حملت خولة، زوجة عيد، صدر الطعام (طبق مصنوع من القصل يوضع فيه الطعام) زاهي الألوان، وفيه طعام الفطور، الساعة الثامنة صباحاً، على رأسها، وممسكة به بيدها، وإبريق الشاي المصنوع من الجبصين ولونه أزرق في يدها الأخرى. أغلقت الباب على عمها سلامة بعد أن جهزت له فطوره على طاولة السفرة وغطته ريثما يصحو عمها من قيلولته الصباحية بعد صلاة الفجر. ثم اتجهت نحو الحقل الذي تملكه عائلة زوجها، ومشت تسير على جسر الصبر، وفي أنفاسها عناء الحياة، شهيقها آلام وزفيرها أحزان، وعلى رأسها تاج من الحب لقريتها وأهلها وحقلهم.
وفي عينيها ابتسامات تشرق بالسعادة والأمل، وقد غسلت بهما عذاب السنين وقهر الأيام. فلما وصلت خولة إلى الحقل وهي تحمل زاداً وزوادة حيث يعمل سلفها عبد الله، ترافقها أمه عمت خولة خديجة ليأكلا وجبة الفطور. تعتبر وجبة الفطور عند الفلاح مسمار المعدة.
كان الحاج عبد الله يحرث الأرض على فرس باستخدام محراث خشبي يركب على الحصان.
ولا أحد يُجيد الحراثة مثله في القرية، فكل أهل القريةينتظرون دوره ليحرث لهم أرضهم.
ويقسمون الحقل ليتسع للقمح والشعير والفول والبازلاء والعدس والذرة، ليكفيهم للعام كله. يؤمنون احتياجاتهم واحتياطياتهم، ويبيعون ما زاد عن احتياجاتهم ومؤونتهم ليحصلوا على النقود والمال لشراء الثياب والاحتياجات من السوق.
ولكن عمة خولة، خديجة، كانت تعاملها معاملة الخادمة والجارية وعبدة في بيت سيدها. كل هذا لأنها تطيعها طاعة عمياء، تخاف خولة أنه إذا رفضت لها أي شيء أن تجرح مشاعرها أو أن تغضب عليها. فخولة كانت تطيع عمتها وتفعل ما تأمرها به.
كطاعة الابنة لأمها، فإن خولة تعتبر عمتها بمنزلة أمها.
وكان زوج خولة مجندًا في العسكرية، ولا يرجع إلى البيت إلا في نهاية الأسبوع، يومي الخميس والجمعة. وكانت زوجات عبد الله وحمود في بيت العائلة، وهما كأميرتين أو ملكتين في بيت العائلة، لا شغلة ولا عمل، أكل ومرعى، وقلة صنعة وحيلة ؛ لأنهن كانتا قليلات الأدب مع عمتهن.
ولايسمعن لهافيما تأمر به ، ولا يسكتن لها في شاردة ولا واردة. وكانت إحداهن ترد عليها الكلمة بكلمتين. وجاءت خولة بالطعام ووضعته تحت ظل الشجرة . وبعد تعب الخطوة والمشوار، وما كادت أن تلفظ أنفاسها التي تحكي قصة معاناتها وآلامها في هذه الحياة. فما إن وضعت الطعام وارادت أن تجلس لتلتقط بعض أنفاسها، إذ قالت لها عمّتها خديجة: أتيت لتقعدي، خيه، وتسرحي وتمرحي. تظنين نفسك جايّة رحلة وفُسحة إن شاء الله، بتفكري بدك تقضيها عندي؟ لقطف والورد واستنشاق الزهر.
لا، يا حبيبتي، قالت لها بصياح ونهر وغلظة. عمك عبد الله يريد أن يشرب الشاي على الحطب. فقالت لها خولة: لقد جهزت الشاي في البيت وأحضرتُه معي. فردت عليها عمتها خديجة: بعد الفطور بساعة، سوف يشرب عمك عبد الله الشاي على الحطب.
اذهبي حالًا واجلبي الحطب حتى نشعل النار، وبعد الفطور نصنع إبريق الشاي. فذهبت، والدموع حبيسة في عينيها، وخطوات الوقار والأدب في مشيتها، تتنقل بين الحقول كالفراشة، تجمع عيدان الحطب من البساتين المجاورة. ابتعدت ما يقارب نصف كيلو، ولما اقتربت من حقل حمد، إذ وجدت بيوت النمل بكثرة بين صخرتين. وتحرس النمل أفعى كبيرة ضخمة مخيفة. فما أن رأت خولة هذا المنظر حتى صعقت، ونظرت طويلا، فإذا مغارة. فقالت: يا الله، احفظني، وأصبحت تردد: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم).
اللهم اكفنيها بما شئت يا رب العالمين.
(أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق).
ورجعت خولة تركض خائفة ووجهها محمر، وقد تجمد الدم في عروقها، وتوقف شعر رأسها، وهي تقول: يا الله، احفظني واحمني يا رب العالمين. فما أن وصلت إلى حقلهم حيث تتواجد عمتها خديجة وعمها عبد الله، إلا وأن أغشي عليها مرةً أخرى. فقام عمها عبد الله وعمتها خديجة بوضعها على الأرض، وقد رشوا الماء على وجهها عدة مرات حتى أفاقت من غيبوبتها. وبعد خمس دقائق، استعادت وعيها، فما كان من عمها عبد الله إلا أن عاتب أمه.
