قبل آزاد كان آدم محتشدًا بأفكاره ومعتقداته، متشابكًا بتجاربه كغابة أمازونية لا تكاد تصل الشمس إلى أرضها، تحتاج أنثـاه إلى شجاعة صلبة وجرعات وقائية من القوة والصبر والقدرة على امتصاص الثورات والإستجابات المختلفة لمنعطفاته النفسية وتقلُّباته المزاجية، فلذلك الساحر درامـا خاصة به، فحين كان في الثانية والعشرين من عمره تنبَّهت رجولتـه على رحيق قبلات ناريـة في زاوية البيت نهارًا أو في غرفتها ليلًا، غشيته الهمهمات وشهقات المتعة ولمسات الإثارة وكأنه استوى للتو رجلًا، أحسَّ فجأة أن جسده نبض بالشهوة فصار يتحرك لاهثًـا أو يقفز ملاحقًا "إيما "، خادمتهم الأفريقية السمراء التي تتحرك صباحًا وقد غلَّفها الأدب والاحتشام، تنزعج بشدة إذا سقط عنها منديل رأسها فتسارع إلى إعادته إلى موضعه الصحيح وربطه بإحكام، وفي جنح الليل وحين يخلد الجميع إلى النوم يتسلل "آدم" إلى غرفتها منتشيًا بالفضول، فيُحرك مزلاج الباب الذي تركته دون أن تُغلقه بالمفتاح كما شدَّدت عليها سيدتها، فيجدها قد توسطت سريرها عارية تماما مستلقية في إثـارة تزلزله وقد اختفى خجلها ووقارها، يقترب منها وقد تهدَّجت أنفاسه فتنتصب في زهـو ودلال تناغش قلبه برقصها الوحشي مستعرضة في فخـر مفاتنها الأنثوية الفتَّاكة وقد زادها سمارها فتنة وإثارة وكأنَّها تمثال مرمري من رخام منحَه سوادُه إجلالًا ونُـدرة، تمثال غـدا لينًـا بين يديه، أنثى مثيرة بلحمها وشحمها، أنثى برائحة خشب المسك لها مذاق فريد كفاكهة استوائية ذات حنطة تسيل شهدًا، فلا يفارقها إلا مع طلوع الفجر وقد أنهكتهما ليلتهما الحمراء، ثلاث سنوات قضاها آدم في أحضان "إيما" يعربد كيف يشاء دون قيد أو وعد، سنوات من المتعة الخالصة دون تطلعات أو خيبات حتى فاجأته بجنينٍ تحمله في احشائها، قطعة منه نبتت هناك في رحمها دون علمها ودون إرادته، عيون تغمض وأمنيات ترتفع إلى السماء بحثًـا عن خلاص من ذاك المأزق وتلك الفضيحة، رافقها سرًا إلى طبيب متخصص للتخلص من آثار الجريمة، وقف يتأمل خيبته وضعْفها حين اعتـذر لهما الطبيب معلنًا إستحالة إجراء الإجهاض ففيه خطر داهم على حياة "إيما"، لقد أتم الحمل شهره الرابع، طمأنها "آدم" وأقسم لها أنه سيجد للأمر مخرجًا آمنًـا، وفي الظلام ألقى بجسده المشدود فوقها للمرة الأخيرة يُودعها بطريقته، تنسكب بصماته فوق جسدها بإنسيابية طمأنتها، همهمات مبهمة مختلطة بصراخ لذيـذ وتأوهات ألـذ تُصدرها إيما في نشوة بينما يسري بكاء خفيت ذو طعم مريـر داخل آدم، أمسية طويلة فاجرة تعددت فيها اللقاءات دون اخفاقات أنهاها صباح فاتـر رحلت فيه "إيما" عن دنياه إلى الأبـد إثـر تجرعها لكأس من خمرعتيق سكبه لها ممزوجًا بتركيبة فريدة فتَّاكة حضَّرها له "شادي" صديق عمره، طالب الصيدلة العبقري لتُعلن التركيبة فعاليتها وترحل إيما في صمت إلى عالم لا عودة منه، وبطريقة ما ساعدته كل الظروف المحيطة للتخلُّص من الجثة وآثـار المعركـة، شعر بطمأنينة منبعها إحساسه الكاذب بأن السماء تتعاطف معه وتستره، فوالديه في رحلة عمرة، كما ساعده وضع والده وسمعته كلواء شرطة على إنهاء كافة إجراءات دفـن الخادمة بهدوء ودون أدنى مجهود وتـمَّ إخطار السفارة بالأمر وإنهاء ذلك الفصل المرعب من حياته بأسلوب خاص لكاتب ذو خيال خصيب، عرف كيف يُخْرِج مشهد النهاية دون أن يطوله الشك أو تشير نحوه أصابع الإتهام، فلا يمكن أن يفتـش أحدهم وراءه فلا حاجة لذلك..
