أراهُ منذ سنواتٍ شخصاً عادياً مثل الآخرين، أظنه يعمل بمهنته، ويكتسب منها قوت يومه، ويدخر ما يتبقى، لم يكن لي أي علاقةٍ به من قريبٍ أو بعيد، رؤيتي له أنه إنسانٌ بسيطٌ في نفسه،منطوٍ على حاله، لا يظهر كثيراً ولا تشعر بوجوده، الهدوء سمةٌ بارزةٌ فيه، والابتسامة طبعه، إذا قابلته لا يشكو ولا يتحدث كثيراً.
هذه نظرتي له إلى أن التقيته في الآونةِ الأخيرة دون ترتيبٍ مسبق، إنها الصدفة فقط التي جمعتني به؛ فتجاذبنا أطراف الحديث، وسألته عن أخباره فأجابني بفطرةٍ سليمة: إنه -والحمد لله- بخير، ثم تطرق الحديث بيننا لأمورٍ أخرى دون فضولٍ مني حتى علمت منه أنه ترك مهنته الأصلية التي تحتاج إلى مجهودٍ كبير، بسبب إصابةٍ بقدميه قد ألّمت به، ومنعته من أن يواصل فيها، ولجأ لعملٍ آخر أقل مشقة، ويناسب ظروفه التي طرأت عليه، ولكن دون المستوى المطلوب، وبمقابل ماديٍّ ضئيلٍ للغاية، يكفيه طعامه بالكاد، فما بالك بمقومات العيش والالتزامات الأخرى التي لا يمكن الاستغناء عنها! وفي أثناء حديثنا ظهر التعب على ملامح وجهه بشكلٍ غير طبيعيّ فسألته: "ما بك؟"، فقال لي: أنه ألمٌ قد استجد عنده، ويؤرقه ليلاً ونهاراً لمدة شهرين متتابعين، وهو يتحمل في نفسه بصبرٍ يُحسد عليه، فتعجبت وسألته: "لماذا لا تذهب للطبيب لتطمئن على نفسك؟!"، فصعقني بجوابه: "ومن أين لي بثمن الكشف؟".
إنه يحمل هم كشفه البسيط وهو الأقل مادياً من وجهة نظرنا، ما بالنا إذن بثمن التحاليل والدواء وخلافه إلى آخر الفاتورة الطبية المرهقة!
إنها -يا سادة- قسوة الظروف وعناء الحياة، هذا الشخص مثله
كثيرون، تمنعهم عفة نفوسهم أن يحكوا مُر عيشهم وأوجاعهم.
والسؤال: متى نشعر بالآخرين؟ ونحس بهم وبآلامهم ونسمع أنينهم في دنيا تأخذنا للهو بأنفسنا وملذاتنا؟