"أي هرب؟! ما دامت الأشياء تسكُننا، ما دمنا حين نرحل هربًا منها نجد أنفسنا وحيدين معها وجهًا لوجه!"
أسرع سامر إلى داخل الغرفة ليجد شيرين في فراشها تغوص في سبات عميق؛ من أثر الحبوب التي أعطاها لها؛ يحملها بحرص شديد ويخرج وسط نيران مشتعلة، يحاول إيقاف سيارة أجرة لنقلها إلى المشفى بسرعة، وفيضانات من الدموع تغرق وجنتيه، يصل إلى المشفى ويضع شيرين على سرير متحرك لنقلها سريعًا إلى غرفة الطوارئ. بينما يظل سامر بالخارج غاضبًا، كور قبضة يده وضرب الحائط الذي أمامه وهو يسب ربيعة ويصيح غاضبًا: ويلٌ لكِ يا ربيعة، لن أرحمكِ، أنتِ ومن معكِ، أيتها الحقيرة، حسابكِ معي يتضاعف، إلا شيرين يا شيطانة، انفجر غليان بكاء في حنجرته، رفع وجهه إلى السماء، وهو يصرخ: آه .. آه .. يا رب رحمتك بها وبي، فليس لي أحدٌ غيرها.
وصار يغالب غصة استقرت في حنجرته وهو يتخيل فراقها، ويحاول إبعاد تلك الفكرة من رأسه.
يحدث نفسه بحزن "أه يا شيرين لو تعلمين، لم تستطع غيرك اختراق قلبي ولا زحزحتكِ منه، أنتِ لي الضوء الذي أزاح ليل حياتي الحالك، أنتِ فقط من تتربعين على عرش قلبي"
تذكر يوم سفره مع والديه وهو طفل لم يبلغ بعد عامه العاشر، وكيف ودع شيرين ووالدتها بدموع وقبلات، لم يكن الأمر سهلًا، لكن والده حصل على عقد عمل بالخارج وكان عليهم السفر معه، في طريقهم إلى المطار انقلبت السيارة، ولم يفق إلا في المشفى ليجد ربيعة إلى جواره مدعيه قرابتها به، وهو لأول مرة يراها، لم ينطق وكأن لسانه لُجم فلم ينْبس ببنت شفة، بعد أيام وجد نفسه بمنزلها، سيطرت ربيعة على حياته واستولت على حاضره ومستقبله، وأغلقت أي باب يطل على ماضيه وذكرياته، الشيء الوحيد الذي يدين لها به هو تكملة دراسته حتى حصل على شهادة الثانوية التجارية، رغم إحجام رغبته في الدراسة الجامعية التي حلم بها، لكنه أفضل من جهل دامس كان ينتظره، لولا وجود ابن ربيعة الذي كان يدرس معه ويعتمد عليه كليًا، طالما غش منه ودرس عنه، لولا ذلك ما ذهب إلى المدرسة.
تتساقط دموع سامر وهو يردد "لعنة الله عليكِ يا ربيعة، حُرمت من حنان أمي وأمان أبي بسببكِ، لم أنعم بطفولتي، كنت أغبط الأطفال الذين يلعبون في الطرقات، وأتجرع مرارة الحزن والأسى لعجزي عن اللعب ومشاركتهم متعة الجري والتسابق؛ لم أعش طفولتي ولا شبابي؛ طويت سنوات عمري دون أن أتذوق طعمًا للسعادة، شعرت أنني دُفنت في منزل ربيعة، في خندق السحر والشعوذة، تلك الحية شديدة القسوة، كنت استيقظ كل صباح على صوتها الأجش يخترق سمعي، توقظني بعنف ساحبة الغطاء عني بشدة وهي تصرخ بصوت محتقن: قم بسرعة وأغسل وجهك واذهب إلى السوق لإحضار الخبز والطعام. كنت أتناول بعض لقيمات على عجل لأنتهي من تنظيف المنزل وترتيب حجرة العمل وتجهيز البخور، واستقبال الزبائن، وفي المساء كنت أتناول العشاء دون أن أهنأ به ثم أسلم بدني لنوم عميق من شدة الإرهاق والتعب، ذلك البيت الذي لم يسبق لي أن شبعت فيه أكلًا أو نومًا، بل أشبع ضربًا من ربيعة وزوجها المدمن، وابنها المدلل الفاشل، كم تمنيت الفرار منهم والهرب، لكن كل محاولاتي باءت بالفشل وبضرب مبرح ولم ارتكب أي جرم، تحملت هذا الوضع الخانق، الحياة مع غرباء قساة القلب، منعدمي الضمير والإنسانية، مرت سنوات عجاف، تحملت فيها مشاعر الأسى والغربة والخوف، كانت مشاعر الحرمان تُفسد عليّ حياتي، الحرمان من والديّ ومنكِ يا شيرين، الشيء الوحيد الذي كان يمنحني القوة هي صورتك التي احتفظت بها معي، وذكرياتي معكِ كانت تمر عليّ كنسيم عابر يفوح أزهاره العطرة، فتحيى ما مات بداخلي ويعود قلبي للحياة، يا إلهي، ما كل هذه الوساوس والأفكار؟! أريد أن يكف عقلي عن التفكير، لا أفكر فيما كان، ولا فيما يكون، أريد أن أستريح من هذا العناء، غصات وخيبات وفقد وألم، وكأن لعنة الحزن تأبى أن تفارقني"
يخرج الطبيب ويطمئنه على شيرين، يدخل الغرفة ويظل بجوارها حتى يطلع الفجر، تتصل ربيعة به، يرمي الهاتف بغضب ولا يجيب، بعد ساعات يجد دقات على باب الغرفة؛ يفتح ليجد أحد أعوان ربيعة، وبيده هاتف وربيعة على الخط، يأتيه صوتها الأجش المرعب: ماذا بك يا وزير؟! هل استقلت من منصبك ؟! احضر فورًا وإلا لن يحدث خيرًا، ما حدث مجرد إنذار فقط، لا تثير غضب ربيعة وشياطينها مرة أخرى.
