ما أقسى الحياة حين نكره مَن نعشق، حين نُجادل مشاعرنا ونُدمي قلوبنا ونُشقي أنفسنا، نختار الفشل هربًـا ممن نحب، نقضي أيامنا في صحبة الألم والحسرة والوجع ونرتضي ذلك صاغرين...
رهــــــــــــــــــــــف
( الجزء الثانــي):
كانت أمي تؤمن بالمقولة التي ترى أن التوأم يعانون دومًا من نفس الأمراض، وأنهم يتفقون في المشاعر والأحاسيس والأهواء، تجمعهم طريقة التفكير نفسها حتى لو لم تتم تربيتهم في مكان واحد وفي ظروف واحدة، فالتوافق الفكري ووحدة المنشأ داخل الرحم تؤلف وتجمع شتاتهم، هكذا قرأت ماما في العديد من الكتب؛ فتوقعت أن تتطابق صفات توأمها رهـف وجومانة، وصدقت توقعاتها خاصة بعد تلك الواقعة التي مرت بنا حين كنا في السابعة من عمرنا والتي دفعت أمي لتؤمن بشدة أننا كيان واحد لا ينفصم، روح واحدة في جسديـــــن!
حينها سافر أبي إلى الأسكندرية في مهمة عمل مفاجئة، ولارتباطي الشديد به أصررت على مرافقته إلى هناك في حين بقيت رهـف مع أمي العزيزة، وفي مساء اليوم التالي لوصولي وأبي إلى نُزلنا الصغير في المعمورة تلقينا مكالمة من ماما وإذا بها تبكي بشدة وتسأل في لهفة عن أحوالي وصحتي وتريد إجابات بدقة متناهية، استفسر أبي عن الأمر، فإذا بها تخبره أن رهـف مصابة بحمى شديدة الوطأة وحراراها المرتفعة تقاوم كمادات الماء والأشربة الخافضة للحرارة التي تصبها ماما في فمها صبًّـا كل أربع ساعات، طمأنها أبي أنني بخير ولا أعاني شيئًا، فلا داعي للانزعاج والتوتر والقلق الذي قد يدفعها إلى مزيد من الاجراءات التي لا داعي لها، طلب منها الهدوء والانتباه جيدًا لتطورات حالة رهـف، وأنه سيعود إلى القاهرة بعد يومين على الأكثر، وفور انتهائه من مهمته العاجلة وستكون رهـف بخير حال حينئـــذ... وضع أبي الهاتف جانبًا واحتضنني بقوة، كنت أغوص في حضنه الواسع بأمان، أتجرع كأس حنانه الهادئ المتدفق دون إفراط، فإذا بي أسمعه ينادي على مريبتي، دادة زينب، التي أصرت أمي على إرسالها معنا لتعتني بي عناية فائقة وتحرص على
إطعامي وتنظيم مواعيد نومي وشئوني كافة وأنا بعيدة عن عينيها، فلا طاقة للرجال على رعاية الأطفال وخدمتهم على النحو الصحيح مهما حرصوا على ذلك!
سمعت بابا يسألها الإسراع إلى الصيدلية لإحضار شراب خافض للحرارة وأكياس جيلاتينية مُعدة خصيصًا لهذا الغرض، لقد استشعر حرارتي المرتفعة فور ملامسته لي، نعـــــــــــم، لقد أُصبتُ أنا أيضًا بحمى شديدة وارتفعت درجة حرارتي بشكل مفاجــئ!
ثم كانت حادثة أخرى بعدها بثلاث سنوات حين سقطت رهـف في فناء المدرسة وشُـج جبينها، بينما أنا لم أذهب للمدرسة يومها متعللة بوعكة صحية، إلا أنني أُصبت بنوبة حادة من الصداع النصفي على غير العادة، هاجمتني النوبة بضراوة وكشر الصداع عن أنيابه بشراسة؛ فالتهم رأسي الصغير التهامًا حتى إنني تدحرتُ من فوق الدرج الذي يصل بين طابقي الدار، سقطتُ وكأن روحًا شريرة دفعتني بقوة وعنف لأسقط ويُشج رأسي أنا أيضًا، وها هي أمي تُسرع إلى طبيب التجميل ذاك المساء ليعالج القطعين بما يراه مناسبًا فلا يتركا أثرًا في جبهتينـــا..