ف"إيما"تنحدر من قبيلة "كونسـو" إحدى قبائـل جنوب إثيوبيا والتي تُزوج فتياتها فـور بلوغهن الخامسة عشر، لكن زوجها الشاب مات مقتولًا في إحدى المعارك الطاحنة التي جـرت بين قبيلته وأخرى من تلك القبائل المنتشرة حول نهر "أومـو" حيث موطن "إيما"الأصلي؛ فورِثها والده طبقًا لعادات القبيلة وقوانينها، فوجدتْ نفسها بين عشية وضحاها زوجة لرجل يكبرها بنصف قرن تُشاركها فيه أربع زوجات أخريات يطوف عليهن الرجل كلما ألحت عليه شهوته؛ كرهت "إيما"قبيلتها التي جعلتها إرثًـا وتركـة، تنقلها من رجل إلى آخر دون إرادتها، هربت بمساعدة إحدى جمعيات التبشير التي تحاول نشر المسيحية بين تلك القبائل الوثنية، وفي خطوة لاحقة فرت إلى مصر عن طريق مكتب لاستقدام العمالة الإثيوبية وحظيت السمراء الجميلة بشرف الخدمة في فيلا سيادة اللواء "أنور الصوَّاف" مساعد أول وزير الداخلية، وهكذا استقرَّت الخادمة الزنجية في أحضان ابن سيادة اللواء..
متى وكيف ولماذا كان ما كان...؟
لا يدري "آدم" لكنه بعدها صار شيئًا آخر، شعور مشحون بالحسرة والحنين والندم المرير جعل منه مؤلفًا وقاصًا عبقريًـا ذو نمط غامض فـذ، غياب طويل داخل دهاليز رواياته طهَّره من حسرته وخلَّصه من شعوره بالنـدم، أو هكذا خُيّـِل له، ثلاثون شهرًا بعد تلك الواقعة تمَّت حين احتفل آدم بزفافه إلى "جيرمين الأباصيري"، الإبنة الصغرى لأحد الوزراء المهمين، زواج رتَّبه العقل والمنطق ووافق هوى ورغبة الأسرتين، لقـاء فتعـارف، خطبة شهرين ثم حفل زفاف فخيـم امتـد إلى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي شهده صفوة المجتمع وعلية القوم في أكبر فنادق القاهرة، وفي جناح العروسين تمدَّد آدم على مقعد وثير ينفث دخان سيجارته الأزرق ويتأمل زوجته الحسناء وهي ترتب خصلات شعرها الناعم المنسدل في غرور إلى نصف ظهرها، شقراء طويلة، عينان زيتونتان، فـم صغير قاني شهي كحبة الكرز، أنف دقيق شامخ في تناسق، اقتربت منه في تودد فباغتها، خطفها بين ذراعيه وألقى بنفسه فوقها على سرير فُرش بالورود الحمراء؛ فضحكت في خجل وتوقع مُرضي لما هو آت، لكنه سرعان ما ابتعد ونزع نفسه مِن فوقها، غمره إحساس مرعب حين استوت تحته "إيمــا"، هكذا تحوَّلت الشقراء البضة إلى تلك السمراء الغجرية، يبدو أن ذاكرته صارت سجينة تجربته معها بكل تفاصيلها، كاد يختنق وحاول عبثًـا أن يُعبِّـر عن ذاتـه ويُرضي عروسه في ليلتهما الخاصة لكن عذاب أخرس أجهزعليه فنــام كمــدًا.