يغضب سامر ويشرع في الرد، لكن ربيعة تغلق الهاتف قبل أن يرد؛ فيزداد غضبه ويصب جم غضبه على من أمامه بصفعة شديدة، ثم يأمره أن يذهب وسيأتي خلفه، يفكر كيف سيترك شيرين وحدها! يتذكر سارة ابنة خالة شيرين، يتصل بها، يشرح لها الأمر ويعطيها عنوان المشفى، تأتي مسرعة قلقة على شيرين، يطلب منها سامر أن تعتني بها جيدًا، وقبل ذهابه يضع قبلة على جبين شيرين ويتحدث بحزن: اتصلي بي إذا حدث أي شيء، لن أوصيكِ عليها يا سارة، أرجوكِ لا تغفلي عنها.
- اطمئن يا سامر، لا تقلق هل توصيني على أختي؟!
تجلس سارة أمام شيرين، تتأمل وجهها البائس وملامحها الحزينة المتعبة، تبكي على حال صديقتها، تتألم لما آل إليه حالهم، تعود للماضي وذكرياته الجميلة:
"كانت تسير مع شيرين وأمل أثناء عودتهن من الجامعة، تتعالى ضحكاتهن، يتوقفن تارة و يسيرن تارة، ما بين مزح وجد، شد وجذب. فجأة ظهر أخوها أحمد وهو طالب بكلية الهندسة، لا يكف عن الضحك والنكات، يجذب الحقيبة من يد سارة فتصرخ، لكن عندما تراه تجري نحوه وتضربه على كتفه بشدة متوعدة له: لقد أفزعتنى، سأخبر أبي يا أحمد، وسترى عقابه.
تسير سارة بغضب وهو يتبعها مازحًا: ماذا بكِ يا جميلتي، لماذا تلك القسوة، أنا أضحك معكِ.
تبتسم سارة بينها وبين نفسها، وتنظر إلى أمل وشيرين حيث وقفتا متجمدتين مكانهما من الدهشة وغلبهما الضحك، تتصنع سارة الغضب وتسير مسرعة وأحمد خلفها يترجاها ألا تخبر والده، يدخلان الشقة وأحمد مترجيًا: سارة أرجوكِ، إلا أبي، كنت أمزح يا مجنونة، أردت فقط لفت نظر أمل، أخبريني هل حدثتيها عني، هل علمت بحبي لها؟
تهز سارة رأسها بغضب مفتعل مرددة: ألست مجنونة ؟! انتظر سترى جنوني، ونادت سارة: أبي .. أبي .. اقترب أحمد منها وأغلق باب الغرفة وهمس لها: اصمتي قليلًا حبيبتي، أنتِ أختي وصديقتي وسري، اهدئي وكُفي عن العبث واسمعيني.
تضحك سارة وتجلس على المقعد: تمام، لقد ثبتني بكلماتك يا باشمهندس! ماذا تريد يا صديقي وأخي ومصيبتي الكبرى؟ تحدث، سأسمعك وأمري إلى الله.
يجث أحمد بركبتيه أمام مقعدها مرددًا: أرجوكِ يا سارة تحدثي إلى أمل وأخبريها عن مشاعري وحبي لها، لا أتحمل الانتظار ولا أتخيل أن تكون لغيري؛ سأموت دونها وستتحملين ذنبي. يمسك الهاتف ويقترب من سارة؛ هيا اتصلي بها حالًا وأخبريها.
تقف سارة وتنهره: ليس الأمر بهذه السهولة، ابن عمها يريدها وأبيها لن يقبلك، لماذا تتعلق بأمل كاذب وتعذب حالك؟! لا أستطيع أن أحدثها، طوال الوقت شيرين معنا، حاولت كثيرًا وتراجعت، انسها يا أحمد.
تمتلئ عيون أحمد بالدموع، فأمل هي حب عمره، انتظر كثيرًا مصارحتها لكنه تردد خوفًا من أن يخسرها، وألا تأتي لزيارة سارة ويُحرم من رؤيتها؛ فاحتفظ بحبه حتى يتقدم لخطبتها، ولكن الآن ظهر ابن عمها في الطريق وأعاق كل خططه وأحلامه، فماذا يفعل؟! كان يشعر أنها تبادله الحب بنظراتها وحضورها الدائم لسارة، فكم لمح الحب في عيونها الصافية كسماء الصيف، كم لمح الحنان في سلامها وابتسامتها الدافئة الحنون، هل كان واهمًا أم أن حبه أعمى عيونه وقلبه!
يرن جرس الباب، يتجه أحمد ليفتح؛ ليجد أمل أمامه، تطل مع ابتسامتها الساحرة.