قدم الطبيب لأمي تفسيرًا لما حدث معنا، أخبرها أن الدراسات الطبية والنفسية قد استقرت إلى أن التوأم قد يعاني من نفس الأمراض التي يعاني منها نصفه الآخر بشكل إرادي أو لاإرادي سواء الأمراض العضوية مثل نوبة الحمى تلك نظرًا لأننا نشترك في الجينات والاستعداد الوراثي أو حتى في الأمراض النفسية لا قدر الله، أما واقعة الإصابة فيالرأس التي تعرضت لها أنا ورهـف فالأمر ليس أكثر من توارد خواطر ووحدة مشاعر تربط بين التوأم في الغالب، فلا داعي للقلق، فالجميلتان بخير والقطع لن يترك أثـرًا في أي منا إن شاء الله..
نعـــم، كان هناك تشابه يجمعني بنصفي الآخر، ليس التشابه في الشكل هو ما أعنيه بل التماثل في الأفكار، الصفات، المشاعـــر أيضًـا.. ففي طفولتنا كنا نستمتع بحالة التربط الروحي التي تجمعنا، فحين كانت أمي تعاقب إحدانا على أمر كانت الأخرى تتذمر تعاطفًا مع شقيقتها، ففي إحدى المرات عُوقِبت رهـف على درجة واحدة خسرتها في امتحان اللغو الانجليزية وهي التي لم تعتد على ذلك، وجدتني أمي أبكي بحرارة وأرتعد، سألتني: لما البكاء هذه المرة يا جومانة وأنتِ معتادة على أن تخسري قدرًا من الدرجات بسلاسة ولا تغضبين؟، هل استيقظ ضميرك وقررت الحصول على مجموع أكبر هذا العام؟!
فوجئت ماما أنني أبكي لأنها عاقبت رهـف، طالبتُها أن أشاركها العقاب، وأن أُحرم أنا أيضا من الخروج والتنزه لعشرة أيام كاملة!
علقت أمي مندهشة: عجيب أمرك يا جومانة، مادمتِ نسخة مكررة من رهـف فلم لا تقلدينها في تفوقها الدراسي واهتمامها الرياضي وحرصها على تعلم الموسيقى؟، لما لا تشغلين نفسك ووقتك بما يفيـد بدلًا من هذا الانخراط الكامل في عالم الانترنت، والفيس بوك والمسلسلات الكوريـــة اللعينـــــة، لمـا يا صغيرتي، لمـــــا؟!
نعـم، كانت الدراسة هي أول مفترق بيني وبين شقيقتي، نعم، ثم نعم، وألف نعم، أحب رهــــف جدا وكان وجودها في حياتي يمنحني ثقة في نفسي وثقلًا لكياني، إلا أنه وبمرور السنوات بـدا الأمر مختلفًا، بدأت كل منا في الانصراف بحياتها نحو طريقٍ مختلف، أردت الاحتفاظ برهـف في حياتي دون أن تُنزع مني نفسي وتختفي رويدًا رويدًا لتنتهي الحال بي كظـلٍ لشقيقتي، مجرد ظـل يلازمها، ولا يفارقها أبـدًا...
أحببتُ رهـف ولكني لم أحب انسياقي خلفها وانغماسي في كل ما تحب هي، الدراسة، الرياضة، البيانو، أردتُ أن أكون قادرة على صُنع عالمي حتى وإن كان باهتًـا لا زينة فيه، ليس براقًا مبهجًا كالعالم الذي صنعته رهـف بارادتها، كانت قادرة على تحريك القلوب الساكنة، وانتزاع نظرات الإعجاب ممن حولها، ليس إعجابًا بالمظهر فقط، فالمظهر أشاركها أنا فيه، لكنه إعجاب يتصل بذات جوهرها القادر على الوصول إلى غايتها وامتلاك كل ما تريـد وقتما تريـد!
وحدها كانت قادرة على إقناع أمي بأي شئ وكل شئ مهما كان إعتراضها أو رفضها جليًـا واضحًا من البداية، كرهت أن استغلها أو ادفعها نحو إرادة أمي لتخطف لي كارت موافقتها أو تشجيعها لي على أمـر أردتــه؛ رغبت في ممارسة الكاراتيه أو الملاكمة، رفضت ماما بشدة وكان بأمكاني توسيط رهف لتنهي الأمر لصالحي لكن نفسك أبت امتهان اخوتنا فاخترتُ الابتعاد والانزواء هناك في أحد الأركان التي تحمل كل ما هو مُهمش أو غير ضروري، هناك بجوار كل ما يُمكن الاستغناء عنه، وكلما واجهتني أزمة أو مشكلة أو كلما تعين علي مواجهة رهـف أتركها وأنصرف حتى لا اصطدم بها، أنسحب قبل أن أرى في عينيها ألمًـا أو لومًـا أو ظلالًا لأفكار سلبية عني أو عن علاقتنا معًـــا..
الجزء الثالث قريبا