قائلاً لها: يا أمي، لماذا تركتها تذهب لجلب الحطب؟ لماذا لم تخبريني؟ لو طلبتِ مني، لذهبتُ وأحضرْتُ حزمة حطب. أرجوكِ، يا أمي، كفى عن معاملتها المعاملة السيئة. إنها تطيعك في كل شيء أكثر من زوجتي وزوجة أخي حمود، فهي جوهرة في يديك، فاحسني استخدامها واحسني إليها. وأكرر رجائي إليك، يا أمي، أن تكفي عن معاملتها المعاملة السيئة.
فقال عبد الله لخولة بعد أن استعادت وعيها و وضعها الصحي: سلامتك يا عمي، تعيشي وتأكلي غيرها.
لا بأس، طهور إن شاء الله. وهَنّأتها عمتها بالسلامة وقالت لها: الحمد لله على سلامتك يا ابنتي.
قدر الله وما شاء فعل. تنذكر وما تنعاد.
فلما علم خال خولة، أبو علي، وعنده ملحمة (جزار) يبيع في القرية كيلو اللحم بدينارين ونصف، وصديق لابن عم زوج خولة، أبو عيسى، اتفق الاثنان بعد أن أعدا زوادةً وفراشًا وغطاءً، وأخذ كل منهما بندقيته (الجفت)، وذهبا إلى المكان الذي ذكرته خولة لخالها بمكان تواجد الأفعى. اعتقدوا أن هذا هو مكان وجود الذهب حتى يقتلون الأفعى ويحصلون على الذهب. وخيموا في ذلك المكان، واتفقا أنه إذا سألهم أحد أبناء القرية لماذا يمكثون هنا، فإنهم سيخبرونه أنهم ينتظرون عودة النيص، فقد شاهدوه هنا، وهم متربصون في هذا المكان لصيده ليأكلوا لحمه للعلاج من الأمراض.
ويقدمون من لحمه لمن يحتاج إلى العلاج من أهل القرية. مكث أبو علي وأبو عيسى في هذا المكان ثلاثة أيام بلياليها، يراقبان المكان، ويشعلون النار، ويشربون الشاي والقهوة، ويسمرون وينشدون الغناء على لحن الربابة. وكانوا يسمعون أصوات فحيح الأفعى دون أن تخرج عليهم. وكانت هذه الأفعى ترصد الذهب وتقوم بتشميسه بين الحين والآخر، أو مرة في العام، حتى يحصل عليه من يُكتب له النصيب فيه، وحتى تتحرر هذه الأفعى من حراسة الذهب. وبعد أن يئس أبو علي وأبو عيسى، ودون جدوى أو فائدة من قتل الأفعى،
والحصول على الذهب
غادروا المكان.
وما إن مرت على هذه الأحداث قرابة أسبوع، أخبرت خولة ابنها الأكبر بما حدث معها، فقال لها: لنذهب معًا يا أمي إلى ذلك المكان لنراه، ربما كُتب لنا نصيب من الرزق. فخرجا معًا، ولما وصلا إلى ذلك المكان، قال لها ابنها: يا أمي، إن هذا المكان بعلاماته وبما أخبرتني من كثرة النمل يدل على وجود الذهب، لأن النمل هذا هو الذهب، وإن الأفعى هي الرصد الذي يحرس هذا الذهب ويحميه. لو أنك يا أمي قلت: 'ياهلا بالمال السارح والرجل الصالح'، لجاءك هذا الرصد بالذهب ملبياً ومجيبًا، ومنّ عليك بهذا الذهب الذي يحرسه. أو لو أنك وضعتِ الحطة (غطاء الرأس).
على النمل، لقلب لك الله هذا النمل ذهبًا ولأصبحنا أغنياء أثرياء، وتغير حالنا إلى الأحسن. ثم نظر ابنها وهو يتفقد المكان فوجد بردة فقال لها: لمن هذه البردة يا أمي؟ فقالت: إنها لخالي أبو علي، لابد أنه نسيها هنا. كان هو وأبو علي يعتقدان أن في المغارة نيصًا لتخفية أعين الناس عنهم، ولكنهم أخبروني أنهم خلال فترة مكثهم كانوا يسمعون صوت فحيح الأفعى. وبقي ابنها يتفقد ويتفحص في المكان فقال لأمه: انظري يا أمي لهذه العلامات المحفورة على الصخر. فقالت: أراها يا بني. فقال لها: هذه العلامات والرسوم نقشها مالك الذهب وصاحبه الذي وضع الذهب في هذا المكان.
من غابر السنين، جاء أحدهم وفك لغز هذه الرسوم وأخذ الذهب. فحظاً أوفر يا أمي، ليس لنا نصيب في الذهب، تأخرنا فوصل أحدهم قبلنا وحصل على الكنز وغادر.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقدر الله وما شاء فعل.
ذهب الذهب من بين أيدينا،
ذهب الكنز جفاء، وذهب.
وذهب الذهب هباء.
هيا بنا يا أمي لنعود إلى البيت.
فقالت له أمه: كل شيء قسمة ونصيب يا بني.