التحرش الجنسي بالأطفال ليس مجرد جريمة عابرة، بل هو جرح غائر يُترك في روح الطفل، ينمو معه بصمت، وقد يسرق منه طفولته وثقته بالعالم من حوله. ورغم فداحة هذه الجريمة، إلا أن كثيرين لا يزالون يتهامسون عنها، وكأنها عيب يُخفى، لا جريمة يُدان صاحبها.
التحرش يبدأ دائمًا بخطوة صغيرة، بلمسة مريبة، بنظرة لا تُطمئن، بكلمة يعلوها غبار الخبث. والطفل، ببساطته، قد لا يملك تلك البوصلة التي توجهه ليُفرق بين اللطف الذي يستحقه، وبين التعدي الذي يجب أن يُرفض. وهنا، تقع مسؤولية الحماية أولًا وأخيرًا على الأهل، لأن جسد الطفل أمانة، وكرامته خط أحمر.
التحرش لا يأتي فقط من غريب يلوح في الظلام، بل كثيرًا ما يأتي من القريب الذي نأتمنه، من الجار، من المعلم، من المدرب، بل حتى من طفل أكبر سنًا! وهذا ما يجعل الأمر أكثر تعقيدًا، لأن الحماية لا تعني فقط إبعاد الغرباء، بل تعني زرع الوعي في الطفل ليعرف أن "لا أحد له حق أن يلمس جسدي، حتى لو كان من العائلة".
الوقاية تبدأ من الطفولة المبكرة، حين نعلّم الطفل أسماء جسده بشكل صحيح، دون خجل، وحين نشرح له أن هناك أماكن خاصة لا يُسمح لأحد بلمسها. حين نزرع فيه ثقافة الاستئذان، ونمنحه الثقة ليُخبرنا دون خوف إذا شعر بعدم ارتياح تجاه شخص ما.
علامات التحرش لا تنطق أحيانًا، لكنها تصرخ في سلوك الطفل: تغيُّر مفاجئ، خوف غير مبرر، كوابيس، تراجع في الدراسة، كلمات غريبة لا تناسب براءته. وكلها نداءات استغاثة علينا أن نُصغي لها، لا أن نغض الطرف بحجة أن الطفل "يمر بمرحلة".
وإذا حدث ووقع المحظور، فلا شيء أهم من أن نُصدق الطفل، نحتويه، نحميه، ونتحرك فورًا. الصمت هنا خيانة، والتستر جريمة مضاعفة. فالجاني لا يستحق إلا المواجهة والعقاب، والطفل لا يستحق إلا الأمان والدعم.
لكن التعافي ممكن. نعم، الطفل قادر على استعادة ثقته بنفسه وبالعالم، إذا وجد في والديه سندًا، وفي المجتمع حماية، وفي العلاج النفسي وسيلة للشفاء. إن الجريمة لا يجب أن تكون نهاية الطريق، بل بداية لمعركة استرجاع براءة الطفل.
حماية الأطفال من التحرش ليست رفاهية، بل واجب. واجب يبدأ من البيت، ويكبر بدور المدرسة، ويترسخ في الإعلام، ويُترجم في القوانين الرادعة. إنها معركة كل من يحمل في قلبه ذرة إنسانية، وكل من يريد أن يرى الأطفال يكبرون وهم مرفوعي الرأس، لا منكسة.
الطفولة خط أحمر، وجسد الطفل حصن لا يُقتحم، وكرامته راية لا تُنكس. فلنحميهم، ولنتحدث عن الجريمة، ولنكسر حاجز الصمت، حتى لا نبكي على ضياع البراءة بعد فوات الأوان.
وبصفتي استشارية في الصحة النفسية، أقولها لكم بوضوح موجِع: كل طفل يتعرض للتحرش هو مشروع إنسان محطم إذا لم يجد من ينتشله في الوقت المناسب. الجريمة لا تتوقف عند جسده، بل تمتد لعقله وروحه ومستقبله. فلا تتهاونوا، ولا تؤجلوا المواجهة، فالتدخل المبكر ينقذ روحًا بأكملها من الضياع.
وأخيرًا، إلى كل أب وأم: أنتم خط الدفاع الأول عن طفلكم، أنتم الحصن والسند. ثقوا في حدسكم، اصغوا لهمسات أطفالكم، لا تستهينوا بأصغر إشارة، وازرعوا فيهم الثقة ليحكوا لكم كل ما يخيفهم. الوقاية تبدأ بكلمة، والحماية تُبنى بحوار يومي، والاستجابة الفورية هي الفارق بين طفل محطم وطفل نجا واستعاد براءته. لا تنتظروا حتى تقع الكارثة، كونوا الأمان قبل أن يُسلب الأمان.
ودمتم بخير..