لم يكن يدري أنه ملتهب بتلك التجربة، مهموم بها إلى هذا الحد، دون وعيه ودون إرادته سكنته الافريقية السمراء وتعمقت جريمته داخله، حاول جاهدًا نسيان تلك المرارة وتجاهل عذاباتها، وبمرور الأيـام وبمساعدة صديقه "شـادي" تجاوز ألمه وبلغت سعادته عنان السماء حين زفت إليه العروس نبـأً سعيدًا، فقد استقر وليده في آحشائها، تنهَّد الصعداء فقد انشغلت عنه "جيرمين" بحملها الذي نبَّهها الطبيب إلى عدم استقراره وحذَّرها من كل ما قد يعرضها لفقـده، فابتعدت عن آدم جسديًا وقلَّت لقاءاتهما الحميمية حرصًا على الحمل وحفاظًا على الجنيـن المنتظر، ثم ما لبثت جيرمين أن واصلت ابتعادها عن زوجها وانشغالها الدائم ب"عمـر" منذ أن أعلن بصراخه عن مجيئه إلى الدنيا فصار قرة العين وبطانة القلب..
خمس سنوات مرَّت ولم يشعر "آدم الصواف" بعاطفة تربطه بجيرمين ابنة الحسب والنسب، تربية السكركير ومدارس الراهبات، تنام إلى جواره دون أن تهفـو نفسه إليها، تضع رأسها على ذراعه لتنام فإذا به يُعيدها إلى وسادتها دون أن يـرف له قلب، ثمة علاقة إنسانية وحيدة تجمعه بها، لا جسر بينهما غيره، إنه "عمـر" قطعة الحلوى الوحيدة في حياته، وجيرمين أمـه ويالها من أم رائعة حقـًا، تُلازم وحيدها وتشرف على حاجياته بنفسها رغم وجود مربية متخصصة أُستُقدمت خصيصًا من بلاد الإنجليز تعاونها أخرى مصرية..
وليلة عيد ميلاد "عمـر" الرابع تعكَّرمزاج آدم بشدة، جرت مشادة كلامية عنيفة بينه وبين زوجته حين اتهمته بالبرود ووصفته بالأنانية والفظاظة، فلا لأحد عنده من مكانة ولا خاطر، حتى "عمر" فقد أهمله ولم يعد يُجالسه أو يرافقه إلى تدريب السباحة، لم ينفذ وعدًا قطعه للصغير بحضور التدريبات، لم يعد حريصًا على أن يلعب معه "كرة القدم" هوايته المفضلة، لقد انصرف عنه تماما إلى رواياتـه وشخوص قصصه وحكاياته منذ أن صارت روايته الأخيرة "صيد الضِّباع" حديث وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وسجَّلت مبيعاتها أرقامًا قياسية، وهاهو قد وقَّع عقدًا مع كبرى شركات الإنتاج لتحويلها إلى فيلم سينمائي، لقد انشغل عن فلذة كبده بنجاحاته وأحلامه وطموحاته، توفَّت والدته ودُفنت وهو في خلوته السنوية في جُزر المالديف، وفي نزهته يعتزل العالم ويُغلق هاتفـه المحمول ويصعب الوصول إليه، يغوص في أعماق ذاتـه ولا يطفو على السطح إلا حين يريـد، ببساطة حين يرغب!
آلمـه حديث زوجته وامتزج داخله بأشواك زرعها ضمير يؤنبه حقًـا، تصرخ جيرمين وتلقي في وجهه سيلًا لا ينقطع من الإتهامات بينما يصرخ هو بما عنده من قوة مناضلًا للإبقاء على دفاعاته النفسية حيَّة وحواسه مستيقظة حتى لا تنال جيرمين منه وتغرس سكينًا عكرًا في نفسه؛ فتصيبه بالضعف ويعترف بالتقصير ويُقـر بالذنب بينما المجهول يحيط بعلاقتهما من كل جانب، أوشكت المشادة أن تتطور لولا "شــادي" الذي كان حاضرًا للواقعة، فهو الصديق الصدوق والقاسم المشترك الأعلى لجلسات الصلح التي يعقدها "آدم" مع زوجته بين حينٍ وآخرطلبًا للهدوء وراحة البال، لقد تقبلت "جيرمين" وجود شادي في حياتها كصمام آمان لعلاقتها بآدم الذي صار عصبيًا أهوجًا وقد يفاجئها بالطلاق الذي تخشاه، رضيتْ بشادي كما رضيتْ بآدم، "مكتوب عليها" أن تتعامل مع زوجها ومزاجيته وحدة طبعه