدارٍ منزوٍ قائم في المبنى درجًا داخليًا، استقلت إحدى درجاته فهبط بها بطريقة حلزونية، شعرتْ بالرهبة، وكلما اقترب هبوطها للأسفل فزعتْ أكثر فأكثر، لفت الفجيعة أنشوطتها على قلبها، وزادت الحرارة فجعلت جسمها يتصببُ عرقًا، صرخت صرخات جلبة، لكن هيهات فهذا المكان لا يوجد به لا إنس ولا جن! طوَّفتْ ببصرها عبر هذا المكان، وعادت بذكرياتها القديمة تتأملها بضحك، وبكاء، وحزن، وفرح، المشهد ينحسر شيئًا فشيئًا، يتضاءل داخلها لتبدو الأشياء كأنها ملامح لطفل يحبو، إذ لم يترك وراءه غير البكاء والنحيب.
وصلت إلى آخر درج وأنفاسها تتقطع. ركعت واضعةً يديها على رُكبتيها، وراحت تلتقط أنفاسها، ثم قامت فاعتدلت، وظلت تتقدم حتى وصلت عند بئر كبيرة، نزلت درجتين صغيرتين، لتتمكن من رؤية قاع البئر، فأطالت جسدها النحيل لترى قاعه، كان الماء يتراقص كأنه جان، ولَّت مُدبرة وصعدت درجتين، وتناولت سبع حصواتٍ عجافٍ ورمت في كل اتجاه واحدة، فغامت الدنيا وأظلمت، وانطفأت الكواكب.. أسرعت وخرجت إلى الصحراء، فإذا الموتى كلهم وقوف كأعواد من الملح الجاف، والكبريت الأحمر، وشموس مُعلقة في فراغ ذاتها، رؤوس مقطوعة تتدحرج على الرمال، فناداها منادٍ وقال: "اشربي.. اشربي"، فشَربتْ شربة عجلانة وملهوفة، أخذها الناده، وصعد بها إلى جبلٍ عالٍ، وهو يصَّاعد أمامها، وهي تسيرُ خلفه، وكلما دنا خطوة اتسعتْ المسافة، والرمل يلتوي تحت أرجلهم، ويتقبقبُ قبقبات جلبة، فمروا على أحدهم يصنع الفُلك، فقالت له:
- لمن تصنع الفُلك، ونحن غرقى؟! ومَن يركب معنا؟! ألا ترى أن الرمال كلها تحوَّلت إلى ماء من كل جانب، ونحن نرقد هنا من ألف سنة، ولا أحد يرانا، وتقلبنا الشمس ذات اليمين وذات الشمال، نتظر في بلاهة وخوف!!
فقال لها الرجل:
- لقد أُلقي بنا في متاهة غير مأهولة، وركن مُهمل.
استدارت إلى الخلف فرأت شجرة عظيمة تنبت من السماء، وحولها خلق كثيرة؛ عيونهم ملآنة بالهزيمة، فصُعِقتْ وفاقت.
استيقظتْ "أفراميا" من غفلتها مفزوعة مُحتارة في هذه الرؤيا!!
دخلت غرفتها، واستلقتْ على سريرها، وهي لا تعرف من هي، وما الذي حلَّ بها؟!
دق جرس الباب، فكان "مراد" قد أحضر لها فستان الزفاف، وحدد موعد الفرح بعد أسبوع؛ فرحتْ "أفراميا"، وقالت له:
- أريد أن تتحملني، أنا أعرف أنني مريضة نفسيًا..!
فوضع إصبعه فوق شفتيها، وقال لها:
- لا عليكِ، فكلنا مرضى نفسيون!!
وتعالت قهقهات الضحك بينهم...