وشراسة توتره عن طريق صديق، "فِلتـــــر" يمتص غضب زوجها وثورته وعدوانيته أحيانًـا ثم يُمرره إليها رزينًا لينًـا وقد سكنه الهدوء بفعل الكأسين أو الثلاث أو العشـر التي يتبادلها الصديقان في بهو الفيلا أو في "الصومعة"، غرفة خاصة أثَّثها آدم في الطابق تحت الأرضي يعتصم فيها لبضعة أيام إن أراد أو ينزوي فيها لبعض ساعات حين يؤرقه شيء أو يشغله شاغل، تنبعث في آرجاء الغرفة سحابات كثيفة من سجائرغليظة ممتلئة أخبرها ذات مساء أنها حشيش، تغاضت جيرمين عن الأمر، فللرجال دومًا نزواتهم ولا ضرر أن تكون النزوة سيجارة وكأس، كل ما كانت تبغيه هو أن يتوقف آدم عن تجاهلٍ يؤلمها، مازالت تأمل أن يستمر زواجهما ربَّما لعشر سنوات أخرى أو يزيـد، وأن تنجب أطفالًا يشتد بهم عضد ابنها فلا ينشأ في الدنيا وحيدًا كما نشأتْ هي أو كما نشأ أبوه، لم يكن يفزعها الطلاق في حد ذاته إنَّما كان جل فزعها من تبعاته وآثاره المُمَزِقة لنفسية طفلها، لقد عانت من تلك التبعات طويلًا حين انفصل والِداها ثم تزوَّج كلاهما من غيرالآخر وهي لم تكمل الثامنة بعد، تشتت مؤلم وتمزق جارف وطفولة تفوح منها رائحة العوز والحاجة إلى الآمان والألفة والإحتواء، تكره تذكُّر سنوات طفولتها، تكره التفاصيل والنبش في صناديق الذاكرة، يمكنها أن تحتمل جنون آدم ورعونته، لكن لا يُمكنها تصور أن يمـر صغيرها بما مرَّت به وأن يعاني ما عانته ويظل يحمل حقيبته متأرجحًا كبندول الساعة بين بيتي والديـه، يأكل هنا ويستحم هناك، يرسم هنا ويكتب هناك، مشاعر ممزقة وأحلام استقرار ذابلة لا نهاية لها فالتراب يدفن كل شئ إلا عذابات الصغـــار.
شريط سريع من الذكريات والتفاصيل المؤذية مرَّ أمام عينيها سريعًا جعلها تلملم أطراف حدتها وتتراجع بحكمة عن ثورتها اللحظية ضد آدم خوفًا من تماديه في الغي والغضب فيقع ما لا تبغيه؛ وافقت فورًا على اقتراح عرضه "شادي" على الزوجين لإنهاء ما بينهما من خلاف وللاحتفال بعيد ميلاد عمـــر، شيء بسيط لكنه مبهج جدًا يُقدِّمانه للصغير، فمن المؤكد أنه سيكون سعيدًا إذا استيقظ صباحًا فوجد نفسه في دهب أو الغردقة، كم تمنَّى "عمـــر" تلك الإجازة وكم رغب في تلك العزلة، وحده مع والديه والكرة على شاطئ البحر..
كانت عقارب الساعة تُشير إلى الثانية صباحًا حين تحرَّك آدم بسيارته نحو "دهــب" تنفيذًا لمقترح شادي وحرصًا على رأب الصدع مع جيرمين ومن أجل عيون عمر يهون كل شيء..
عجلات السيارة تنهب الطريق نهبـًا، أراد آدم أن يفتح الصغيرعينيه على منظر بديع حين تشق الشمس حجاب الظلام معلنة عن ولادة يوم جديد على شاطئ البحر، نبَّهته جيرمين أنه قد تجاوزالسرعة المسموح بها، نبَّهته مرارًا، لا ضرر في الوصول بعد الشروق بساعة أو أكثـر، ألحَّت عليه، رجتـه اختزال السرعة لكنه زادها، كان منتشيًـا بنظرات القلق والخوف التي تشع من عينيها، تضخ رجاواتها الإدرينالين في دمه ويتعاظم مع توسلاتها إحساسه بالسيطرة على الموقف، وفجأة انفلت مقود السيارة من بين يديه وفَقَـد تحكمه بها تمامًا، وفي لحظة ارتطمت سيارته بالرصيف وقفزت بهم إلى الاتجاه المعاكس فدهستها شاحنة كبيرة جاءت مسرعة دون توقع مسبق لما جرى...
ولأن السعـــادة عيـــد غيـر ثابـت التاريــخ، انتظرونـــــي؛ فللحديـث بقيـــــة!